الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المهم: أن هذا الحديث- كما ترون- موقوف على الصحابة، فيكون هذا من فعل الصحابة لكن الذي ينسب من فعل التابعي يسمى مقطوعًا، أما الحديث المرفوع فيقول ابن القيم: إنه لا يصح رفعه، بل قال بعضهم: إنه لا يشك في وضعه، وقد روي عن الإمام أحمد ما يدل على أنه أنكره، وعلى هذا فمسألة تلقين الميت بعد موته لا أصل لها ولا ينتفع به؛ لأن عمله انتهى، قولنا له:"قل لا إله إلا الله" ماذا يفيده؟ ومن يقول: إنه يقول: لا إله إلا الله بعد موته؟ وإنما إذا سئل أجاب، فقال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، فالصواب في هذه المسألة أنه لا يستحب تلقين الميت بعد موته سواء كان بالغًا عاقلًا أو صغيرًا، وقال بعض العلماء: إنه يلقن الكبير العاقل دون الصغير والمجنون؛ لأنهما غير مكلفين ولكن الصحيح عدم التلقين مطلقًا، وإنما يستغفر له ويسأل له التثبيت، وهذا الظاهر من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه مادام يقف عليه، ويقول:"استغفروا لأخيكم"، ولا يلقنه ولم يأمر بتلقينه دل على أن هذا ليس من السنة.
زيارة النساء للقبور:
557 -
وعن بريدة بن الحصيب الأسلميِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها". رواه مسلمٌ.
- زاد التَّرمذيُّ: "فإنها تذكِّر الآخرة".
وفي رواية لمسلم أيضًا: "فإنها تذكر الموت"، قوله- عليه الصلاة والسلام:"زوروا" الزيارة هي: أن يفد الإنسان إلى المزور إما لقرابة أو صداقة أو غير ذلك فإن كانت لمرض سميت عيادة؛ لأنها تتكرر.
وقوله: "كنت نهيتكم" أي: فيما سبق، وقوله:"فزوروها" أمر لكنه ورد بعد النهي، وسيأتي- إن شاء الله- الكلام عليه، وقوله:"فإنها تذكر الآخرة" الجملة تعليل للأمر بالزيارة، ومعنى قوله:"فإنها تذكر الآخرة" أي: تجعل الإنسان يذكر الآخرة؛ لأنه إذا مرّ بهؤلاء القوم وزارهم وكانوا بالأمس معه على ظهر الأرض وهم الآن في أعمالهم مرتهنين، فإنه لا شك يذكر هذا اليوم فهذا الحديث يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد نهى أصحابه عن زيارة القبور، وذلك في أول الأمر خوفًا عليهم من الشرك؛ لأن زيارة القبر قد تكون ذريعة إليه- أي: إلى الشرك- فإن الذين يزورون القبور لا تخلو حالهم من أحوال أربعة: إما أن يدعوا لأهل القبور وإما أن يدعوا الله بأهل القبور، وإما أن يدعوا الله عند القبور، وإما أن يدعوا أهل القبور أنفسهم، فهذه أحوال من يزور القبور.
أما الدعاء لهم فهذه هي الزيارة المشروعة الني كان الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، فإنه يسلم عليهم ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة، وأما دعاء الله بهم فأن يجعلهم وسيلة إلى الله عز وجل مثل أن يقول:"اللهم إني أسألك بصاحب هذا القبر"، وهذه بدعة محرمة سواء كان صاحب هذا القبر شهد له بالخير أو لم يكن كذلك حتى ولو كان للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يجوز لك أن تتوسل به في دعائك، وأما الدعاء عندها فأن يقصد الإنسان المقبرة يزورها معتقدًا أن الدعاء عند القبور أفضل من الدعاء في المساجد أو في البيوت، وهذا أيضًا بدعة مكروهة واعتقاد فاسد، فإنه لا مزية للدعاء عند قبر أبدًا، ولهذا كان القول الراجح: أن الإنسان لا يدعو ولا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعض العلماء قال: يستحب لمن زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتجه إلى القبلة بعد السّلام عليه ويدعو، والصواب خلاف ذلك، وأن هذا المكان ليس من الأمكنة التي تقصد للدعاء، والرابع: أن يدعو أصحاب القبور، يعني: يقول: يا سيدي، يا ولي الله، يا نبي الله، أغثني، أعطني كذا، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة؛ لقوله تعالى:{ومن يدع مع الله إلهًا آخر لا برهان له به، فإنَّما حسابه عند ربِّه، إنَّه لا يفلح الكافرون} [المؤمنون: 117]. فهذه أحوال من زار القبور.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور"، والحكمة من ذلك: أن ذلك في أول الأمر مخافة أن تكون تلك الزيارة ذريعة إلى الشرك، فلهذا نهى عنها. ثم قال:"فزوروها" يعني: أمر بعد النهي بالزيارة، والأمر بعد النهي اختلف فيه أهل العلم، فمنهم من يقول: إن الأمر بعد النهي يفيد الإباحة، أي: أن هذا الشيء الذي كان منهيًّا عنه صار الآن مباحًا؛ وذلك لأن لما نهي عنه انتقل حكمه من الإباحة إلى النهي، فلما أذن فيه ارتفع النهي فبقيت الإباحة، ومثاله قوله تعالى:{يا أيُّها الَّذين آمنوا لا تُّحلُّوا شعائر الله ولا الَّهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلًا مِّن رَّبهم ورضوانًا وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2]. فأمر بعد النهي، ولكن هذا الأمر في الحقيقة ليس نسخًا؛ لأنه بيان لغاية النهي؛ لأنه قال:{لا تُّحلُّوا شعائر الله ولا الشَّهر الحرام} ، ثم قال:{وإذا حللتم فاصطادوا} ، فبين أن النهي قد انتهى وليس هذا نسخًا، لكن مثل هذا الذي معنا نسخ من النهي إلى الأمر، فهل زيارة القبور مباحة لورودها بعد النهي؟ قيل بذلك، والصواب: أن الأمر بعد النهي رفع للنهي، وإعادة لحكم المنهي عنه إلى حكمه الأول: إن كان مستحبًا فهو مستحب، وإن كان غير مستحب، فهو غير مستحب.
وهذا الحديث الذي معنا فيه قرينة تدل على أن الأمر للاستحباب، وهي قوله:"فإنها تذكر الآخرة"، وعلى هذا فيكون الأمر بالزيارة مستحبًّا لهذا التعليل.
وفي رواية أخرى لمسلم: "فإنها تذكر الموت": تذكر الإنسان حاله أنه سيكون إلى ما كان عليه هؤلاء، ومعلوم أن الإنسان إذا ذكر الموت فسوف يعمل له إذا كان عاقلًا.
في هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: إثبات النسخ- نسخ الأحكام- لقوله: "كنت نهيتكم"، ثم قال:"فزوروها"، وثبوت النسخ واقع بالكتاب والسنة، يقول الله عز وجل:{ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها ألم تعلم أنَّ الله على كل شيء قديرٌ} [البقرة: 106]. وكذلك كل أحكام الأمم السابقة التي يخالفها شرعنا كلها منسوخة، كتحريم كل ذي ظفر على اليهود وما أشبه ذلك، ومن أدلة القرآن مثال واقع في مثابرة العدو حيث أمر الله تعالى بألا نفر إلا إذا كان العدو عشرة أمثالنا، ثم ننسخ فقال الله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون
…
} إلى قوله: {لَّا يفقهون (65) الآن خفَّف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا فإن يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين بإذن الله} [الأنفال: 65 - 66].
وكذلك الصيام: {أحلَّ لكم ليلة الصيام .... } إلى قوله: {فالآن باشروهنَّ .... } [البقرة: 187]. وأما في السنة فالأمثلة في ذلك كثيرة، منها هذا الحديث:"كنت نهيتكم فزوروها" ففيه إثبات النسخ.
فإن قلت: كيف يثبت النسخ، والله- سبحانه وتعالى بكل شيء عليم، لماذا لم يشرع الله هذا الحكم من أول الأمر ولا يأتي بالنسخ؟
فالجواب: أن النسخ من مصالح العباد لا لخفاء الأمر على الله عز وجل، لكن العباد قد يقتضي صلاح أحوالهم الحكم المنسوخ إلى مدة ثم يكون صلاح أحوالهم بالحكم الناسخ، وهذا أمر معلوم، أي: أن أحوال الإنسان تتغير بالنسبة للأحكام، فقد تكون الأحكام في حال من الأحوال مناسبة، وفي حال أخرى غير مناسبة، وهذه هي الحكمة في ثبوت النسخ.
ويستفاد من هذا الحديث أيضًا: أن أحكام الله عز وجل تابعة لحكمها، وأن الحكم يدور مع علته، وجهه: أن الناس لما كانوا حديث عهد بكفر وكانت فتنة القبور قد تكون قريبة نحوهم نهوا عن زيارة القبور، ثم بعد ذلك نسخ هذا الحكم، ففيه دليل على أن الأحكام تتبع الحكم.
ومن فوائد الحديث أيضًا: أنه يجب على من علم الحكم الشرعي أن يرجع إليه ولو كان حكم في الأول بخلافه، بمعنى: أن الإنسان لو اجتهد فأداه اجتهاده إلى أن هذا الشيء حرام، ثم تبين له أنه حلال أو بالعكس، فيجب عليه الرجوع، كما يجب الرجوع إلى الحكم الناسخ عند وجود النسخ، والعلة الجامعة بينهما: أنه قد تبين لهذا المجتهد أن حكم الله تعالى خلاف الحكم الأول كما تبين في النسخ أن حكم الله خلاف الحكم الأول.
ومن فوائد الحديث: مشروعية زيارة القبور، وأنه ينبغي للإنسان أن يزور القبور، وكلمة "زوروها" فعل، والفعل يدل على الإطلاق، والإطلاق يحصل بفعل الشيء مرة، ولكن متى تكون هذه الزيارة؟ هل لها وقت معين؟ الصواب: أنه لا وقت معين لذلك، وأن الإنسان يزور المقبرة في أي وقت شاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق، ما قال: زوروها في أول النهار ولا في آخره، ولا
في الجمعة، ولا في الاثنين، ولا في الخميس، ولا في غيرها، فتشرع زيارة القبور كل وقت، بل قد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى أهل البقيع فسلم عليهم في الليل كما عند مسلم من حديث عائشة مطولًا، فعلى هذا نقول: زيارة القبور مستحبة في كل وقت.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يفعل ما يذكره بالآخرة، وجهه: أن الرسول أمر بالزيارة؛ لأنها تذكر بالآخرة، وهذا متى أوضح القياس وأجلاه إذا ألحق الفرع بالأصل في علة منصوصة عليها فهذا أبين القياس، وعلى هذا كل ما يذكّر الآخرة فإنه ينبغي للإنسان فعله سواء زيارة القبر، أو قراءة آيات موعظة أو أحاديث موعظة أو جلوس عند واعظ كلامه مؤثر أو ما أشبه ذلك.
ومن فوائد الحديث أيضًا: أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ بأنواع الأسباب المؤثرة لا يقتصر على سبب واحد، بل كل الأسباب المؤثرة؛ لأنه لا شك أن القرآن أعظم واعظ وأن السنة بعده، ولكن هذا سبب آخر لاتعاظ الإنسان، فكونه يأخذ من كل نوع من المؤثرات بنصيب أحسن؛ لأن القلب أحيانًا قد لا ينتفع بهذه الموعظة العظيمة إما لكثرة ورودها عليه وإما لغفلته عندها أو ما أشبه ذلك، لكنه يتأثر بنوع آخر من المواعظ وإن كانت دونها في الأصل، وهذا أمر مشاهد.
ومن فوائد الحديث: أنك لو أمسكت أخاك، قلت: اجلس بنا نتذاكر الآخرة، نتذاكر الموت، نتذاكر آيات الله عز وجل، حتى نزداد إيمانًا ويقينًا، فإن ذلك من الأمور المشروعة، وقد كان السلف- رحمهم الله يقول بعضهم لبعض:"اجلس بنا نؤمن ساعة" يعني: نحقق الإيمان واليقين ساعة، فهذا من الأعمال الطيبة، وكذلك لو كان الإنسان أحيانًا إذا غفل جلس مع نفسه ونظر وتذكر في الأمر وأحدث بذلك إنابة إلى الله عز وجل وخشية ورجوعًا إليه، فهذا أيضًا من الأعمال المطلوبة التي يدل عليها هذا الحديث.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الموت والقبر من أمور الآخرة، فهو داخل الإيمان باليوم الآخر لقوله:"فإنها تذكركم الآخرة"؛ ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية-: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فالقبور لا شك أنها من الآخرة وهي أول درجاتها ومراحلها، حتى قل بعضهم: إذا أردت صورة مصغرة ليوم القيامة فاخرج إلى المقبرة، تجد فيها الشريف والوضيع، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، كلهم سواء، كلهم تحت هذا التراب، كلهم عليهم ما عليهم من التراب، ما فيه أحد عنده قصر ولا أحد عنده خدم، ولا شيء، ولهذا قيل: أول عدل الآخرة القبور، جاء إعرابي إلى بلد فيها حاكم فإذا الحاكم قد مات، فسأل عنه، فقالوا: إنه مات، قال: أين ذهب؟ قالوا: ذهب إلى المقبرة، فخرج إلى المقبرة فجاء إلى المقبرة يريد أبهة، يريد الخدم والحشم، دخل ما وجد إلا حفار القبور. قال له: أين الحاكم
الفلاني؟ قال له: الحاكم الفلاني هذه. قال: يا ويله، وهذا الذي جنبه من هي؟ قال: هذه عجوز كانت مشهورة في السوق ماتت الآن وقبرها مرشوش رطب، وقبر الحاكم يابس، فقال: يا ويله هذه تسقى ماء، وهذا لا يسقى ماء، وقام متعجبًا، فقال حفار القبور: هذا ما رأيت فهذا عدل أو غير عدل؟ عدل، رجل حاكم لا يدخل عليه إلا باستئذان وامرأة في السوق ناقصة العقل هما سواء، فهذا فول الرسول صلى الله عليه وسلم:"فإنها تذكر الآخرة".
ومن فوائد الحديث: أن ظاهرة العموم، أي: يشمل الرجال والنساء؛ لأن الأصل في الخطاب العموم، حتى وإن كان الخطاب للرجال فإنما يخاطب الرجال تغليبًا؛ ولأن الرجال هم أهل الحل والعقد والتقويم والتهذيب، فكانت توجيهات الخطاب في القرآن والسنة إلى الرجال؛ لأنهم أشرف؛ ولأنهم هم أهل توجيه الخطاب؛ لأنهم قوّامون على النساء، وعموم الحديث يتناول النساء، وأنه يشرع لهن زيارة القبور، وقد قال بذلك بعض أهل العلم، ولكن شيخ الإسلام رحمه الله رد هذا القول، وبيّن ضعفه من أوجه عديدة ذكرها في الفتاوى، ويدل لذلك على استثناء النساء من هذا، إن قلنا بدخولهن فإنه يدل على استثنائهن ما في الحديث الذي بعده، لكن هنا علة أخرى نذكرها أولًا، قال:
558 -
زاد ابن ماجه من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه: "وتزهِّد في الدُّنيا".
"تذكر الآخرة وتزهد في الدنيا" واللفظ الثاني في مسلم: "تذكر الموت"، فعلى هذا يكون فيها ثلاث فوائد: التذكير بالآخرة وهو يوم القيامة، التذكير بالموت، التزهيد في الدنيا، ما معنى الزهد في الدنيا. تزهد فيها أي: ترغب في الإعراض عنها وعدم المبالاة بها، ومنه قوله تعالى:{وشروه بثمن بخسٍ دراهم معدودةٍ وكانوا فيه من الزَّاهدين} [يوسف: 20]. يعني: راغبين أي: الذين لم يبالوا به، فالتزهيد في الدنيا معناه: أن الإنسان لا يبالي في الدنيا ولا يهتم بها، ولكن ما معنى التزهيد في الدنيا هل معناه: ألا نعمل للدنيا أبدًا ونتركها ويجلس الواحد في المسجد لا يخرج ولا يعمل ولا يتكلم؟ لا، المعنى ألا تكون أعمالنا للدنيا ليس ألا نعمل في الدنيا، ولكن ألا تكون أعمالنا لها، بمعنى: أن أعمالنا نصرفها إلى الآخرة، حتى لو بعنا أو اشترينا فإننا نريد بذلك الآخرة يستطيع الإنسان أن يبيع ويشتري من أجل أن يقوم بكفايته وكفاية أهله، وقد ابتاع واشترى الخلفاء الراشدون- رضي الله عنهم في خلافتهم لطلب الرزق، وقال الله تعالى:{رجالٌ لَّا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله} [النور: 37]. ولم يقل: لا يبيعون ولا يشترون.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: "إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا"، فالتزهد في الدنيا ألا تعمل لها، لا ألا تعمل فيها، فالعمل في الدنيا لا ينافي العمل للآخرة، لكن اجعل عملك في الدنيا مطية الوصول إلى الآخرة، فإذا قلنا: بع واشتر والبس الثياب وما أشبه ذلك، تقول: أزهد فألبس صوفًا، أو خيشة، ولا أنتفع بالناس، ولا ينتفع الناس مني، هذا غير صحيح قال الله تعالى:{هو الَّذي جعل لكم الأرض ذلولًا فامشوا في مناكبها وكلوا من رِّزقه} [الملك: 15]. وقال تعالى: {فإذا قضيت الصَّلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله
…
} [الجمعة: 10]. فالزهد في الدنيا تختلف أفهام الناس فيه فمنهم من يقول الزهد في الدنيا ألا تنظر إلى شيء منها أبدًا، وبعضهم يقول: لا، الزهد في الدنيا أن تعمل ما ينفعك في الآخرة ولو كان من أمور الدنيا وهذا هو الحق.
فإن قلت: ما تقول في قوله تعالى لرسوله- عليه الصلاة والسلام: {ولا تمدَّن عينيك إلى ما متَّعنا به أزواجًا مِّنهم زهرة الحياة الدُّنيا
…
} [طه: 131]؟
قلنا: هذا لا ينافي ما قلنا، الله سبحانه يقول: لا تمدن عينيك إليه لتتعلق به فإنه زهرة الحياة الدنيا، لم يقل: لا تنظر إليها إطلاقًا، لا تمدن إليها بحيث تتعلق بها حتى يكون أكبر همك فإنما هو زهرة الحياة الدنيا، نعم الإنسان الذي تشغله دنياه عن آخرته لا شك أنه خاسر للدنيا والآخرة، أما الإنسان الذي جعل الدنيا مطيّة للآخرة فهذا رابح في الدنيا والآخرة ولا شك أيضًا أن الدنيا فتنة عظيمة:{واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنةٌ} [الأنفال: 28]. والإنسان ربما يفتتن في الدنيا سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، قد يغنيه الله ومع ذلك هو مفتون بالدنيا، كأنه ليس في جعبته قرش واحد، وقد يكون فقيرًا ويفتن في الدنيا ويكتسبها على وجه محرم.
والحاصل: أن الزهد في الدنيا معناه: الإعراض عنها وألا تعمل لها، وأما العمل للآخرة في الدنيا فلا بأس به.
هناك زهد وهناك ورع هل بينهما فرق؟ قال شيخ الإسلام: إن الفرق بينهما أن الورع: ترك ما ير في الآخرة، والزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة، فالزهد إذن أكمل يتبين ذلك في المباح، المباح يفعله الورع؛ لأنه لا يضره في الآخرة، والزاهد يتركه؛ لأنه لا ينفعه في الآخرة، ولكن إذا كان وسيلة لنفعه في الآخرة فعله.
559 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور". أخرجه التِّرمذيُّ، وصحَّحه ابن حبَّان.
"لعن" يعني قال: اللهم العن زائرات القبور، أو قال: هن ملعونات؛ فعلى الأول يكون معنى "لعن": أي دعا باللعنة، وعلى الثاني يكون معنى "لعن" أخبر بأنهن ملعونات، وكلا الأمرين سواء في المعنى، واللعن هو: الطرد والإبعاد عن رحمة الله- سبحانه وتعالى، ولا يكون اللعن إلا على فعل كبيرة من كبائر الذنوب.
وقوله: "زائرات القبور" للمؤنث، وتحصل الزيارة بالمرة، فإذا زارت المرأة القبور ولو مرة واحدة فقد فعلت كبيرة من كبائر الذنوب، ودخلت في لعنة الله- والعياذ بالله-.
وقوله: "لعن زائرات القبور" ليس هو النهي؛ لأن النهي غير اللعن، والرسول صلى الله عليه وسلم ما قال: كنت لعنتكم فزوروها، حتى نقول: إن الحديث الأول ناسخ للثاني؛ ولهذا من حسن صنيع ابن حجر أنه أتى بالثاني بعد الأول إشارة إلى أن الثاني مخصص للأول وليس الأول ناسخًا له وهو كذلك، ومن تدبر الحديثين عرف أنه ليس بينهما نسبة نسخ إطلاقًا؛ لأن الحديث الأول:"كنت نهيتكم" عمومًا، والثاني خاص بالنساء، ثانيًا: أن الأول فيه النهي دون اللعن، والثاني فيه اللعن، فبينهما فرق واضح.
إذن يستفاد من هذا الحديث: أن زيارة المرأة للقبور من كبائر الذنوب.
فإن قلت: ألا تدخل في العموم السابق وتكون نسخًا؟
قلنا: لا يثبت لما عرفتم.
فإن قلت: ما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "لعن الله زوّارات القبور" بالتشديد و"فعال" صيغة مبالغة؟
قلنا: إن كلمة "زوّار" تأتي للمبالغة، وتأتي للنسبة كبنَّاء ونجَّار ونحو ذلك، وإذا كان الدليل محتملًا فمع الاحتمال يبطل الاستدلال، ثانيًا: على فرض أن "زوَّارات" للمبالغة فإن "زائرات" أعم؛ لأنه إذا لعنت الزائرة فالزوّارة كثيرة الزيارة من باب أولى، ومعلوم أننا نأخذ
بالأعم؛ لأنه أكثر فائدة، وعلى هذا فيكون حديث:"زوّارات" لا يعارض هذا اللفظ، فالجواب عنه بأحد وجهين كما عرفتم.
فإن قلت: ما الجواب عما رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم القبور وخروجها خلفه ثم رجوعها أمامه، ولما جاء وحدّثها بما فعل قالت: يا رسول الله، ماذا أقول لهم؟ قال:"قولي: السلام عليكم .... الخ". فإن قولها: "ماذا أقول لهم؟ " قد يشعر بجواز زيارة المرأة القبور.
فالجواب على هذا: أن عائشة ما قالت: ماذا أقول لهم إذا زرت القبور؟ بل قالت: "ماذا أقول لهم؟ " فقط، هذا لفظ مسلم، فيحمل على أحد أمرين: إما أن يكون دعاءً عامًا ليس سببه الزيارة، وإما أن يكون المراد: إذا مررت بها غير قاصدة للزيارة، ويكون هذا جمعًا بين الحديثين، وإذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب المصير إليه قبل أن نتدرج إلى الترجيح أو النهي، فنقول: المرأة إذا خرجت من بيتها قاصدة الزيارة فهي داخلة في اللعن، أما إذا مرّت بغير قصد الزيارة ووقفت وسلمت، فالظاهر: أن هذا لا بأس به وهو لا يعد زيارة، ولو فرض عده زيارة لكان حديث عائشة قد يدل على جوازه.
فإن قلت: ما الجواب عن زيارة عائشة رضي الله عنها لقبر أخيها عبد الرحمن حيث زارته وبكت؟
فالجواب: أنها قد قالت: "لو حضرت موتك ما زرتك"، فكأنها رضي الله عنها أرادت الدعاء له، ثم نقول: هو فعل صحابية عارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يعارض قول رضي الله عنه بقول أحد من الناس، ثم لعلها فهمت من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لها أن تقول لأهل المقابر:"السلام عليكم دار قوم مؤمنين" لعلها فهمت من ذلك: أنه يجوز زيارة المرأة ولم يبلغها حديث اللعن، فما دام فعلها فعل صحابي فيه احتمالات فإنه لا يكون حجة، ومهما كان في الحجة ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كان زيارة القبور محرمة بمقتضى الدليل فإنها محرمة أيضًا بمقتضى النظر والتعليل، كيف ذلك؟ لأن النساء رقيقات لينات العاطفة، لو فتح لهن الباب لكانت كل امرأة تذهب كل صباح ومساء إلى قبر أمها أو أبيها تصيح عنده وتنوح؛ ولهذا أعقب ابن حجر رحمه الله حديث زائرات القبور بحديث النائحة والمستمعة، فالمرأة لا تصبر، ثم غالبًا تكون المقابر خارج البيوت، فإذا خرج النساء إلى هذه المقابر كان سببًا لتعرض الفسَّاق وأهل الفجور إليهن، وربما يحصل بذلك فتنة عظيمة، فكان مقتضى النظر والتعليل منعهن من الزيارة لخوف فتنتهن
أو الفتنة بهن، خوف فتنتهن بماذا؟ بأن يخرجن ويلازمن القبور، وأن يحصل منهن عدم صبر ونياحة وندب وما أشبه ذلك، أما الفتنة بهن فربما يكون ذلك سببًا لتسرب الفساق وأهل الفجور إليهن؛ لأن المقابر في الغالب تكون خارج البيوت والمساكن، ولا شك أن زيارة المرأة للقبر محرمة ومن كبائر الذنوب.
فإن قلت: ما الجواب عما قاله الفقهاء: يكره للمرأة زيارة القبور، ويسن لهن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟
فالجواب: أن فقهاء الحنابلة- رحمهم الله كغيرهم من أهل العلم يخطئون ويصيبون فهم اعتمدوا في الحكم بالكراهة على حديث أم عطية السابق: "نهينا عن إتباع الجنائز ولم يعزم علينا"، وسبق الجواب عنه، ومقتضى قاعدتهم- رحمهم الله أن زيارة المرأة للمقبرة من كبائر الذنوب؛ لأنهم نصُّوا في باب الشهادات على أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة أو لعن، وهذا فيه لعن فيكون من الكبائر.
وأما قولهم: يسن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فهم قالوا: إن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن نقول لهم: ائتوا لنا ببرهان ودليل يدل على ثبوت هذه الخصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاب بعضهم: بأن زيارة المرأة لقبر النبي صلى الله عليه وسلم ليست زيارة حقيقية؛ لأن بينها وبين القبر ثلاثة جدران، ولهذا قال ابن القيم في النونية لما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى ألا يكون قبره وثنًا قال:
فأجاب ربُّ العالمين دعاءه
…
وأحاطه بثلاثة الجدران
ففي داخل القبة الصغيرة ثلاثة جدران كلها حامية لهذا القبر، قالوا: فإذا وقفت المرأة من وراء الشباك فبينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مساحة وجدر، فلا تعد زيارة، والزيارة التي لعنت فاعلتها هي: التي تقف على القبر، وهذه لم تقف على القبر فلا تكون داخلة في اللعن، وجوابنا على هذا أن نقول: في الحقيقة هذه شبهة قوية جدًّا كما سمعتم، فإن أحدًا من الناس لو أتى خمسة قبور عليها حيطان ثلاثة مثلًا ووقف وراء الحيطان هل يكون زائرًا؟ في الواقع قد نقول: ليس بزائر، لو جاء واحد وأنت مثلًا في وسط غرفة في وسط مجلس، والمجلس في وسط الحوش، والحوش في وسط الحديقة، ومن وراء الحديثة، جدار وسلّم عليك من وراء الجدار: السلام عليك يا فلان، كيف حالك؟ كيف أصبحت؟ يكون زائرًا لك أو غير زائر؟ غير زائر، فيكون هذه ليست بزيارة، في الحقيقة أنه تعليل قوي جدًّا، لكن قد نقول: إن الزيارة مطلقة، الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق لعن زائرات القبور ولم يحدد، والقاعدة الفقهية: أن ما لم يحدد بالشرع فحده العرف.
وكلُّ ما أتى ولم يحدَّد
…
بالشَّرع كالحرز فبالعرف احدد
فيحدد بالعرف، ومعلوم عند الناس الآن أن الإنسان إذا تقدم من المسجد إلى اتجاه قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ووقف أمامه وسلّم عليه كلهم يقولون: هذه زيارة، ولهذا يقول المزورون: تعال نزرك؛ إذن فهي زيارة.
وعليه؛ فإني أرى أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم كغيره، بمعنى: أنه لا يجوز للمرأة أن تزوره، وإن كان فقهاؤنا يرون أن المرأة تزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه سنة لها كحال الرجل.
واستفدنا من الحديث الأول والثاني: أنه ينبغي لزائر القبور أن يكون على جانب من الخشية والتذكر والتأمل لا يزور المقبرة وكأنما زار حفلًا: يضحك، ويتكلم في أمور الدنيا، ولهذا كره أهل العلم لمتبع الجنازة أن يتكلم بشيء من أمور الدنيا، بل الذي ينبغي أن يكون الإنسان خاشعًا متذكرًا للآخرة، وفي الحديث الصحيح الطويل المشهور حديث البراء بن عازب قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وجلسنا حوله كأنما على رءوسنا الطير، يعني: أنهم قد خفضوا رءوسهم ولا يتحركون في حالة خشوع، وهذا هو الذي ينبغي للإنسان فعله.
560 -
وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّائحة، والمستمعة". أخرجه أبو داود.
"لعن النائحة"، من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد لعنه الله، واللعن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله.
وقوله: "النائحة"، هناك نوح وندب؛ فالندب: رفع الصوت بتعداد محاسن الميت، ويقترن بواو الندبة فتقول:"وا سيداه" وا كذا، وتذكر الأوصاف التي هي محاسن لهذا الميت، وأما النّوح: فإنه البكاء برنّة تشبه نوح الحمام، ونوح الحمام معروف لكم جميعًا، فهذه هي النياحة.
النبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة؛ لأن النائحة يدل فعلها على عدم الصبر على قضاء الله وقدره؛ ولأن النائحة تفجع من يسمعها فتزداد المصيبة بذلك؛ ولأن النوح أيضًا يكون أحيانًا سببًا للطم الخدود وشق الجيوب وذر التراب على الرءوس أو التمرغ على الأرض وما أشبه ذلك، فلأجل هذه الأمور الثلاثة لعنت النائحة، لعنها النبي صلى الله عليه وسلم.
أما "المستمعة": فهي التي تجلس عندها لتستمع إليها، وليست المستمعة هي السامعة، كأن
تكون مارة وسمعت فليس عليها إثم، إنما المستمعة التي تجلس تستمع إلى هذه النائحة فإن شحذتها زيادة صارت أشد، وهذا يوجد كثيرًا في أحوال النساء الآن، يحدث كثيرًا أن يجتمع نسوة: واحدة تنوح والثانية ترقق لها طول النهار، هذا الفعل يجدد المصيبة ولا يمكن أن تزول عن قلب المرأة، كلما ذكرت هذا الاجتماع ولو بعد حين فإنها تحسّ بهذه المصيبة؛ فلذلك لعن النبي صلى الله عليه وسلم المستمعة، السامعة مثل أن تمر امرأة إلى جوار بيت ينوح أهله فتسمع النوح أو الجيران يسمعون النوح، لكن ما يستمعون فلا يدخلون في اللعن؛ لأن السماع لا يؤخذ به الإنسان، أما الاستماع فهو: الذي يصغي إلى الشيء ويستمعه وينصت له، فهذا يكون مشاركًا للفاعل في الإثم.
فيستفاد من هذا الحديث: جواز اللعن على ما دون الكفر؛ لأن النوح والاستماع له لا يخرج الإنسان إلى الكفر، وإذا كان لا يخرج إلى الكفر ومع ذلك جاز لعن النائحة، وهنا سؤال: هل يجوز إذا رأينا نائحة هل نلعنها بعينها؟ لا يجوز، وأن هناك فرقًا بين اللعن بالوصف وبين لعن الشخص: أما لعن الوصف فجائز، وأما لعن الشخص فقد نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم لما قال: اللهم العن فلانًا، وفلانًا نهاه الله وقال له:{ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم أو يعذبهم} [آل عمران: 128]. ربما هذا الذي فعل ما يوجب اللعن الآن يمنّ الله عليه فيهتدي، لو رأينا رجلًا يبول في الطريق أو يتبرز فيه هل نلعنه بعينه؟ لا، لكن لنا أن نقول- وهو يسمع-: اللهم لعن من تغوط في طريق المسلمين، وفي هذه الحال حتى هو لا يغضب مثل لو قلت له: لعنك الله.
561 -
وعن أمِّ عطيَّة رضي الله عنها قالت: "أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألَّا ننوح". متَّفقٌ عليه.
"أخذ" يعني: عهدًا، والمفعول به محذوف، يعني: أخذ علينا عهدًا ألا ننوح، وذلك عند البيعة حين بايعهن على ألا يشركن بالله شيئًا ولا يسرقن
…
الخ، وهذا كان بعد صلح الحديبية، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبايعهن، ومن جملة ما يأخذ البيعة عليهن فيه ألا ينحن، لماذا خصّ هذا؟ لأنه كان من عادة النساء، فكان يأخذ عليهن- حتى في البيعة على الدين- ألا ينحن.
562 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "السميِّت يعذَّب في قبره بما نيح عليه". متَّفقٌ عليه.
563 -
ولهما: نحوه عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
قوله: "الميت يعذب في قبره""الميت" مبتدأ وهو عام، وخبره "يعذب" والباء في قوله:"بما"
للسببية، و"ما" يحتمل أن تكون اسمًا موصولًا، أي: بالذي نيح عليه به، ويحتمل أن تكون مصدرية أي: بالنوح عليه، هذا إعراب الحديث، أما معناه: فإن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بأن الميت إذا ناح عليه أهله فإنه يعذّب في قبره، والنياحة سبق لنا تعريفها بأنها: صوت بالبكاء صوت خاص يشبه نوح الحمام، وهو يشبه التطريب بالبكاء بالنسبة للآدميين.
وقوله: "يعذّب بما نيح عليه". يقول المؤلف: "ولهما" أي: للبخاري ومسلم، "عن المغيرة بن شعبة نحوه"، وكذلك صحّ عن عمر في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وفي لفظ لمسلم من حديث عمر:"يعذّب ببعض بكاء أهله عليه".
والآن هذا الحديث يدلنا على أن النوح كما أنه سبب للعن والطرد بالنسبة للنائحة فهو أيضًا سبب لتعذيب الميت به، وهذا الحديث مما أشكل على الصحابة فمن بعدهم، حتى إن أم المؤمنين رضي الله عنها عائشة أنكرت ذلك، وقالت: إنكم ما كذبتم ولا كذبتم ولكن السمع يخطئ، فنسبت عمر وابنه إلى الخطأ في السمع والوهم، واستدلت لإنكارها بقوله تعالى:{ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى} [فاطر: 18]. وهذه القاعدة الكلية العامة ثابتة في الكتب السابقة، وفي كتابنا القرآن الكريم قال الله تعالى:{أم لم ينبّأ بما في صحف موسى (36) وإبراهيم الَّذي وفَّى (37) ألَّا تزر وازرةٌ وزر أخرى (38)} [النجم: 36 - 38]. فهذا متفق عليه في الشرائع أن الوازرة يعني: النفس التي تتحمل الوزر لكونها مكلّفة لا تحمل وزر غيرها إلا إذا كانت هي السبب في هذا الوزر، فإنها تعاقب بمثل العامل لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من دل على خير كفاعله". وكذلك: "من سنّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"، ولهذا كان ابن آدم الذي قتل كان عليه كفلٌ من كل نفس قتلت بغير حق؛ لأنه أوّل من سنّ القتل- والعياذ بالله-.
إذن نقول: هذا الحديث ظاهره مشكل بالنسبة للآية الكريمة، وعائشة رضي الله عنها قالت: إن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بيهودية تبكي، فقال:"إنها لتبكي، وإن الميت- اليهودي- ليعذب في قبره"، فاستدلت بالآية وبالحديث، فهي رأت رضي الله عنها أن هذا الحديث الذي معنا حديث ابن عمر، وحديث المغيرة، وحديث عمر مخالف للقرآن وروت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك لامرأة يهودية كان أهلها يبكون عليها وهي تعذّب في قبرها.
ونحن نقول: أما توهيمها الرواة فهو في غير محله؛ لأن الأصل في الثقة عدم الوهم،
ولا سيما مثل عمر وابن عمر والمغيرة بن شعبة وغيرهم، قد يكون سمعه، لكن ما حدّث به أحدًا، وأما استدلالها بالحديث فنحن نقبله منها على العين والرأس، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك في هذه المرأة اليهودية، لكن لا يمنع أن يكون قال قولًا آخر في موضع آخر، فهي روت وعمر وابنه رويا ما رويا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما سمعاه منه فحينئذ يكون ردها لهذا الحديث بوجود المانع وهو:{ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى} غير صحيح، وردّها له لوجود حديث آخر أيضًا غير صحيح، السبب أن القصة متعددة، فهي روت قصة أخرى غير التي حدّث بها النبي صلى الله عليه وسلم وسمعها عمر وابنه.
وحينئذٍ يبقى علينا الآن الإشكال لا زال باقيًا بالنسبة لظاهر الحديث مع ظاهر الآية: {ألَّا تزر وازرةً وزر أخرى} [النجم: 38]، {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى} آيتان فما هو الجمع؟ اختلف العلماء في الجمع، يعني: بعد أن نقول: إن الحديث ثابت فنحتاج إلى الجمع، أما على من أنكر الحديث كعائشة فإنه لا يحتاج إلى الجمع؛ لأنها رأت أن الآية مرجحة على هذا الحديث وأن هذا وهمٌ، لكن نحن نرى: أن الحديث صحيح، ولكن يبقى النظر في الجمع بينه وبين الآية، اختلف العلماء في ذلك على عدة أقوال: فمنهم من قال: إن الجمع هو: أن الحديث إنما كان فيمن أوصى بالنوح بأن كان الميت هو الذي قال لأهله: إذا مت فنوَّحوا عليَّ إذا لم تنوحوا عليّ، قال الناس: إنهم لم يهتموا به فأوصيكم بأن تنوحوا عليّ، ومعلوم أنه من أوصى بالإثم فهو آثم، فإذا نفِّذ فإنه يأثم، وهذا التعليل- كما تعلمون- عند التأمل عليل جدًّا؛ لأن الحكم أنيط بالنوح، والميت بمجرد وصيته بالإثم يكون آثمًا سواء ناحوا أو لم ينوحوا فلا يمكن أن نلغي الوصف الذي علِّق به الحكم في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ونعتبر وصفًا جديدًا لم يدل عليه الحديث، وقال بعض أهل العلم: إن هذا في رجا اعتاد أهله وذووه أن ينوحوا على أمواتهم وهو يعلم بهم ولا ينهاهم فيكون كأنه مقرٌّ لهم؛ لأنه يعلم بمقتضى عادتهم أنه إذا مات سوف ينوحون عليه، قالوا: ويجب على من كان هذه عادة أهله وذويه أن ينهاهم عند موته، ويقول: لا تنوحوا عليّ كما تنوحون على أمواتكم، فإن لم يفعل فهو آثم ويعذب في قبره، وعلى هذا فيكون هذا الرجل عذِّب في قبره على ترك إنكار المنكر بعد موته؛ لأنه من الجائز ألا ينوحوا عليه؛ لأن هذا أمر عادي، والعادي قد يتخلف فهم يؤثمونه؛ لأنه لم يوص بتركه وهم من عادتهم أن ينوحوا على أمواتهم، هذان قولان مع قول عائشة فتكون ثلاثة أقوال.
والقول الرابع: يقولون: إن الحديث يقول: "إن الميت ليعذّب" والعذاب نوعان: عذاب على عقوبة، وعذاب بشيء لا يلائم الإنسان فيتعذب به، وليس فيه عقوبة، لكن يتعذب بمعنى: أنه يهتم ويحزن وما أشبه ذلك، فأما على الأول أن يكون العذاب عقوبة على فعل معصية فهذا بالنسبة للميت غير وارد؛ لأنه ما فعل ذنبًا إنما فعل الذنب غيره، وأما الثاني: وهو الاهتمام
بالشيء والتألم منه بدون أن يمسه عذاب فهذا يمكن، قالوا: ومن هذا النوع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن السفر قطعة من العذاب"، ومعلوم أن المسافر لا يجلد ولا تقطع يده ولا رجله، وإنما يكون مهتمًّا متشوش البال لا يستريح إلا إذا وصل مقره، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وهو أحسن الوجوه عندي؛ لأنه يحصل به الجمع بين الآية الكريمة وبين هذا الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه يعذّب بما نيح عليه؛ أي: يعذّب بمعنى: أنه لا يعاقب عقوبة، ولكن يتألم ويهتم بهذا الأمر، وهذا ليس ببعيد، وحينئذٍ لا يكون مخالفًا للآية.
نستفيد من قصة عائشة فائدة عظيمة بالنسبة للأحاديث: وهي أن الأحاديث التي تخالف ظاهر القرآن لا ينبغي لنا أن نقبلها حتى نتثبت تثبتًا كاملًا؛ لأنها رضي الله عنها ردته مباشرة فحكمت بوهم الراوي، ومعلوم أنه لو كان شيء يخالف القرآن ولم يمكن الجمع بينه وبين القرآن فلا شك أننا نوّهم الراوي؛ لأن خطأ الإنسان لا شك أنه أقرب من خطأ القرآن، فالقرآن ليس فيه خطأ أبدًا، لكن قد يكون الخطأ في الأفهام، بحيث لا نستطيع الجمع بينه وبين النصوص الأخرى التي هي فيها السنة، أو يكون الوهم من الرّاوي، والوهم من الراوي أمر محتمل ولا أحد يستبعد الوهم، لكن إذا رأيتم شيئًا من الأحاديث يخالف القرآن في ظاهره أو يخالف الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول من أهل العلم فلا تتسرعوا في الحكم عليه بالتصحيح، ولو كان ظاهر سنده الصحة حتى يتأكد لكم صحته؛ لأنه لابد إذا كان يخالفها ولا يمكن الجمع فلابد فيه من علة.
يستفاد من هذا الحديث: أنه يجب الكف عن النياحة من وجهين: الوجه الأول: ما سبق من كون النائح قد عرّض نفسه للعنة الله عز وجل، الثاني: أن النياحة سبب لتألم الميت وتعذّبه في قبره، فإذا كان كذلك فإن نوحك يكون جناية على هذا الميت، فعليك أن تتقي الله في نفسك وفي ميتك.
ويستفاد منه: أن الميت يحس بما يصنعه أهله؛ لأنه لولا أنه يحس بهذا النوع ما تعذّب به في قبره، وقد روي أحاديث لكن فيها نظر؛ فيها أن الأعمال تعرض على أقارب الميت، ولا سيما أبواه فإن كانت خيرًا استبشروا بها، والله أعلم بصحة ذلك، لكننا في مثل هذه الأمور الغيبية لا نتجاوز ما ورد به النص، كل الأمور الغيبية ليس فيها قياس؛ ولهذا لا نتجاوز ما ورد به النص، فالميت تقدم لنا أنه يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه، وهذا الحديث يدل على أنه