الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا يسمى سفرًا في العرف فخاطبه بما يراه في ذلك الوقت، ثم لو كان هذا مرفوعًا فمما يضعف حكم الرفع أنه لو كان كذلك لكان نقله أمرًا مشهورًا معلومًا لدعوة الحاجة إلى بيانه هذا من أشد الأمور حاجة إلى بيانه إذ إنه فيصل بين ما يمكن أن يقصر فيه وبين ما لا يمكن أن يقصر فيه، وهذا لا يمكن أن يغفله الرسول- عليه الصلاة والسلام حتى يأتي ابن عباس فيقول ذلك.
418 -
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي الذّين إذا أساءوا استغفروا، وإذا سافروا قصروا وأفطروا"، أخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف، وهو من مرسل سعيد بن المسيب عند البيهقي مختصرًا.
هذا الحديث- كما رأيتم- ضعيف، لكن معناه صحيح، فإن خير الناس من إذا أساء استغفر، كما قال الله تعالى في وصف المتقين:{والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} [آل عمران: 135].
صلاة المريض وكيفيتها:
419 -
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: "كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال: صلّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، وإن لم تستطع فعلى جنب". رواه البخاريّ.
قوله: "كانت بي بواسير" البواسير: جمع باسور، فيها- أي: في البواسير- صيغة منتهى الجموع؛ لأنها على وزن "فواعيل"، والبواسير جمع باسور كما قلت، وهو داء في المقعدة، وهناك داء آخر يسمى ناسورًا، وكلاهما داءان في المقعدة، والبواسير كانت بالأول من الأمراض المؤلمة المزمنة؛ لأنه قطعها ليس بالأمر السهل، ولهذا تجدون في كتب أهل العلم هل يجوز للإنسان أن يقطع البواسير، أو يحرم عليه أن يقطعها؟ قال بعضهم: إنه يحرم عليه قطعها؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى نزيف الدم حتى يموت، هل هذا القول يرد في وقتنا الحاضر؟ لا، لأن هذا الخوف الذي رتب عليه الحكم مأمون والحمد لله.
وقوله: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة" يعني: كيف أصنع فيها؛ لأن الصحابة- رضي الله عنهم كانوا حريصين على العلم، فأشكل عليه ماذا يصنع مع المشقة والألم، فقال له الرسول- عليه الصلاة والسلام:"صلِّ قائمًا""صلّ" فعل أمر وهو للإرشاد، لكنه للوجوب، يعني: يرشده إلى
الصفة الواجبة، والدليل قوله:"فإن لم تستطع" واعلم أن الأمر الوارد في جواب السؤال إن كان المسئول عنه شيئًا واجبًا فهو للواجب، وإن لم يكن شيئًا واجبًا فهو للإرشاد، قال الصحابة: كيف نصلي عليك، قال: قولوا: اللَّهم صلِّ على محمد
…
". هل تجب هذه الصيغة، أو لو صلى بغيرها أجزأ؟ لو صلى بغيرها أجزأ، لأنه لم يجب عن أمر واجب، ولكن سألوا عن الكيفية، فقال: كيفيتها كذا وكذا، هذه "صلّ قائمًا" نقول: مثل هذه للإرشاد، لكن قوله: "فإن لم تستطع" يدل على أن الإرشاد إلى الكيفية أنه إرشاد إلى كيفية واجبة، "صل قائمًا" "قائمًا" حال من فاعل "صلّ" يعني: صلّ حال كونك قائمًان وقوله: "قائمًا" يشمل ما إذا كان قائمًا بدون اعتماد، أو قائمًا معتمدًا، فلو فُرض أن هذا الرجل لا يستطيع أن يقف قائمًا بدون اعتماد ويستطيع أن يقوم باعتماد على عصا، أو على عمود، أو على جدار، فإنه يلزمه القيام.
وقوله: "فإن لم تستطع" هل المراد: العجز مطلقًا بحيث تكون رجلاه ميتتين مثلًا أو يكون زمنًا، أو أن المراد:"إن لم تستطع" يعني: ما تقدر إلا بمشقة؟ الظاهر الأخير؛ لأن البواسير من المعروف أن المصاب بها ليس بعاجز عن القيام لكن يشق عليه، وضابط المشقة التي يسقط بها القيام ما هو؟ ضابطها أقرب شيء أنها ما يزول بها الخشوع، يعني: لا يحضر قلبه لأنه متعب فيشق عليه، هذا أحسن ما قيل فيها، وإلا لو قلنا: إن المشقة المطلقة أو مطلق المشقة ليس عندنا ضابط، لكن نقول: المشقة التي تذهب الخشوع.
"فإن لم تستطع فقاعدًا" أي: فصل قاعدًا، ولم يبين الرسول- عليه الصلاة والسلام كيف يقعد، لكن في آخر حديث في الباب حديث عائشة:"كان النبي- عليه الصلاة والسلام يصلي متربعًا، فعلى هذا يكون هذا القعود متربعًا، ويكون متربعًا في حال القيام، وفي حال الركوع، قيل: يفترش، وقيل: يتربع يبقى على تربعه، وهذا القول الثاني هو الصحيح، أنه في حال الركوع يبقى متربعًا، كيف يركع؟ يركع بالإيماء، فيومئ أي: يخفض ظهره، قال العلماء: حتى يقابل ما وراء ركبتيه أدنى مقابلة وتتمتها الكمال بحيث يكون وجهه كله خارج حدود الركبتين، في السجود ماذا يفعل؟ إن كان لا يستطيع يسجد، وفي الجلوس بين السجدتين يجلس كالعادة مفترشًا، هذا معنى قوله: "صلِّ قاعدًا"، فإن لم يستطع السجود لأثر في رأسه أو في عينه، أو ما أشبه ذلك فماذا يفعل؟ يومي بالسجود أيضًا ويجعل السجود أخفض من الركوع، ولكن هل يجب عليه أن يسجد على بقية الأعضاء إذا عجز بالجبهة؟ قال بعض العلماء: إذا عجز بالجبهة سقط ما سواها، لأنها هي الأصل، فعلى هذا ما يجب عليه يسجد لا على كبتيه ولا على أطراف القدمين ولا على الكفين ما دام عجزت الجبهة، مثل: أن يكون في الجبهة جروح لا يستطيع أن يسجد عليها، نقول: يومئ إيماء، والصحيح أن العجز بالجبهة لا يسقط ما سواها،
يجب عليه أن يسجد على ما سواها لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". فعلى هذا نقول: اسجد على الكفين والركبتين وأطراف القدمين وأقرب من الأرض بقدر ما تستطيع.
يقول: "فإن لم تستطع فعلى جنب"، "إن لم تستطع" يعني: القعود، "فعلى جنب" أيُّ الجنبين؟ الحديث مطلق فعلى جنبك، ولكن ورد حديث أنه على الجنب الأيمن إذا استطاع، فإن لم يستطع فعلى الجنب الأيسر، ووجهه في جميع الأحوال إلى القبلة.
يستفاد من هذا الحديث عدة فوائد:
الفائدة الأولى: مشروعية عيادة المريض؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عاد عمران بن حصين.
ثانيًا: جواز التصريح بما يستحيا منه لنشر العلم، يؤخذ من قوله:"كانت بي بواسير".
ثالثًا: حرص الصحابة- رضي الله عنهم على العلم، من أين؟ من سؤال عمران بن حصين.
رابعًا: أنه ينبغي لكل من نزلت به نازلة أن يسأل عن حكم الله في هذه النازلة، ولهذا عمران سأل النبي- عليه الصلاة والسلام.
خامسًا: وجوب الصلاة على المريض قائمًا لقوله: "صلِّ قائمًا"، والمراد الفريضة، أما النافلة فلا يجب فيها القيام، والدليل على أنه لا يجب فيها القيام أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته في السفر بدون ضرورة، ولو كان القيام واجبًا ما صلى هذه من فعله، كذلك لمّا ثقل كان صلى الله عليه وسلم يصلي في الليل جالسًا حتى إذا قارب الركوع قام فركع هذا أيضًا من فعله، الدليل الثالث من قوله:"صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم"، ما وجه الدلالة؟ لأنه جعل ثواب القاعد على النصف، وهذا في غير العذر؛ لأنه في العذر يكون الثواب واحدًا فلا شك أن هذا الحديث في غير المعذور، وعلى هذا فيحمل على النفل، ولذلك أخرنا الاستدلال بهذا القول على الاستدلال بالفعل، وإلا ففي حال سياق الأدلة نقدم الاستدلال بالقول على الاستدلال بالفعل، لكن إذا كان فيه احتمال أو إشكال لا بأس أن نؤخره كما أنه يقدم في الاستدلال القرآن قبل السنة، فإذا كانت السنة صريحة والقرآن فيه احتمال أو السنة تدل على هذا الشيء بعينه والقرآن يدل عليه بعمومه تقدم السنة، إذن هذا في الفرض.
ومن فوائد الحديث: أنه يجب القيام ولو معتمدًا على عصا، أو على جدار، أو على عمود لقوله:"صلِّ قائمًا"، وهذا يشمل أي صفة تكون في القيام.
ومن فوائد الحديث: أن من عجز عن القيام يُصلي قاعدًا، وصفته على ما شرحنا.
ومن فوائده: أن من عجز عن القعود صلّى على جنبه.
ومن فوائد الحديث: تيسيرًا أحكام الشريعة والحمد لله، والشريعة كلها يسر، ثم إن طرأ ما يوجب تيسير هذا الميسر يسر أيضًا، فأصل الشريعة يسر كما قال الرسول- عليه الصلاة والسلام:"إن الدين يسر"، وإذا طرأ تيسير ما يوجب هذا اليسر يسر أيضًا، وهذا من نعمة الله علينا.
مسألة: عدم سقوط الصلاة عن المريض:
ومن فوائد الحديث: أن الصلاة لا تسقط عن [المريض] فيصليها على أي حال كان، ولكن إذا عجز عن هذه المراتب الثلاث هل تسقط؟ قيل: إنها تسقط؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام ما جعل إلا ثلاث مراتب فقط، فإذا عجز عن الصلاة على الجنب فإنه تسقط عنه الصلاة، وقال بعض العلماء: لا تسقط، الرسول قال:"صلِّ على جنب"، ولم يبين كيف يصلي، فمعنى ذلك: أن يُصلي على حسب حاله، يصلي برأسه إن أمكن، أو بعينه إن لم يمكن، فإن لم يمكن بالعين فإنه يصلي بالقلب: أنوي القيام، وأنوي الركوع وأنوي الرفع منه، وأنوي السجود وأنوي الرفع منه، وأنوي الجلوس للتشهد وأنطق، فإن لم يمكنه النطق ولا الفعل، هذا رجل لا يمكن لا نطق ولا فعل ماذا يفعل؟ ينوي بقلبه؛ لأن الصلاة نية وعمل، فإذا تعذر العمل وجبت النية، ولا تسقط الصلاة ما دام العقل ثابتًا، والدليل على هذا قوله تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، والآن هذا ما نستطيع فعلينا أن نصلي بالنية، فنقول: إن قدرنا على النطق أو ننوي إذا لم نقدر على النطق، أما أن نقول لإنسان: ليس عليك صلاة وهو عاقل يدري ما يقول، ويدري ما يفعل لكنه عاجر عنه، ونقول: ليس عليك صلاة، ونقطع صلة الإنسان بينه وبين ربه، قد يبقى أيامًا أو شهورًا أو ربما سنين يكون أشل اللسان، وأشل الجوارح، لكنه عاقل ونقول: لا، لا تصلّ هذا في النفس منه شيء، فالصواب: أنها لا تسقط ما دام العقل ثابتًا، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه، مثل رجل أصيب بحروق في جنبه أو بالتهابات أو ما أشبه ذلك يُصلي مستلقيًا ويتوجه للقبلة، فإن لم يستطع الاستلقاء صلى على بطنه، أي شيء يكون فإن لم يستطع على بطنه، أو على أي شيء كيف يصلي؟ يُصلي على أي حال كان عليها، يُقال: إن بعض العامة سمع رجلًا يحدِّث بحديث: "إذا سرق تقطع يده اليمنى، فإن سرق ثانية فليقطع رجله اليسرى، فإن سرق ثالثة فليقطع يده اليسرى، فإن سرق رابعة تقطع رجله اليمنى، فإن سرق فاقتلوه"، قال العامي: كيف
يسرق بعد الرابعة؟ نقول: ربما يسرق بأسنانه، ربما يُذكر أن بعض الناس حمل على إبله فيما سبق بأسنانه.
المهم: أن نقول في مسألة الجنب إذا عجز عن الأيمن يكون بالأيسر، فإذا عجز فعلى الظهر، فإذا عجز فعلى البطن.
المهم: أن الصلاة لا تسقط، مشتهر عند العامة أن للإنسان يصلي بأصبعه، هذا لم يرد عن الرسول- عليه الصلاة والسلام وإنّما يومئ، وما علمت أحدًا من أهل العلم قال بذلك، فلا أدري من أين جاء به العامة؟ !
420 -
وعن جابر رضي الله عنه قال: "عاد النبي صلى الله عليه وسلم مريضًا، فراه يُصلي على وسادة فرمى بها، وقال: صلِّ على الأرض إن استطعت، وإلا فأوم إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك"، رواه البيهقيُّ، وصحح أبو حاتم وقفه.
ما معنى: "وقفه" يعني: أنه من قول جابر ليس مرفوعًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: "عاد النبيُّ مريضًا فراه يصلي على وسادة"، المريض يصلي على وسادة، وهل المراد: أن الوسادة صارت مصلى له؟ لا، لأن هذا ما يمكن، المراد: يسجد على وسادة، قد رفعها، لأنه ما يستطيع السجود على الأرض، "فرمى بها"، من الذي رمى بها؟ الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال له:"صلِّ على الأرض" يعني: اسجد على الأرض، "إن استطعت، وإلا فأوم إيماء، واجعل سجودك أخفض ركوعك"، لكن هذا الحديث- كما رأيتم- موقوف على الأصح، إنّما معناه صحيح؛ لأن الإنسان لا ينبغي له أن يتكلف في دين الله، وأن يصنع شيئًا يرفع له، وإنّما المشروع أن تُصلي بدون كلفة ومشقة بأن تحاول أن تسجد على الأرض أولًا، فإن لم تستطع أومأت إيماء، بماذا يومئ إيماء؟ بالركوع والسجود بالرأس، قال النبي صلى الله عليه وسلم إن صحَّ الحديث-:"واجعل سجودك أخفض من ركوعك" لماذا يجعلها أخفض؟ لأن السجود أخفض حتى في الركوع يحني ظهره، والسجود يصل إلى الأرض.
421 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يصلِّي متربعا"، رواه النَّسائي، وصححه الحاكم.
يصلي متربعًا كما أشرنا من قبل إلى أن التربع يكون في حال القيام، وفي حال الركوع أيضًا، أمّا الجلوس بين السجدتين وفي حال التشهد فعلى العادة.