المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفطر في السفر وحكمه: - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٢

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌7 - باب صفة الصلاة

- ‌صفة الاستفتاح ومعانيه:

- ‌الاستعاذة ومعناها:

- ‌أوضاع منهي عنها في الصلاة:

- ‌مواضع رفع اليدين وصفته:

- ‌صفة وضع اليدين في القيام:

- ‌حكم قراءة الفاتحة:

- ‌هذه الروايات فيها فوائد:

- ‌أحكام البسملة:

- ‌شروط كون قول الصحابي حجة:

- ‌التأمين وأحكامه:

- ‌متى تسقط الفاتحة:

- ‌كيفية القراءة في الصلاة:

- ‌مقدار القراءة في صلاتي الظهر والعصر:

- ‌قدر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب والعشاء والفجر:

- ‌صفة القراءة في فجر الجمعة:

- ‌هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تدبر القراءة في الصلاة:

- ‌أذكار الركوع والسجود ومعانيها:

- ‌تكبيرات الانتقال وأحكامها:

- ‌أذكار القيام من الركوع ومعانيها:

- ‌هيئة السجود وأحكامه:

- ‌صفة الأصابع في السجود والركوع:

- ‌الجلوس في محل القيام وأحكامه:

- ‌الدعاء بين السجدتين:

- ‌حكم جلسة الاستراحة:

- ‌القنوت وأحكامه:

- ‌دعاء القنوت:

- ‌حكم تقديم اليدين قبل الركبتين للسجود:

- ‌صفة وضع اليدين في التشهد:

- ‌صيغ التشهد ومعانيها:

- ‌صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌الدعاء بعد التشهد وأحكامه:

- ‌صفة التسليم وأحكامه:

- ‌الأذكار دبر الصلوات ومعانيها:

- ‌وجوب تعلم صفة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌صلاة المريض:

- ‌8 - باب سجود السهو وغيره من سجود التلاوة والشكر

- ‌صفة سجود السهو:

- ‌السجود للسهو بعد السلام وحكمه:

- ‌حكم التشهد لسجدتي السهو:

- ‌حكم سجود السهو قبل الكلام:

- ‌السهو مبني على غلبة الظن:

- ‌سقوط سجود السهو:

- ‌حكم سهو الإمام والمأموم:

- ‌سجود التلاوة:

- ‌حكم سجود التلاوة:

- ‌أحكام سجود التلاوة:

- ‌بعض مواضع سجود التلاوة في القرآن:

- ‌حكم سجود القارئ والمستمع والسامع:

- ‌التكبير لسجود التلاوة:

- ‌9 - باب صلاة التطوع

- ‌السنن الرواتب:

- ‌فضل ركعتي الفجر:

- ‌النفل قبل العصر والمغرب:

- ‌التخفيف في ركعتي الفجر والاضطجاع بعدها:

- ‌قيام الليل:

- ‌صلاة الوتر:

- ‌صفات صلاة الوتر:

- ‌الحث على قيام الليل والوتر:

- ‌لا وتران في ليلة:

- ‌ما يقرأ في الوتر:

- ‌صلاة الضحى:

- ‌10 - باب صلاة الجماعة والإمامة

- ‌حكم صلاة الجماعة:

- ‌وجوب الحضور للجماعة في المسجد:

- ‌عدم سقوط الجماعة عن الأعمى:

- ‌صلاة المفترض خلف المتنقل:

- ‌حكم الصلاة قيامًا خلف إمام قاعد:

- ‌مراعاة حال المأمومين في الصلاة:

- ‌إمامة الصغير المميز:

- ‌يقدم في الإمامة الأكثر قرآنًا:

- ‌تسوية الصفوف والمقاربة بينها:

- ‌أفضلية الصف الأول للرجال:

- ‌صلاة المرأة والصغير خلف الإمام:

- ‌حكم صلاة المنفرد خلف الصف:

- ‌المشي إلى الصلاة بالسكينة والوقار:

- ‌استحباب الكثرة في الجماعة:

- ‌حكم إمامة المرأة لأهل دارها:

- ‌الدخول مع الإمام على أي حال أدركه:

- ‌11 - باب صلاة المسافر والمريض

- ‌حقيقة السفر ومعناه:

- ‌قصر الصلاة في السفر وحكمه:

- ‌مسائل مهمَّة:

- ‌الصلوات التي لا تقصر في السفر:

- ‌الفطر في السفر وحكمه:

- ‌عدد الأيام التي يجوز فيها القصر:

- ‌حكم الجمع بين الصلاتين في السفر:

- ‌حالات جمع التقديم والتأخير:

- ‌حالات الجمع بين الصلاتين في الحضر:

- ‌الصلوات التي لا يجمع بينها:

- ‌صلاة المريض وكيفيتها:

- ‌12 - باب صلاة الجمعة

- ‌التحذير من ترك الجمع:

- ‌وقت صلاة الجمعة:

- ‌العدد الذي تنعقد به الجمعة:

- ‌حكم إدراك ركعة من الجمعة:

- ‌حكم الخطبة قائمًا:

- ‌صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌استحباب طول الصلاة وقصر الخطبة:

- ‌قراءة سورة (ق) في الخطبة:

- ‌حكم تحية المسجد والإمام يخطب:

- ‌ما يقرأ في الجمعة والعيدين:

- ‌صلاة النفل بعد الجمعة وأحكامها:

- ‌حكم فصل الفريضة عن النافلة:

- ‌فضل الاغتسال والتطيب يوم الجمعة:

- ‌ساعة الإجابة يوم الجمعة:

- ‌استغفار الخطيب للمؤمنين:

- ‌حكم قراءة آيات من القرآن في الخطبة:

- ‌الذين تسقط عنهم الجمعة:

- ‌13 - باب صلاة الخوف

- ‌شروط صلاة الخوف:

- ‌الصفة الأولى لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الثانية لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الثالثة لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الرابعة لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الخامسة لصلاة الخوف:

- ‌14 - باب صلاة العيدين

- ‌حكم صلاة العيد في اليوم الثاني إذا ترك لعذر:

- ‌من السنة أكل تمرات قبل الخروج لعيد الفطر:

- ‌حكم خروج النساء لصلاة العيد:

- ‌مشروعية الخطبة بعد صلاة العيد:

- ‌صلاة العيد ركعتان بلا نفل:

- ‌صلاة العيد بلا أذان ولا إقامة ولا نفل:

- ‌صلاة العيد في المصلى:

- ‌التكبير في صلاة العيد:

- ‌قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد:

- ‌مخالفة الطريق والتكبير في الطريق:

- ‌15 - باب صلاة الكسوف

- ‌مشروعية صلاة الكسوف والدعاء فيها:

- ‌القراءة في صلاة الكسوف جهرًا:

- ‌صفة صلاة الكسوف:

- ‌الدعاء عند هبوب الريح:

- ‌حكم الصلاة للزلازل:

- ‌16 - باب الاستسقاء

- ‌صفة صلاة الاستسقاء والخطبة لها:

- ‌الدعاء في صلاة الاستسقاء:

- ‌تحويل الرداء في الاستسقاء والجهر بالقراءة:

- ‌مشروعية رفع اليدين في الاستسقاء:

- ‌أقسام التوسل وأحكامه:

- ‌ما يفعل عند هطول المطر:

- ‌الدعاء عند رؤية المطر:

- ‌مشروعية الاستسقاء في الأمم السابقة:

- ‌17 - باب اللباس

- ‌تحريم الزنا والخمر والغناء:

- ‌تحريم لبس الحرير والجلوس عليه:

- ‌مقار ما يباح من الحرير:

- ‌حكم لبس الحرير لعذر أو مرض:

- ‌إباحة الذهب والحرير للنساء والحكمة منها:

- ‌حبُّ الله عز وجل لرؤية أثر نعمته على عبده:

- ‌النهي عن لبس القسيِّ والمعصفر:

- ‌جواز كف الثياب بالحرير وضوابطه:

- ‌كتاب الجنائز

- ‌الترغيب في تذكر الموت:

- ‌كراهة تمني الموت:

- ‌تلقين المحتضر الشهادة:

- ‌حكم قراءة يس عند المحتضر:

- ‌تغميض الميت:

- ‌حكم تسجية الميت:

- ‌حكم تقبيل الميت:

- ‌الإسراع في قضاء دين الميت:

- ‌حكم تحنيط الميت المحرم:

- ‌حكم تجريد الميت عن تغسيله:

- ‌صفة الغسل:

- ‌تكفين الميت وأحكامه:

- ‌استحباب الكفن الأبيض:

- ‌استحباب إحسان الكفن:

- ‌هل يجمع بين الرجال في الدفن، ومن يقدَّم:

- ‌كراهة المغالاة في الكفن:

- ‌حكم الصلاة على المقتول في حد:

- ‌حكم الصلاة على قاتل نفسه:

- ‌حكم الصلاة على القبر:

- ‌الصلاة على الغائب:

- ‌موقف الإمام في الصلاة على المرأة:

- ‌حكم الصلاة على الميت في المساجد:

- ‌عدد التكبير في صلاة الجنازة:

- ‌قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة:

- ‌الدعاء للميت في صلاة الجنازة:

- ‌الدعاء للمسلمين في صلاة الجنازة:

- ‌الإخلاص في الدعاء للميت:

- ‌استحباب الإسراع بالجنازة:

- ‌فضل اتباع الجنائز والصلاة عليها:

- ‌النهي عن اتباع النساء للجنازة:

- ‌كيفية إدخال الميت القبر:

- ‌الميت يتأذى بما يتأذى به الحي:

- ‌اللحد والشق في القبر:

- ‌النهي عن البناء على القبور وتجصيصها:

- ‌حكم تلقين الميت عند القبر:

- ‌زيارة النساء للقبور:

- ‌جواز البكاء على الميت:

- ‌النهي عن الدفن ليلًا:

- ‌استحباب إيناس أهل الميت:

- ‌آداب زيارة القبور:

- ‌النهي عن سب الأموات:

الفصل: ‌الفطر في السفر وحكمه:

‌الفطر في السفر وحكمه:

408 -

وعن عائشة رضي الله عنها: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السَّفر ويتمُّ، ويصوم ويفطر" رواه الدَّارقطنيُّ، ورواته ثقات؛ إلا أنَّه معلولٌ.

- والمحفوظ عن عائشة من فعلها، وقالت:"إنَّه لا سشقُّ عليَّ". أخرجه البيهقيُّ.

هذا الحديث تقول عائشة: "إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقصر في السفر ويتم، ويصوم ويفطر"، فهاتان جملتان؛ الجملة الأولى:"يقصر ويتم"، والجملة الثانية:"يصوم ويفطر"، أما الثانية فنعم كان الرسول صلى الله عليه وسلم في سفره يصوم ويفطر فإنه صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه في عدة مرات في رمضان وكان يصوم، ثم لما رأى الناس قد شق علهم الصيام أفطر وأفطر الناس، وكان أصحابه أيضًا منهم الصائم ومنهم المفطر، ولا يعيب أحدهم على الآخر.

وأمَّا قولها: "يقصر ويتم" فهذا منكر وليس بصحيح، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتم يومًا من الأيام في سفه، بل كان يلازم القصر، وهذا أمر معروف مشهور.

ولهذا نقول: إن هذا الحديث -كما قال المؤلف- معلول، وإن كان لرواته ثقات؛ لأن الراوي قد يهم وإن كان ثقة وليس معصومًا من الخطأ.

وقوله: "والمحفوظ عن عائشة من فعلها"؛ إذن فيكون الحديث الأول إذا كان هذا يقابلهن وهو المحفوظ يكون الأول في اصطلاح المحدثين شاذًا؛ لأن المحفوظ يقابله الشاذ.

وقالت: "إنه لا يشق عليَّ"، فيكون فعلها مبنيًا على التأويل، وهي أنها رضي الله عنها ظنَّت أن سبب قصر الصلاة هو المشقة ورأت أنه لا يشق عليها ذلك فأتمت ولكن هذا التأويل في مقابلة النص، وما كان في مقابلة النص فإن مردود على قائله كائنًا من كان، وجه ذلك: أنه كان في مقابلة النص لأنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يقصر في جوف مكة، ومثل هذا لا يشق عليه، وثبت عنه أنه كان يقصر في حجة الوداع في منى وهو آمن وليس عليه مشقة، وحكم القصر لم يعلق بلامشقة حتى نقول: أنه إذا انتفت المشقة اانتفى القصر، وإنما هو معلق بماذا؟ بالسفر، فمتى وجد السفر فإن الحكم يثبت، ولو كان الإنسان مسافرًا على طائرة أو سيارة مبردة، أو ينزل في فندق في أثناء إقامته فإنه يثبت له حكم المسافر؛ لأن الحكم معلق بالسفر نفسه.

إذن هذا الحديث يستفاد منه: أن الرسول عليه الصلاة والسلام في السفر يصوم ويفطر، وهذا ثابت من غير هذا الحديث.

ويستفاد منه: أن عائشة رضي الله عنها كانت تتم وتقصر، وتعلل الإتمام بأنه لا يشق عليها.

ص: 303

ويستفاد من الحديث: أن العالم مهما بلغ علمه فإنه قد يخطئ؛ لأن عائشة لا شك أنها من علماء الصحابة، وكان الصحابة يرجعون إليها في أشياء كثيرة من العلم لاسيما فيما يختص بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم الباطنة، ومع ذلك فإنها قد تتأول وتخطئ، فهي تأولت كما تأول عثمان رضي الله عنه في مسألة الإتمام في منى.

409 -

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته". رواه أحمد، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان.

- وفي روايةٍ: "كما يحب أن تؤتى عزائمه".

هنا ثلاث مسائل رخص، ومعاصٍ، وعزائم:

أولًا: يقول: "أن الله تعالى يحب". كلمة "تعالى" ما معناها؟ من العلو حسًا ومعنى، فإن الله تعالى قد ثبت له العلو الذاتي بدلالة الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة، كل الأدلة الخمسة متفقة على أن الله سبحانه وتعالى فوق خلقه، وأن له العلو المطلق كذلك أيضًا العلو المعنوي وهو التعالي عن كل نقص وعيب، فإنه سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص وعيب، فصفاته كلها عليا ليس فيها نقص، وقد سبق لنا أن كلمة "تعالى" أبلغ من كلمة "على"؛ لأنها تدل على التنزه، تفاعل يعني: ترفع وتقدس عن السفول والنزول.

وقوله: "يحب أن تؤتى رخصه". "يحب" ما معنى المحبة؟ المحبة عند أهل السنة والجماعة محبة حقيقية تليق بالله سبحانه وتعالى وهي صفة غير صفة الإرادة.

وذهب أهل التأويل - من الأشاعرة وغيرهم - إلى أن المراد بالمحبة: إما إرادة الإنعام والثواب، وإما الثواب نفسه، ولا يثبتون له سبحانه وتعالى محبة حقيقية، لماذا؟ يقولون: لأن المحبة ميل الإنسان إلى ما فيه جلب منفعة أو دفع مضرة، والله عز وجل منزه عن هذا.

ولكننا نقول لهم: هذا الذي تفسرونه بالمحبة هو لازم المحبة عند المخلوق، أما الله عز وجل فإنه يحب الشيء لكمال جوده وكرمه لا لأنه ينتفع بهذا الشيء، فإن الله يقول في الحديث القدسي:"إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني".

إذن نقول: المحبة: صفة ثابتة على وجه الحقيقة لله عز وجل، ولكنها هل تشبه محبة المخلوق للمخلوق؟ لا؛ لأن الله تعالى يقول: } ليس كمثله شيء وهو السميع البصير {[الشورى: 11].

ص: 304

فكل ما أثبته الله لنفسه من الصفات التي تتفق مع صفات المخلوق في الاسم فإنها تفارق صفة المخلوق في الحقيقة؛ لأن الله يقول: } ليس كمثله شيءٌ {.

لماذا نفوا حقيقة المحبة؟ لأنهم يزعمون أنها تقتضي تشبيهًا وتمثيلًا، والتشبيه والتمثيل نقص، ولكننا نقول: إنها لا تقتضي تشبيهًا، فأنتم الآن تثبتون الإرادة، ومع ذلك تقولون: إنها لا تستلزم التشبيه وإنها إرادة تليق بجلاله، فنقول: أي فرق بين الأمرين؟ ليس بينهما فرق إلا قولكم بالتحكم لعقول ليس لها أصل تبني عليه.

وقوله: "رخصه" الرخص جمع رخصة وهي في اللغة: السهولة، يقال: رخص له؛ أي: أذن له وسهل، وفسرها بعض العلماء بأن الرخصة: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، ولكن هذا التعريف يجعلها مشكلة، والصواب، أن الرخصة في الشرع هي الرخصة في اللغة وأنها السهولة، فيحب الله عز وجل أن يأتي العباد ما سهل به عليهم كما يكره أن تؤتى معصيته.

وقوله: "كما يكره" يحتمل أن تكون الكاف للتشبيه، يعني: محبته لهذا ككراهته لهذا، ويحتمل أن تكون للتعليل؛ يعني: كما أنه يكره أن تؤتى المعصية فإنه يحب أن تؤتى الرخص، وقوله:"كما يكره" المراد بالكراهة: البغض وهو الكراهة الحقيقية، وفسرها أهل التأويل بأن المراد بها: إرادة الانتقام والعقوبة، وكل هذا - كما ذكرنا قبل قليل - من التأويلات التي هي خلاف ظاهر اللفظ والمعنى الذي من أجله أولوا هذه النصوص ثابت فيما أثبتوه أيضًا.

وقوله: "أن تؤتى معصيته"، ما هي المعصية؟ هي الخروج عن الطاعة، يعني: مخالفة الأمر في المأمورات والوقوع في المنهي عنه في المنهيات، وهل تشمل المكروه والحرام؟ يعني: لو ورد نهي على سبيل الكراهة فخالفه الإنسان هل نقول: إنه عاصٍ، أو نقول: مخالف للنهي؟ مخالف للنهي بالاتفاق لا شك فيه، وأما العاصي فأكثر أهل العلم يقولون: إن المعصية لا تكون إلا في الشيء المحرم ولا نطلق على من فعل مكروهًا بأنه عاصٍ.

وقوله: "عزائمه" جمع عزيمة، بمعنى: معزومة، كفعيل معنى مفعول، والمعزوم: الشيء المؤكد، ومنه العزم "عزم الإنسان" العازم: يعني بإرادة مؤكدة، فالعزائم إذن: جمع عزيمة وفي الشيء المؤكد مثل المفروضات والواجبات هذه عزائم لفعلها، والمحرمات أيضًا عزائم لتركها، لكن هنا "كما يحب أن تؤتى عزائمه" لا شك أن المراد بها: المأمورات دون المنهيات والمحرمات؛ لأن الله لا يحب أن تؤتى عزائمه المنهية.

من فوائد الحديث: أولًا: كمال الله عز وجل بعلوه الذاتي والوصفي لقوله: "تعالى".

وثانيًا: إثبات المحبة لله.

وثالثًا: سعة كرمه وجوده؛ حيث يحب من العباد أن يأتوا الرخص.

ص: 305

ورابعًا: أنه ينبغي للمسافر أن يترخص برخص السفر، وهذا وجه الشاهد من هذا الحديث. فإذا قال قائل من المسافرين: أنا لا يشق علي الإتمام فلا إثم؟

نقول له: هذا خلاف ما يحبه الله، فالله تعالى يحب منك أن تأتي رخصه.

لو قال: أنا لا أريد الجمع مع أنه قد جد به السير.

نقول له: إن الذي يحبه الله منك أن تجمع؛ ولهذا كان القول الصحيح - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - أن الجمع للمسافر عند الحاجة وغيرها أيضًا أفضل من عدم الجمع وأننا لا نعبر فنقول يجوز للمسافر أن يجمع إلا إذا كان ذلك في مقابلة المنع فلا بأس، إنما الصحيح: أنه يستحب أن يجمع إذا دعت الحاجة إليه.

ومن فوائد الحديث: إثبات أن الله تعالى يكره أن يعصى، وهذا يستلزم فائدة وهي: أن يبتعد الإنسان عن معصية الله ما دام يعلم أن الله يكرهها، فإنه لا يليق به وهو مؤمن بالله عز وجل أن يفعل ما يكرهه الله، لو أن أحدًا من المخلوقين تعلم أنه يكره أن تفعل شيئًا من الأشياء وهو عزيز لديك هل تفعل ذلك؟ لا؛ لأنه يكرهه، فالرب عز وجل أولى أن يستحي الإنسان منه ولا يقع في معصيته.

ومن فوائد الحديث أيضًا: أن فعل الرخص كفعل الواجبات بناء على الرواية الثانية لقوله: "كما يحب أن تؤتى عزائمه"، فهل نقول: إنه يدل على وجوب الترخص؟ نقول: لا ما يدل على وجوب الترخص؛ لأنه لو وجب الترخص لكان من العزائم، وقد علم الفرق بين المشبه والمشبه به، وأن المشبه غير المشبه به، فلو أوجبنا الرخص لكانت عزائم ولما كانت رخصًا في الواقع؛ لأن العزيمة الشيء المؤكد الذي لابد من فعله ما يستطيع الإنسان أن يتخلص منه، رخص السفر التي شرعها الله: القصر، والجمع، والفطر، والرابع مسح الخفين ثلاثة أيام، وسقوط الجمعة عن المسافر، كذلك قال بعض العلماء: من رخص السفر أكل الميتة، والصواب: أن أكل الميتة لا يختص بالسفر، والصواب: أن الإنسان لو اضطر لأكل الميتة ولو في الحضر فله أكلها؛ لأن الله يقول: } فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه {[البقرة: 173].

تحديد مسافة القصر:

410 -

وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميالٍ أو فراسخ، صلى ركعتين". رواه مسلم.

هذا الحديث اختلف العلماء في معناه، وفي حكمه، قوله:"ثلاثة أميال" الأميال: جمع ميل وهو مقدر بالأذرع وبالأمتار، كم الميل بالأمتار الآن؟ أكثر من كيلو ونصف (1700) متر تقريبًا،

ص: 306

وحده بعضهم بأنه: ما مال من الأرض عند منتهى ميل الأرض، أنت مثلًا إذا كنت تشاهد شخصًا وكان بعيدًا فما كان عند ميل الأرض- ومعلوم أن الأرض تميل- فإنه ميل، ولكن هذا الحد فيه صعوبة؛ لأن الناس يختلفون في قوة النظر، ولأن الأرض أيضًا قد تخلف بالنسبة للميل وهو نظير من حدَّ المد بأنه ملّ الكف مرتين هذا صعب، وكذلك من حدّ المثقال بالشعير بحبات الشعير، فإن هذا أيضًا غير منضبط؛ لأن في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لا يوجد مساحين يمسحون الأرض بحث يُحدِّون أن هذا ميل لا يزيد ولا ينقص، لكنه على سبيل التقريب.

وقوله" "أو فراسخ" جمع فرسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، فبناءً على أن الحديث ثلاثة فراسخ كم تكون بالميل؟ تسعة أميال، والشك هنا من الراوي من "شعبة" شك هل قال: ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ، وهذا الشك هل يوجب أن تلغي الحديث كله، أو نلغي ما وقع الشك؟ الثاني، فالأميال داخلة في الفراسخ؛ لأن الفراسخ أبعد منها، وعلى هذا فنقول: نقدر أنها ثلاثة فراسخ، فهذا يدل على أن الرسولصلىللهعليهوسلم إذا خرج ثلاثة فراسخ صلى ركعتين، هذا الحديث كما ترون استقر فيه الرأي على أنه خرج ثلاثة فراسخ.

ولكن ما معنى قوله: "إذا خرج" هل المراد: إذا خرج من البلد لقصد سفر يزيد على ثلاثة فراسخ، ويكون المعنى أنه لا يبدأ صلاة ركعتين إلا إذا بعد عن البلد ثلاثة فراسخ أو ثلاثة أميال، هكذا فسره من يرون أنه لا يقصر إلا في ستة عشر فرسخًا كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد بأنه لا يقصر إذا قصد ستة عشر فرسخًا، يعني: يومين قاصدين لسير الأحمال، ودبيب الأقدام فيؤولون هذا الحديث إلى أن معناه لا يبتدئ القصر إلا بعد أن يفارق البلد بثلاثة فراسخ تسعة أميال، ولكن هذا التأويل غير صحيح؛ لأن أنسًا يقول:"إذا خرج ثلاثة أميال"، فظاهره: أن منتهى خروجه يكون ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ، ولأن هؤلاء الذين يقولون: إن معناه: لا تبدءوا القصر إلا بعد ثلاثة فراسخ هم أنفسهم يقولون: إنه يجوز للإنسان أن يقصر الصلاة إذا فارق البنيان، وإن لم يبعد إلا شبرين، فيكون فهمهم للحديث مخالفًا لما يقولون.

فالصواب: المعنى الأول للحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى هذه المسافة قصر الصلاة، بمعنى: أنه إذا كان مُنتهى سفره ثلاثة فراسخ فإنه يقصر، ولكن هذا على سبيل الشرط، بمعنى: لأنه لو خرج أقل من ذلك فإنه لا يقصر، أو إنه بيان للواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج فعل كذا، وأنه ليس بشرط فلو سافر سفرًا أقل من هذا وهو يعد سفرًا فإنه يقصر؟ إلى هذا الأخير ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقالا: إنه لا يصح تحديد المسافة للسفر، وأنه يقصر إذا

ص: 307