الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أتعجب من هذا الكلام، لأن الشاذ: ما رواه الثقة مخالفًا لم هو أرجح منه، وهنا لم يرد عن الثقات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبسط يديه اليمنى على فخذه اليمنى، لو ورد لقلنا: هذه شاذة، وما دام لمن يرد فإننا نقول لمن قال: إن اليد اليمنى توضع على الفخذ مبسوطة كاليسرى نقول: عليك بالدليل، لم يرد في أي نصٍ مما اطلعت عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس بين السجدتين يضع يده اليمنى مبسوطة، وهذا واضح، وكنت أرى- فيما سبق- أن اليد اليمنى تكون مبسوطة بين السجدتين، وتكون في التشهد مضمومة الأول والثاني، وأقول: إن حكمة الشارع أنه جعل لكل جلسةٍ خصيصة، فالجلسة في التشهد الأخير لها خصيصة ما هي؟ التورك، الجلسة في التشهد الأول لها خصيصة عن جلسة ما بين السجدتين، وهي ضم الأصابع، والجلسة التي بين السجدتين تكون اليد مبسوطة، فتكون كل جلسةٍ لها مزية، وهذا قياس نظري، لكن لما رأيت صاحب زاد المعاد ابن القيم- رحمه الله ذكر أنه يضع اليد اليمنى بين السجدتين كما يضعها في التشهد، واستدل بحديث وائل بن حجر الذي ذكرته في المسند، قلنا: النص مقدم على القياس، وموقفنا أن نتبع ما جاءت به السنة.
أسئلة:
- هل يجوز للإنسان عند السجود أن يقدم يديه؟
- أين تكون اليدان في حال القيام؟
- أي تكون اليدان عند السجود؟
- أين تكون اليدان عند الجلوس؟
صيغ التشهد ومعانيها:
300 -
وعن عبد الله ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، اشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو". متفق عليه، واللفظ للبخاري.
- وللنسائي: "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد".
هذا الحديث روي عن عبد الله بن مسعودٍ على وجهين:
الوجه الأول: ما ذكره المؤلف.
والثاني: قال: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفي بين كفيه كما يعلمنا السورة من القرآن".
وهذا أبلغ، لأن قوله:"علمني" ثم قال: "كفي بين كفيه" يدل على عناية النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، يعني: كأن الرسول أمسك بكف ابن مسعودٍ وجعلها بين كفيه من أجل أن ينتبه.
"كما يعلمنا السورة من القرآن" يعني: اعتنى بهذا اعتناءً بالغًا، أما اللفظ الثاني فهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم التفت إلى أصحابه وقال:"إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله"
…
إلخ.
قوله: "إذا صلى" لم يبين في هذا اللفظ موضع هذا التشهد، لكن بين في ألفاظٍ أخرى أنه في التشهد، وقوله:"فليقل" اللام للأمر، وتسكن بعد الفاء كما هي القاعدة.
"التحيات لله""أل" للاستغراق، أي: جميع التحيات لله، و"التحيات" جمع تحية: وهي: الإكرام والتعظيم وما أشبه ذلك.
وقوله: "لله" اللام هنا لها معنيان المعنى الأول: "الاختصاص، والمعنى الثاني: الاستحقاق، أما الاختصاص فلا أحد يقال له التحيات على العموم، وأما الاستحقاق، فلأن الله- تبارك وتعالى أحق من يحيا، فاللام هنا دالة على معنين: الاختصاص والاستحقاق، و"لله"تبارك وتعالى اسم رب العالمين- جلا وعلا-، و"الصلوات" الواو حرف عطف جملة على جملة، وليس عطف مفرد على مفرد؛ لأن الجملة الأولى تامة لقوله: "التحيات لله"، وعلى هذا نعرب "الصلوات والطيبات" على أنها مبتدأ والخبر محذوف؛ أي: "والصلوات لله والطيبات لله، ولا يصح أن نقول: إنها معطوفة على التحيات، لأن هذه الجملة "التحيات لله" استكملت أركانها.
"الصلوات" ما المراد بالصلوات؟ هل المراد بالصلوات: الدعوات؛ يعني: أنه عز وجل هو أحق من يدعى، أو المراد بالصلوات: العبادة المعروفة؟ من حيث اللغة: يحتمل المعنيين، لكن من حيث الدلالة الشرعية لا يحتمل إلا المعنى الثاني وهي العبادة المعروفة، ويؤيد ذلك أمران:
الأمر الأول: أن معنى الصلاة في اللغة نقل إلى معنى شرعي فصار له حقيقة شرعية؛ وهي العبادة المعروفة، فيجب أن تحمل الصلاة على المعنى الشرعي؛ أنها نقلت.
الأمر الثاني: أن هذا التشهد في الصلاة، فكان من المناسب ذكر الصلاة على وجه الخصوص، وهذا الأمر الثاني خاص بهذه المسألة؛ أما الأول فهو عام، كلما دار الأمر بين المعنى اللغوي والشرعي في لسان الشارع حمل على المعنى الشرعي، إلا أن يفسر من عند النبي صلى الله عليه وسلم فهنا نأخذ بما فسره مثل قوله تعالى:{خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها وصلي عليهم} [التوبة: 103]. هذه معناها: الدعاء وليس معناها: العبادة المعروفة، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال:"اللهم صل عليهم".
"والطيبات" الطيب: ضد الخبيث، وضد ما ليس بطيبٍ ولا خبيث، فما هي الطيبات؟ الطيبات تشمل أشياءً كثيرةً لا تحصر.
أولًا: الطيبات من الأوصاف كلها لله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا".
ثانيًا: الطيبات من الأفعال، فكل أفعالٍ لله طيبة، حتى الأفعال التي يكون فيها ضرر على قومٍ هي في الحقيقة طيبة لما تتضمنه من الحكمة.
المعنى الثالث في الطيبات: الطيبات من الأعمال، فلله الطيبات من العمال، وأما الخبائث فلا يقبلها الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا" وأما الخبيث فلا يقبله.
ثم قال: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" هذا سلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه هل هو السلام الذي هو التحية المعروفة بين الناس؟ الجواب: لا، ولذلك لا يجهر الصحابة بهذا حتى يرد الرسول- عليه الصلاة والسلام، ولو كان هو السلام بالخطاب المعروف لأبطل الصلاة، لكنه دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلامة.
فإن قال قائل: إذا كان دعاء فما فائدة الخطاب: السلام عليك أيها النبي؛ لأنه إذا كان دعاء فالدعاء للغائب؟
فالجواب: أن هذا يدل على قوة استحضار الداعي، كأنما النبي صلى الله عليه وسلم أمامه يخاطبه، ولذلك نقول: إن هذا الدعاء بهذا اللفظ باقٍ إلى يوم القيامة كما سيأتي في الفوائد.
وقوله: "أيها النبي": هذا منادى حذفت منه ياء النداء، والأصل: يا أيها النبي، و"النبي" يقال: النبيء، ويقال: النبي وهو الأكثر، أما على الوجه الأول:"النبيء" فهو فعيل بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول، لأن كلمة فعيل نأتي للمعنيين جميعًا، إذا جعلناه بمعنى: فاعل صار معناه: المنبئ عن الله عز وجل وإذا جعلناه بمعنى: مفعول صار المعنى: المنبأ من الله، وكلا المعنيين صحيح ما دام اللفظ يحتمل هذا وهذا، وهو صادق بالمعنيين، فليكن للمعنيين، فإن قلنا:"النبيء" اسم مفعولٍ بمعنى: الذي أنبأه الله أو اسم فاعلٍ بمعنى: الذي ينبئ عباد الله بما أوحى الله إليه فهذا كلاهما صحيح لقول الله عز وجل: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم* وأن عذابي هو العذاب الأليم} [الحجر: 49 - 50]، أما إذا كانت بدون همزة النبي فقيل: إنها بمعنى المهموز، ولكنها حذفت الهمزة تخفيفًا، وقيل: إنها بمعنى الرفيع الشأن الرفيع المنزلة، وأنه مشتق من "النبوة" لا من "النبأ" ألا يمكن أن نقول في النبي بدون همز: إنه صالح للمعنيين؟ جميعًا؟ بلى، يصح، فنقول: هو رفيع المنزلة: وهو منبئ من الله، وهو منبي لعباد الله، إن النبي صلى الله عليه وسلم يوصف بأنه نبي ويوصف بأنه رسول كما قال تعالى:{محمد رسول الله} [الفتح: 29]. وقال: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67].
السلام ما معناه؟ معناه: الدعاء له بالسلامة من كل مؤذٍ.
إذا قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم سالمًا من كل مؤذ؟
فالجواب: بلى، لكن قد يأتيه الأذى، ولهذا كان دعاء الرسل يوم القيامة عند الصراط:"اللهم سلم سلم"، فهو معرض للأذى. هذه واحدة.
ثانيًا: السلامة من الأذى أو العدوان، عليه لئلا يعتدي أحدٌ على قبره، وقد وقع هذا: حاول اثنان من الملاحدة أن يتوصلوا إلى جسد النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذاه ذكروا أن بعض الخلفاء رأى في المنام وهو في بلد الخلافة، أن شخصين يحفران خندقًا ليتوصلا به إلى الجسد الشريف، تكررت الرؤيا عليه، ففزع من هذا فزعًا عظيمًا، وارتحل بنفسه من بلد الخلافة إلى المدينة، ثم قال: ادع لي كل من كان في المسجد، أو كل من كان في المدينة، فدعاهم أي: دعوا الناس إليه، فنظر في وجوههم فلم يجد الرجلين اللذين وصفا له في المنام، فقال: ادع أهل المدينة قالوا: لا يوجد أحد إلا رجلان غريبان في المسجد فقال: عليّ بهما، فلما جاءا وجد الوصف الذي رأى في المنام ينطبق عليهما، فأمسك بهما، وحقق معهما، وإذا هما يحفران خندقًا من محلٍ بعيدٍ في الليل، ويسكنان في النهار في المسجد، ثم أمر أن تحفر الأرض التي حول القبر إلى الجبل الحصي وتصب رصاصًا لا يقدر عليه أحد، وهذا من حماية الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم.
"السلام عليك أيها النبي" قلنا: إنه السلامة من الأذى، هل يمكن أن يكون هناك أذى معنوي؟ قلنا: نعم، العدوان على شريعته لا شك أنه من الأذى، فحينئذٍ يكون "السلام عليك أيها النبي"، نسأل الله تعالى أن يسلم هذه الشريعة التي هي شريعة محمد صلى الله عليه وسلم من كل ما يؤذيها، ولهذا قال بعض أهل العلم في قوله تعالى:{إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر: 3]. قالوا: وكذلك شانئ سنته هو الأبتر، فصارت السلامة عامة في كل شيء.
"ورحمة الله" الرحمة صفة وجودية، والسلام صفة عدمية، فيدعو له أولًا بانتفاء الأذى عنه، ثم بحصول الرحمة له، فيكون إيجادًا بعد إعدام، ورحمة الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم ثابتة، ولكننا نقول هذا تأكيدًا كما أمرنا الله أن نصلي عليه مع أنه قال:{إن الله وملائكته يصلون على النبي} [الأحزاب: 56]. لكن هذا من باب التأكيد من وجه، ومن باب مصلحتنا من وجهٍ آخر، لأننا إذا صلينا عليه امتثالًا لأمر الله أثبنا على هذا، وقضينا بعض حقوقه صلى الله عليه وسلم، وحصلنا على خيرٍ كثيرٍ بالصلاة عليه، إذا صلينا عليه واحدة صلى الله علينا بها عشرًا- صلوات الله وسلامه عليه-.
"ورحمة الله وبركاته" البركات زيادة الخيرات وثبوت الخيرات؛ لأنها مأخوذة من البركة وهي: مجمع الماء، وعادةً يكون كثيرًا ثابتًا.
"السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" بدأ بالرسول- عليه الصلاة والسلام قبل النفس، لأن حق الرسول علينا أعظم من حقوقنا على أنفسنا، ولهذا الترتيب في التشهد ترتيب عجيب أولًا: حق الله عز وجل، ثم حق الرسول- عليه الصلاة والسلام.
"التحيات لله والصلوات والطيبات" هذا لله، "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" هذه للرسول، "السلام علينا" لأنفسنا، "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" هذا، عام وبدأنا بأنفسنا؛ لأن ذلك هو الأولى، ابدأ بنفسك، "وعلى عباد الله الصالحين"، وهذه العبودية الشرعية، وتشمل كل عبدٍ صالح سواء من هذه الأمة، أو من الأمم السابقة، أو من الملائكة، أو من الجن، كل عبدٍ صالحٍ يدخل في هذا العموم، "وعلى عباد الله الصالحين"، فهذه الجملة من أجمع الجمل.
"أشهد ألا إله إلا الله" أشهد إقرارًا باللسان واعتقادًا بالجنان، فلا يكفي النطق باللسان ولا الإقرار بالجنان لابد من الأمرين، إذن "أشهد" يعني: أعترف بلساني وأعتقد بقلبي، "أن لا إله إلا الله" أي: لا إله حق، وليس معناه نفي الألوهية فيمن سوى الله، لأنه يوجد من سمي إلهًا ولكنه باطل، فيتعين أن يكون المعنى: لا إله حق، فالخبر إذن محذوف وتقديره:"حق"، وقد زعم بعض المعربين أن تقدير الخبر:"موجود" أي: لا إله موجود، وهذا غلط عظيم، لأنك لو قلت: لا إله موجود إلا الله صارت الأصنام آلهة وإلهًا؛ فهذا التقدير خطأ عظيم، والذي قدره من النحاة غفلوا عن مستلزماته، فيجب أن نقدره بكلمة "حق" لدلالة القرآن على هذا {ذلك بأن الله هو الحق} [الحج: 9]. وعلى هذا يكون قوله: "لا إله" ليس خبلا "لا" بل هو يدل من خبرها المحذوف. "أشهد أن لا إله إلا الله" في نسختي: "لا شريك له" وهذا غير صحيح، "وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" أشهد بلساني معتقدًا بجناني بأن محمدًا رسول الله، ذكر باسمه فقط دون اسم أبيه وذلك للعلم به، واسم الأب أو الجد أو القبيلة إنما هو من أجل التعيين، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم متعين، وعليه إذا تعين اسم الإنسان باسم أبيه فقط يكفي.
"أشهد أن محمدًا عبده ورسوله" هذه الشهادة واجبة، "أشهد أن محمدًا عبده" أي: المتعبد له المتدلل له، وهو أشد لناس عبادةً، حتى كان يقوم في الليل- صلوات الله وسلامه عليه- حتى تتورم قدماه، ويقول:"أفلا أكون عبدًا شكورًا" ورسوله أي: مرسله على الناس جميعًا، بل إلى الإنس والجن كما قال الله تعالى:{وأرسلناك للناس رسولًا وكفى بالله شهيدًا} [النساء: 79].
قال: "ثم يتخير من الدعاء ما أعجبه إليه". "ثم ليتخير" اللام هذه للإباحة، ويتخير بمعنى: يختار: أي: يرى ما هو خير، "وأعجبه إليه" أي: أسره إلى نفسه فيدعو به.
رواية النسائي: "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد" وماذا يقولون؟ ليت المؤلف رحمه الله أتى بها، كانوا يقولون قبل أن يفرض عليهم التشهد:"السلام على الله من عباده السلام، على جبريل السلام، على ميكائيل"، وما أشبه ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام" لأنك لو قلت: السلام على الله لأوهم هذا أن الرب عز وجل يمكن أن يلحقه نقص وضرر فتدعو له بالسلامة مع أنه عز وجل هو السلام السالم من كل نقص، ولكن قولوا:"السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، فإنكم إذا قلتم ذلك سلمتم على كل عبدٍ صالح في السماء والأرض، سواءً كان من الملائكة، أو من بني آدم السابقين، أو من الجن كل عبدٍ صالح في السماء والأرض فإنه تشمله هذه الكلمة:"عباد الله الصالحين"، ووجه ذلك في اللغة: أنها جمع مضاف، والجمع المضاف يكون للعموم، بل المفرد المضاف يكون للعموم.
- ولأحمد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد، وأمره أن يعلمه الناس".
"علمه" أي: علم ابن مسعود التشهد، وأمره أن يعلمه الناس حتى لا يظن الظان أن ذلك خاص به.
في هذا الحديث فوائد عظيمة منها: مشروعية هذا الدعاء وأنه فرض، والفرض هو الشيء اللازم الذي لا انفكاك عنه، ولكن هو ركن في الصلاة أو ليس بركن؟ دلت السنة على أنه ليس بركنٍ في التشهد الأول، ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام عنه ساهيًا جبره بسجود السهو، ولو كان ركنًا لأتى به، أما في الأخير وهو الذي يعقبه السلام سواء كانت الصلاة ثنائية أو ثلاثية أو رباعية فإنه ركن لا تصح الصلاة إلا به.
ومن فوائد هذا الحديث: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حفظ السنة والعناية بها، يؤخذ هذا من اللفظ الذي حذفه المؤلف، وهو قوله- أعني ابن مسعود-:"علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفي بين كفيه كما يعلمنا السورة من القرآن"، لأن هذا القبض يوجب انتباه المخاطب، وأن يعتني بما يقال له.
فإن قال قائل: هل يمكن أن ينبه المخاطب بقبض يدٍ واحدة؟
الجواب: نعم، يمكن.
فإن قال قائل: وهل يسن في السلام أن يقبض الإنسان بيديه كلتيهما، يعني: في المصافحة، أو تكفي يد واحدة؟
فالجواب: أننا لا نعلم أن السنة جاءت إلا بالمصافحة بيدٍ واحدة وهي اليمنى، لكن جرت العادة عند الناس أنهم أحيانًا يقبضون على الكف فيكون بين الكفين، أو يمسكون الذراع- ذراع اليد- إشارةً إلى إكرام هذا المسلم، فإذا كان الإنسان يفعلها أحيانًا دون أن يتخذها سنةً فأرجو ألا يكون به بأس إن شاء الله.
ومن فوائده: أن الله- جل وعلا- مستحق لهذه التعظيمات "التحيات لله" ومنها: العناية بالصلاة، حيث خصها بالذكر بقوله:"والصلوات".
ومن فوائد هذا الحديث: أن الله عز وجل هو المستحق للطيبات لا في أفعاله وأوصافه ولا في أفعال خلقه، فهو طيب، وأوصافه طيبة، وأفعاله طيبة، فلا يقبل إلا الطيب.
ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم المقرون بـ"أل" لقوله: "السلام عليك" وقد ورد بالتنكير، لكن الذي في الصحيحين هو المعروف "السلام"، وعلى رواية التنكير يكون التنكير للتعظيم، أي: سلام عظيم عليك أيها النبي.
فإن قال قائل: هل هذا السلام- الذي يقوله المصلي- هل هو سلام المتلاقيين، أو هو مجرد دعاء لغائب؟
فالجواب: الثاني، ولهذا لا يجهر الصحابة بهذا السلام حتى يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرد، وهم أيضًا لا يشعرون بهذا فهو دعاء لغائب.
فإن قال قائل: إذا كان دعاء لغائب فلماذا لم يرد بصيغة السلام على النبي كما وردت التحيات بصيغة الغائب، :"التحيات لله" حتى يتناسق الكلام؟
فالجواب: أن الإنسان لما عظم الرب عز وجل، ومن تعظيمه تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، استحضر الإنسان بقلبه كأن النبي صلى الله عليه وسلم أمامه فقال:"السلام عليك" هذا من وجه، من وجهٍ آخر: إن الالتفات عن مساق الكلام يوجب الانتباه، انظر إلى الفاتحة:{الحمد لله رب العالمين* الرحمن الرحيم* مالك يوم الدين} كلها بصيغ الغائب، ثم قال:{إياك نعبد} لم يقل: إياه نعبد، كأن الإنسان لما أثنى على الله بهذه الأوصاف العظيمة صار كأنه استحضر ذلك بقلبه، وكأنه الإنسان يخاطب الله عز وجل.
ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز عليه الأذية أن يؤذى وأن يضر لقوله: "السلام عليك أيها النبي"، وأما السلام على الله فعرفتم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال:"إن الله هو السلام" ولا يمكن أن يلحقه نقص.
ومن فوائد هذا الحديث: ثبوت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "السلام عليك أيها النبي"، ورد في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود من طريقٍ آخر قال:"كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: السلام عليك، فلما مات صرنا نقول: السلام على النبي"، وعندي أن هذا اجتهاد من عنده رضي الله عنه، ولكنه ليس بصوابٍ من وجهين أو أكثر:
الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم عبد الله بن مسعود هذا الحديث، ولم يقيد، لم يقل: ما دمت في حياتي، بل أمره أن يعلمه الناس بهذه الصيغة.
ثانيًا: أن الذي يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا يسلمون عليه كتسليم المقابل لمقابله حتى نقول: إن المقابلة فاتت بموته، لكن يقولون ذلك على وجه الادعاء لا على وجه المخاطبة.
ثالثًا: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه علم الناس التشهد، وهو خليفة على منبر النبي صلى الله عيه وسلم بلفظ:"السلام عليك أيها النبي"، وهذا بمشهد الصحابة، وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه أحد، وهو- بلا شك- أعلم من عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه وأفقه، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن يكن فيكم محدثون فعمر"، فالصواب المتعين الذي جرى عليه الناس كلهم فيما نعلم أن كل الفقهاء على أن اللفظ الصحيح في ذلك هو:"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته".
ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مفتقر إلى رحمة الله، ولهذا شرع لنا أن ندعو له بذلك، وكذلك مفتقر إلى أن يبارك الله له في عمله، ولهذا أمرنا أن ندعو له بذلك.
فإن قال قائل: الرحمة والبركة ثابتتان للرسول- عليه الصلاة والسلام فكيف ندعو له بهما؟
فالجواب أن نقول: الصلاة ثابتة للرسول- عليه الصلاة والسلام وقد أخبر الله بها أنه يصلى على رسوله قبل أن يأمرنا بذلك، فقال عز وجل:{إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا} [الأحزاب: 56].
إذن فصلاتنا عليه ودعاؤنا له بالرحمة والبركة ليس لأنه محتاج، إذ إن هذا ثابت له، لمن من باب التوكيد من وجه، ومن باب كتابة الأجر لنا من وجهٍ آخر. ثالثًا: ولربما يكون من أسباب أن صلاة الله عليه ورحمة الله له وبركاته دعاؤنا.
ومن فوائد هذا الحديث: إثبات الرحمة لله، واعلم أن الرحمة تطلق على معنيين: المعنى الأول: أن تكون صفة لله عز وجل، وهذا كثير وهو الأصل كما قال عز وجل:{وربك الغفور ذو الرحمة} [الكهف: 58].
الثاني: أن تطلق على آثار رحمة الله لا على الرحمة بل على آثارها، مثل قول الله- تبارك وتعالى:{وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته} [الشورى: 28]. المراد: آثار الرحمة وذلك بنبات الأرض ونحوها، ومنه قوله تعالى في الحديث القدسي في الجنة:"أنت رحمتي أرحم بها من أشاء"، هذه رحمة مخلوقة من آثار رحمة الله عز وجل بالمناسبة {وهو الذي ينزل
الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته} ما المراد برحمته؟ المطر وما ترتب عليه من النبات، في سنةٍ من السنوات أتانا المطر وتدارك علينا ليلًا ونهارًا، وتهدمت كثير من البيوت هنا، حتى كان المطر في المساجد ينزل من السطح إلى الطابق الأرضي وتضرر الناس ورفع الله عنهم الضرر وأصبح بعض العوام يقول في قوله تعالى:{وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته} : إن رحمة الله هي الشمس، لماذا؟ لأنه حصل لها رفع الأذى والضرر.
ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مفتقر إلى بركة الله عز وجل، هذا وهو النبي، فكيف بنا نحن؟ نحن أشد فقرًا إلى بركة الله عز وجل من النبي صلى الله عليه وسلم بركة في العمل، بركة في العلم، بركة في الجاه، بركة في الأموال، بركة في الأولاد، كل هذا نحتاج إليه، أحيانًا يضيع الوقت على الإنسان يومًا كاملًا ما استفاد شيء فانتبه لهذا! إذا عرفت أنك لا تنتج أو لا تعمل كثيرًا فاحذر احذر احذر، لأن الله قال:{ولا تطع من أغفلنا قبله عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} [الكهف: 28]. ضائع.
من فوائد هذا الحديث: الرد على الذي يعتلقون بالرسول- عليه الصلاة والسلام يطلبون منه كشف الضر وجلب النفع، وجه ذلك أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم عبد ومحتاج إلى الرحمة وإلى البركة.
ومنها: المنحة من الله عز وجل أن يبارك في عمله وعمره وجميع أحواله.
ومنها: ما سبق في آداب الكل والشرب من صحيح مسلمٍ من لعق الأصابع، والاجتماع على الطعام، وأن يأكل من أعلاه.
ومنها: أن الإنسان إذا بورك له في شيءٍ فليلزمه، لا يبقى كل ساعةٍ له رأي، فمثلًا إذا شرع يحفظ "عمدة الأحكام" فليستمر، لا يقول: إذا أخذ ما أخذ أعدل إلى كتابٍ آخر، ومن ذلك أيضًا: أن يراجع المسألة ويتبع الفهرس يطلب مكان هذه المسألة، بعض الناس يتتبع الفهرس إذا رأى عنوانًا يعجبه أخذه ثم ترك الذي من أجله كان يطالع الفهرس، وهذا غلط، هذا يضيع عليه الوقت، ما دمت أنك تريد مسالةً معينةً لا تعدل إلى غيرها، إذا أعجبك بحث في هذا الفهرس ضع عليه علامةً وإذا انتهيت من المسألة ارجع إليه، هذا إذا أردت البركة في العلم وفي الوقت، وأما إذا كنت كلما صار أمام عينيك عنوان أعجبك تترك المسألة التي من أجلها تراجع الفهرس فيضيع عليك الوقت فهذه من البركة، المهم: أن أسباب البركة كثيرة.
مسألة: ودعاء الإنسان ربه عز وجل بالبركة ليس معناه: أن يمسك عن فعل الأسباب، يعني: إذا دعوت الله بشيءٍ فلابد أن تفعل أسبابه، وإلا كان تركك الأسباب طعنًا في حكمة الله عز وجل، إنسان يقول:"اللهم ارزقني ذريةً صالحة"، نقول: تزوج يا رجل. قال: هذا بيد الله من أين تأتي الذرية؟ من الزواج، وليست الذرية تنبت من السطح، بل لابد من الزواج أولًا؛ يقول:"اللهم ارزقني رزقًا واسعًا" وجلس نام على فراشه، وقال: الله يرزق الحيات في جحورها. نقول: هذا
غلط، قال الله عز وجل:{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولًا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} [الملك: 15]. وقال عز وجل: {فإذا قضيت الصلاة- يعني الجمعة- فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرًا} [الحجرات: 10]. فإذا كنت تريد البركة، أو أي شيءٍ تريده فافعل الأسباب، وإلا كنت طاعنًا في حكمة الله عز وجل من حيث لا تشعر.
"السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، نقول في السلام: ما قلنا في السلام على الرسول، بمعنى: أن يسلمنا الله من كل الآفات العقلية والفكرية والجهل وغير ذلك، وفي هذا الترتيب مناسبة عظيمة: أول ما في هذا التشهد هو الثناء على الله عز وجل الذي حقه هو أحق الحقوق، ثم بعد ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن حقه أعظم من حقوق الأنفس والأولاد والآباء، ثم حق الإنسان.
"السلام علينا" تبدأ بنفسك، "وعلى عباد الله الصالحين": الرابع: حق العموم، وأظن أننا نسينا أن نقول:"علينا" على من؟ قيل: على الأمة الإسلامية لأنها كواحد، وقيل: إن قوله "علينا" يعني: "من حولنا إذا كان يصلي في بيته، فالمراد: نفسه وأهل بيته إذا كان في جماعة، فالمراد: هو والجماعة.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان إذا دعا فليبدأ بنفسه، الدليل:"السلام علينا"، فبدأ بنفسه.
ومن فوائد هذا الحديث: فضيلة الصلاح: "اللهم اجعلنا من الصالحين"، كل صالحٍ يدعو له المسلمون في كل صلاة وهو لا يدري، فإذا أوصاك واحد بالدعاء مثلًا تقول: الحمد لله أنا أدعو لك في كل صلاةٍ إن كنت صالحًا، لأن الحديث يقول:"على عباد الله الصالحين".
ومن فوائد هذا الحديث: أن من عباد الله من ليس بصالح، لأنه قيد العباد بالصالحين فقال:"عباد الله الصالحين". فمن هو من عباد الله وهو ليس بصالح؟ هو من كان عبدًا لله بالعبودية الكونية القدرية لا الشرعية، كل الخلق عبيد لله عز وجل، قال تعالى:{إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا} [مريم: 93]. لكن العبد الصالح هو الذي أريد بهذا الحديث.
ومن فوائد هذا الحديث: أن اللفظ العام يشمل جميع أفراده، دليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض"، مع أن الإنسان حين يدعو بهذا قد لا يستحضر العموم، لكن نقول: اللفظ موضوع للعموم، فنأخذ من ذلك أن العموم يشمل جميع الأفراد، ولهذا قال الفقهاء: لو قال الإنسان: "بيوتي وقف" يثبت الوقف لكل البيوت؟ نعم. لأنه لفظ عام، ولكن اللفظ العام يجوز للمتكلم له أن يريد بض الأفراد، مثل قول الله تعالى:{الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} [آل عمران: 173]. من القائل؟ واحد، فالمراد بالناس هنا: الجنس لا العموم، {إن الناس قد جمعوا لكم} من الناس؟ أبو
سفيان ومن معه، فهنا أراد الله عز وجل بهذا العموم شيئًا خاصًا، وهذا ما يعبر عنه أصول الفقه بالعام الذي أريد به الخاص، إذا قال الإنسان:"بيوتي وقف"، ثم قال:"أردت من بيوتي ثلاثة" وهن ثلاثون بيتًا يقبل أو لا يقبل؟ يقبل؛ لأنه يجوز أن يريد المتكلم لا باللفظ العام بعض أفراده، ويسمى العام الذي أريد به الخصوص، قال:"نسائي طوالق" وعنده أربع يطلقن؟ يطلقن، إذا قال:"ما أردت إلا فلانة؟ " يقبل؛ لأنه أراد بهذا الآن الخصوص فيصح. لكن لو قال: "نسائي الأربع طوالق" ثم قال: "ما أردت إلا فلانة". لا يقبل، لأنه نص على العدد فلا يقبل.
الشاهد: أن الأصل في العام أنه يشمل جميع الأفراد، ولذلك لو جاء ذلك في لفظ عام: وقال: يخرج منه كذا وكذا؛ فلك أن تطالبه بالدليل؛ لأن الحجة معك، تقول: ما الدليل على أن هذا الفرد خرج من العموم والإنسان عنده دليل من النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض"، إذا دلت القرينة على أن المراد المخصوص، يعني مثلًا قال: أكرم الطلبة، ومعلوم أن الطلبة فيهم صنف مهملون، وفيهم صنف يحضرون بالأبدان ولا يحضرون بالقلوب، والرجل قال لخادمه: أكرم الطلبة، هل يكرم كل الطلبة؟ إذا نظرنا إلى اللفظ قلنا إنه: يكرمهم كلهم، لكن إذا نظرنا للمعنى وأنه إنما أراد إكرام من هو مجتهد نحمل اللفظ على الخاص بالقرينة.
ومن فوائد هذا الحديث: الإقرار لله عز وجل بالتوحيد، الإقرار باللسان المطابق بالقلب:"أشهد أن لا إله إلا الله".
ومنها: أن التعبير بـ"أشهد" يدل على كمال اليقين، لأن الأصل في الشهادة ما شوهد، فإذا كمل اليقين عبر عنه بالشهادة.
ومن فوائد هذا الحديث: أن لا إله حق إلا الله عز وجل وجميع الآلهة باطلة، قال الله عز وجل:{إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم: 23]. نقول: لما قالت قريش: إن اللات إله هل صار بذلك إلهًا؟ أبدًا، ولا العزى ولا هبل ولا غيرها، كل مما سوى الله ممن يتعبد له فهو باطل.
ومن فوائد هذا الحديث: علو قدر النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم حقه لقوله: "وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذه الشهادة بعد شهادة أن لا إله إلا الله، فدل هذا على أن حق النبي صلى الله عليه وسلم بعد حق الله ولا يشاركه مخلوق في هذا الحق.
فإن قال قائل: ألم يقل الله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا} [النساء: 36]؟
فالجواب: بلى، لكن عباد الله لا تتحقق حتى يشهد الإنسان أن محمدًا رسول الله ويتبع شريعته، ولهذا لا يشكل عليك أن الله لم يذكر حق الرسول في هذه الآية، لأننا نقول: عبادة الله تتحقق إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يتبع إلا بعد الشهادة له بالرسالة.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم عبد لا يعبد، هو عبد فلا يستحق أن يعبد، لأنه لو يستحق أن يعبد لكان ربًا، ولكنه عبد.
ومنها: إثبات الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "ورسوله"، وإثبات العبودية والرسالة فيهما فائدة الرد الغالين والمفرطين في حق الرسول- عليه الصلاة والسلام؛ وجه ذلك: أن الغالين قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم له تأثير في المخلوقات وله حق في الربوبية؛ وهذا يكذبه قوله: "عبده"، والثاني: المفرطون قالوا: إنه ليس برسول، أو إنه رسول إلى العرب خاصةً، وفي الجمع بين العبودية والرسالة رد على الطائفتين جميعًا.
ومن فوائد هذا الحديث: رفع الإشكال الذي أورده بعض العلماء في قوله: "السلام عليك أيها النبي"، ولم يقل:"أيها الرسول"؛ لأن الحديث جمع بين الوصفين: النبوة في أول الحديث، والرسالة في آخر الحديث؛ فصار ذكر الرسالة بعد ذكر النبوة تصريح بالمضمون، ولو ذكر في الأول الرسول لكان إثباتًا لنبوة بطريق اللزوم وليس بالتصريح، وهنا نذكر حديث البراء بن عازب الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم إياه بقوله عند النوم وفيه:"آمنت بنبيك الذي أرسلت" فلما أعادها البراء على النبي صلى الله عليه وسلم قال: آمنت برسولك الذي أرسلت، قال:"لا، بنبيك الذي أرسلت"، فمن العلماء من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه حفاظًا على الألفاظ النبوية في الأذكار فلا تغير ولو إلى معنى يتضمن المغير، ومنهم من قال: المراد أنه لو قال: برسولك الذي أرسلت، لم يتعين أنه النبي؛ لأن الله أرسل جبريل كما قال عز وجل:{إنه لقول رسولٍ كريم* ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين} [التكوير: 19 - 20]. وجبريل ليس بنبي، فإذا قال:"برسولك الذي أرسلت" لم يتعين أن يكون المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قال:"بنبيك الذي أرسلت" تعين أن يكون المراد: النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك وجه آخر في عدم تغييره التعبير وهو: أنه لو قال: "برسولك الذي أرسلت" لصار دلالة ذلك على النبوة من باب اللزوم، فإذا قال:"بنبيك الذي أرسلت" صار من باب التصريح، يعني: ليس ضمنًا.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لا تدخل في هذا التشهد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بها بل قال: "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه".
ومنها: جواز الدعاء بكل ما يريده الإنسان وهو يصلي لأنه قال: "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه"، لو دعا بشيءٍ من أمور الدنيا جاز خلفًا لبعض العلماء الذي يقول: إذا دعا في الصلاة بشيءٍ من أمور الدنيا بطلت الصلاة، هذا خلاف الحديث، الحديث:"ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه"، يجوز أن يدعو الله عز وجل بأن ينجح في الاختبار؟ نعم يجوز، وإذ أعجبه شيئًا
محرمًا ودعا به يجوز أو لا يجوز؟ لا يجوز حتى لو أعجبه، لأن هذا من الاعتداء في الدعاء، والله تعالى يقول:{ادعوا ربكم تضرعًا وخفية} [الأعراف: 55].
ومن فوائد هذا الحديث أن للإنسان أن يفكر في الصلاة فيما يرى أن يفعل، يعني: يفكر يطول أو لا يطول، يدعو بكذا أو لا يدعو بكذا، لأن هذا حديث النفس ولا يؤثر؛ لأنه لا يمكن أن يتخير الأعجب إلا بعد أن يفكر.
إذا قال قائل: تفكيره هذا هل يعد نقصًا في الصلاة؟
الجواب: لا، لأن هذا مما يتعلق بالصلاة كتفكيره في معنى "سبحان ربي العظيم" و"سبحان ربي الأعلى" وما أشبه ذلك.
ومن فوائد هذا الحديث: أن التشهد فرض لقوله في رواية النسائي: "قبل أن يفرض علينا التشهد" ولكن هل هو فرض لازم وهو ركن، أو فرض يجبر بغيره؟ فيه تفصيل، أما التشهد الأول فقد دلت السنة على أنه يجبر بغيره وذلك بسجود السهو، وأما التشهد الأخير فهو فرض لابد منه، إذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوع حادثة تدل على أنه يجبر بغيره.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للعالم أن يقول لمن يفهم: "علم الناس"، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن مسعودٍ أن يعلمه الناس.
ومنها: جواز التوكيل في إبلاغ العلم، وهذا له شواهد، الذين يبعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس هم وكلاء له ونواب عنه، ولكن بشرط أن يكون هذا الذي قام بتعليم الغير فاهمًا عارفًا، أما الإنسان الذي لا يتصور الشيء أو لا يفهمه لا يجوز أن يتحدث، في سنةٍ من السنوات تكلمنا عن ليلة النصف من شعبان وقلنا: إن الناس يظنون أن ليلة النصف من شعبان يكتب فيها ما يكون في السنة وهذا ليس بصحيح، وإنما الذي يكتب فيها ما يكون في السنة هي ليلة القدر وهي في رمضان في العشر الأخير. بعض العوام قال: فلان- يعني: أنا- يؤكد أن ليلة النصف هي ليلة المحو والكتب، يكتب فيها كل شيء، عكس ما أريد، حتى ذكروا لنا أن ناسًا من الرياض لما قدم إليهم جعل يجادل ويقول: أنت أفقه من الشيخ؟ فالمسكين فهم العكس، فأقول: لابد لمن ينقل كلام العلماء أن يكون متقنًا له عارفًا لمعناه لئلا يضل.
301 -
ولمسلم: عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله
…
". إلى آخره.
تقدم لنا ذكر التشهد الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه ابن مسعود وأمره أن يعلمه الناس وهو: "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا
وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول عبده ورسوله:، وفيه صفة أخرى: حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد: "التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله"، وهذه تختلف في هذه الجمل عن حديث ابن مسعود أيهما نختار؟ اختار بعض العلماء تشهد ابن مسعود، وقال: لأنه ثابت في الصحيحين، فهو أقوى من حديث ابن عباسٍ الثابت في مسلم، ولأنه فيه عطف لهذه الجمل:"التحيات لله، والصلوات والطيبات"، أما هذا فليس فيه عطف، والعطف يقتضي المغايرة، فيكون حديث ابن مسعود الأعلى معنى أكثر من حديث ابن عباس، ولهذا رجحوا حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنهما، ولكن الصحيح: أنه لا ترجيح ما دام يمكن العمل بالحديثين جميعًا كما هو القاعدة المتبعة فيما إذا وردت النصوص مختلفة وأمكن الجميع بينها، فإننا لا نلجأ إلى الترجيح، لأن الترجيح معناه: الأخذ بالراجح وإهمال الآخر، وهذا لا ينبغي، والجمع هنا ممكن، وإذا بالجمع فكيف نجمع؟ هل نقولهما في آنٍ واحد، ونقول:"التحيات لله، والصلوات والطيبات، التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله"؟ لا، ولكن نقول هذا أحيانًا وهذا أحيانًا لنعمل بالسنة، وهذا هو الصحيح أنه ينبغي للإنسان أن يتشهد بما دل عليه حديث ابن مسعود أحيانًا، وأحيانًا بما دل عليه حديث ابن عباسٍ حتى يأتي بالسنة على وجهيها، وفي هذا أيضًا فائدة: إذا تشهد بهما جميعًا وهو حفظ السنة، ولذلك الذين يستمرون على حديث اين مسعودٍ لو تسألهم عن حديث ابن عباسٍ ما يعرفونه، فإذا عمل بالنصين جميعًا صار في ذلك حفظ للسنة.
وقد سبق لنا فائدة إتيان بعض العبادات على وجوهٍ متنوعة، وقلنا: من فائدتها أن تنوع الذكر سكون أبلغ في الثناء على الله، لأن في هذا الذكر ما ليس في الثاني.
وقلنا أيضًا من فوائده: أن الإنسان يستحضر ما يقول، لأنه إذا ذكر الله بهذا الذكر في هذه المرة ثم ذكره بالذكر الآخر في المرة القادمة صار قلبه حاضرً، أما إذا لزم ذكرًا واحدًا فصار- كما يقولون- كالآلة الأوتوماتيكية يفعله على العادة بخلاف ما إذا جعل نفسه تتطلع مرةً إلى هذا ومرةً إلى هذا، صار عنده استحضارًا أكبر.
الفائدة الثالثة: أن هذا أيسر على المكلف فيما كانت الأنواع بعضها أيسر من بعض، فإن هذا قد يكون في بعض الأحيان ما يناسبه إلى الأسهل والأيسر، مثال ذلك: أذكار الصلوات، الذكر خلف الصلوات فيه عدة وجوهٍ منها: أن تذكر الله فتقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، كل الأربع تذكرها (25) مرةً فيكون المجموع مائة.
ومنها: أن تقول: "سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله (33)، الحمد لله (33)، الله أكبر (34) فيجتمع مائة.
ومنها: أن تقول: سبحان الله، والحمد لله والله أكبر (33) وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، فيجتمع منها المائة.
ومنها: أن تقول: سبحان الله (10) مرات، والحمد لله (10)، والله أكبر (10)، مرات، وهذا يجتمع منها ثلاثون إذن هذا أيسر ربما في بعض الحالات يكون هذا أنسب لك لكونك مشغولًا أو ما أشبه ذلك.
فالمهم: أن من جملة فوائد إتيان العبادات على وجودهٍ متنوعة: أنه قد يكون في ذلك تيسير على المكلف، وهذه القاعدة هي التي نص عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكثير من أهل العلم أن العبادات الواردة على وجوهٍ متنوعة ينبغي للإنسان أن يعمل بها كلها كل واحدةٍ من آنٍ لآخر.
ومن ذلك أيضًا- ومع الأسف لا نعمل به-: القراءات الواردة في القرآن، فإنه ينبغي للإنسان أن يتعلمها، وأن يقرأ بها، أحيانًا بهذه القراءة وأحيانًا بهذه القراءة، لأن الكل وارد عن رسول الله- عليه الصلاة والسلام وثابت عنه، فإذا لزمنا قراءة قارئٍ واحدٍ أغفلنا بقية القراءات، وإذا فهمنا القراءات كلها وقرأنا به ما استطعنا كان هذا أحسن وأوفق وأشد اتباعًا للسنة حتى لا تلزم طريقة واحدة، فالقراءات المعروفة السبع ينبغي لطالب العلم أن يتعلمها، ولاسيما الصغير، لأنه إذا تعلمها من صغره لا ينساها، الكبير قد يتعلمها لكن ينسى ما كان يعرفه من قبل، لكن الصغير يسهل عليه أنت يتعلم القراءات السبع، ويقرأ أحيانًا بهذا وأحيانًا بهذا، لكن لا يقرؤه عند العامة، لأنه إذا قرأه عند العامة صار في ذلك فتنة، فإن العامة إذا قرأ عليهم قارئ في كتاب الله ما لا يعرفون أنكروا عليه إنكارًا شديدًا، ثم إذا صح ما قاله صار في قلوبهم شيء من القرآن، فلهذا أن تقرأ القراءات لا ينبغي عند العامة؛ لما في ذلك من الفتنة، وهذا من أحد الأسباب التي جعلت أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يوحد المصاحف على مصحفٍ واحد، فإن الناس بدءوا يختلفون في القراءات وحصل بذلك فتنة، فرأى رضي الله عنه بتوفيق الله له وللأمة والحمد لله- أن يجمع الناس على مصحفٍ واحدٍ على لغة قريش، وهذا المصحف الواحد متضمن للقراءات السبع ما تخرج عنه.
* * *