الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صفة التسليم وأحكامه:
306 -
وعن وائلٍ بن حجر رضي الله عنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عله وسلم فكان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح.
هذا الحديث مما يستغرب على المؤلف رحمه الله في تصحيحه، لأن أكثر الذين خرجوه قالوا: إنه ضعيف بزيادة "بركاته"، ولكن بعض أهل العلم كالمؤلف يرى أن سنده صحيح، فإن كان هذا الحديث صحيحًا فإنه ينبغي للإنسان أن يفعله أحيانًا فيقول:"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، كما أن نسخ أبي داود أيضًا اختلفت في هذا الحديث ففي بعضها يقولها في التسليمة الأولى فقط، وفي بعضها يقولها في التسليمتين جميعًا، ولكن أكثر الأحاديث الواردة عن الرسول- عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول:"السلام عليكم ورحمة الله" فقط، ور يزيد:"وبركاته"، وقد أعل لعض العلماء هذا الحديث بالشذوذ وقال: إن الأحاديث الكثيرة المتتابعة عن الرسول- عليه الصلاة والسلام ليس فيها: "وبركاته"، ورواة هذا السند أيضًا متكلم فيهم، وما دام الحديث فيه الخلاف في متنه وسنده فالأولى أن يقتصر على ما تضافرت به النصوص:"السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله"، فإن هذا أسلم للإنسان وأبرأ لذمته، لأن إثبات شيءٍ زائدٍ في شريعة الله يحتاج إلى سندٍ صحيح يكون حجة للإنسان بينه وبين ربه إلى يوم القيامة، وما دام أكثر الأحاديث متكاثرة عن الاقتصار على ذلك بدون "وبركاته" فهي أولى لاسيما أنها في بعض الأحيان تحدث تشويشُا، ولكن التشويش بما ثبتت به السنة لا يهم، لأن الناس لو شوشوا أول مرةٍ يعتادون إنما إذا كان الأمر لم يثبت ثبوتًا يطمئن إليه الإنسان فالأولى ألا يفعل، نعم إذا كان الإنسان يريد أن يفعل ذلك فيما بينه وبين نفسه في صلاة النوافل إذا ترجح عنده أن الحديث صحيح، فإن ترجح عنده ضعفه فلا يقوله لا في النوافل ولا في غيرها.
الأذكار دبر الصلوات ومعانيها:
307 -
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". متفق عليه.
هذا من الأذكار التي يقولها النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاته، وقد أمر الله بالذكر بعد الصلاة، فقال- جل وعلا-:{فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم} [النساء: 103].
فالذكر بعد الصلاة مأمور به بنص القرآن في الحضر وفي السفر، فهذه الآية جاءت في سياق صلاة الخوف وفي السفر، ولهذا قال بعدا:{فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة} [النساء: 103]. فالأذكار المشروعة بعد الصلوات مشروعة في الحضر وفي السفر، وقوله عز وجل:{فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم} يدل على تأكد هذا الذكر، لأن الله أمر به في كل الحالات سواءً كنت قائمًا مثل: أن يكون لك شغل فتقوم بعد السلام مباشرةً ملزمًا بهذا الذكر المشروع، وكذلك تؤدى هذه الأذكار إذا كنت قاعدًا، وإذا كنت مريضًا فليكن على جنبك، وهذا يعني: أن هذه الأذكار المشروعة عقب الصلوات أنت مأمور بالإتيان بها أمرًا مؤكدًا سواءً في سفرٍ أو حضر، يعني: تذكر الله عز وجل، وهذا الذكر المجمل في كتاب الله عز وجل بينه النبي- عليه الصلاة والسلام بالسنة، لأن السنة تبين القرآن وتفسره، وتقيد مطلقه وتخصص عامه، وربما تأتي بأمورٍ ليست في القرآن في ذاتها ولكنها في القرآن من حيث عمومها، فغن كل ما أتانا الرسول- عليه الصلاة والسلام فإن الله أمرنا بقبوله وأخذه، وما نهى عنه فإن الله أمرنا باجتنابه مما كان يقول النبي- عليه الصلاة والسلام في أذكار الصلوات هذا الحديث الذي ذكره المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
فنقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، وما معنى "لا إله إلا الله" يعني: لا معبود حق إلا الله، لا نقول: لا معبود إلا الله، لو قلت ذلك كان ذلك كذبًا؛ لأن هناك من يُعبد من دون الله، ولو قلت: لا موجود إلا الله كان هذا قولًا بوحدة الوجود؛ يعني: أن الخلق كلهم الله اهـ، لأن الخلق موجودون، ولهذا يغلط من قال: لا إله إلا الله، لي: لا موجود إلا الله، وإن قلت: لا إله موجود إلا الله كان ذلك أيضًا خطأ، لأنك إذا قلت: لا إله موجود. قلنا: بل هناك إله موجود كما قال الله تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهةً لعلهم ينصرون} [يس: 74]. وقال: {فلا تدع مع الله إلهًا آخر} إذن لا إله حق إلا الله، وفرق بين موجود وبين حق، لأن الموجود منه ما هو حق ومنه ما هو باطل {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل} [لقمان: 30]. فإن الصواب أن "لا" نافية للجنس وأن "إله" اسمها، وأن خبرها محذوف تقديره: حق، وإنما سرنا إلى ذلك حتى لا نفسر بخلاف الواقع أو بتفسيرٍ ليس بصحيح، و"إلا الله" فإن "إلا" أداة استثناء، و"الله" بدل من الخبر المحذوف "إله" بمعنى: مألوه، وليست بمعنى: آله، لكن- سبحانه وتعالى مألوه أي: معبود حبًا وتعظيمًا، وأهل الكلام ومن ضاهاهم يجعلون إله بمعنى: آله، ويفسرون الإله بالقادر على الاختراع وعلى الصنع، فيقولون:"لا إله إلا الله" أي: لا قادرة على الاختراع والإبداع إلا الله، ولو كان هذا معنى "لا إله إلا الله" ما أنكره المشركون، لأن المشركين يقرون بهذا أنه لا خالق إلا الله، لكن {إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون* ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعرٍ مجنون} [الصافات: 36]. فلو كان هذا
التفسير هو تفسير "لا إله إلا الله" لكان المشركون موحدين، وهذا التفسير الذي فسر به المتكلمون كلمة الإخلاص من أبطل التفاسير، ولا يصح.
وقوله: "وحده" تأكيد للإثبات، "ولا شريك له" تأكيد للنفي، لأن كلمة الإخلاص تضمنت إثباتًا ونفيًا، تضمنت إثبات الألوهية الحق لله، ونفي الألوهية الحق لغير الله، فلهذا "وحده" يكون تأكيدًا للإثبات و"لا شريك له" يكون تأكيدًا للنفي.
"له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير""له الملك" جملة خبرية قدم فيها الخبر، وتقديم الخبر يدل على الحصر، "له" يعني: لله وحده الملك، فلا أحد مالك إلا الله، وهو- سبحانه وتعالى مالك الملك، ولهذا قال:"له الملك" وجاءت الفاتحة {مالك يوم الدين} و {ملك يوم الدين} ، وذلك لأن كمال الملك في الملكية والتصرف أو التدبير. الله عز وجل مالك مالك، والخلق منهم من يكون مالكًا وليس بملك، ومنهم من يكون ملكًا وليس بمالك، هناك أناس يملكون لكن ليس لهم بتدبيرٍ الملك شيئًا، وهناك أناس يدبرون وليس لهم صفة الملك فهم مالكون وليسوا بملوك، أما الرب عز وجل فإنه ملك الملوك، ومالك الملك، ولهذا قال:"له الملك".
فإن قلت: إن الله تعالى أثبت لغيره ملكًا قال لسليمان: {هب لي ملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعدي} [ص: 35]. وقال الله تعالى: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [المؤمنون: 6]. وقال: {أو ما ملكتم مفاتحه} [النور: 61]. فكيف نقول: إن الملك يختص باله؟
فالجواب: أن الملك الذي لغير الله ملك محدود من حيث الشمول ليس بشامل، ومن حيث التصرف أيضًا ليس بشامل، فأنت إما تملك مالك فقط لا تتملك مال فلان، ومال فلان وملكك لمالكٍ محدود أيضًا لا تملك التصرف المطلق كما تشاء وإنما تتصرف في ملكك كما أذن الله لك، فملكنا محدود مهما كان لنا من الملك، وقوله:"له الملك وله الحمد" الحمد: هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، وهذا هو الفرق بين الحمد والمدح.
المدح تصف الممدوح بصفات الكمال لكن بدون محبة، لكن الحمد تجد قلبك ممتلئ محبةً لهذا الموصف، فالحمد هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، وانظر إلى الفائدة في قرن الحمد بالملك ليتبين لك أن ملك الله عز وجل مبني على الحمد، فكم من ملك لا يُحمد، وكم من مالكٍ لا يُحمد، لكن الرب عز وجل محمود، فملكه مقرون بالحمد، ولهذا قل:"له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير" كل شيء فالله تعالى قادر عليه، سواء ما يتعلق بأفعاله أو بأفعال الخلق. الله تعالى قادر على أن يوجد المعدوم وبعدم الموجود، وقادر على أن يغير ويحول الشيء من شيءٍ إلى شيء، قدرة مطلقة لا حدود لها، ولا تقيد بشيء، ولا تخصص
بشيء، على كل شيءٍ قدير، {وما كان الله ليعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليمًا قديرًا} [فاطر: 44].
ثم ختم هذا الذكر بشيءٍ من التفصيل من تمام ملك الله فقال: "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". "لا مانع لما أعطيت" يعني: أنما أعطى الله العبد فإنه لا أحد يمنعه، ما معنى "ما أعطيت" يعني: ما وصل إلى المعطى بالفعل، أو ما قدرت أن تعطيه؟ ما قدرت أن تعطيه، لأن قوله:"لا مانع" المنع يكون قبل الوصول، فلا أحد يمنع ما أعطاك الله عز وجل أبدًا وهو كقوله:"ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليبك"، فالذي قدر الله أن يصل إليك ما أحد يمنعه أبدًا لابد أن يصل، "ولا معطي لما منعت" الشيء الذي منعه الله عز وجل لا يمكن أن يعطيك إياه أحد، ولا يمكن أن يصل إليك مهما بدلت من الأسباب التي توصل إلى هذا الشيء الذي تريده، فإنه لا يمكن أن يصل إليك مادام الله قد منعه.
"ولا معطي لما منعت" إذا آمن الإنسان بهاتين الكلمتين- والإيمان بهما واجب- فإنه يعتمد في رزقه على الله، وفي دفع الضرر على الله، وفي جلب النفع على الله، ويكون دائمًا معتمدًا على ربه معتقدًا أنه- سبحانه وتعالى هو حسبه لا غيره.
"ولا ينفع ذا الجد منك الجد" الجد: قال العلماء: هو الحظ والغنة، "ذا الجد" أي: صاحب الجد منك متعلق بـ"ينفع"، ولهذا كلمة" ينفع" إما أن تتضمن معنى: يغني، أو معنى: يمنع، صاحب الغنى وصاحب الحظ لا ينفعه حظه من الله ولا غناه من الله {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيدة} [النساء: 78]. فصاحب الحظ والغنى في الدنيا مهما كان عنده ما ينفعه فهو غير نافعٍ له في الآخرة كما قال: "ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، ما قال:"جده" قال: "الجد"، يعني: حتى ولو كان على جد أعظم شيءٍ فإنه لا يمكن أن ينفعه من الله عز وجل، وهذا إذا آمن الإنسان به- ويجب عليه أن يؤمن به- يستلزم أن يكون الإنسان معتمدًا على ربه في حمايته لا على جنده ولا على ماله ولا على نصيبه وحظه، وإنما هو على ربه لا شريك له.
وبهذا التقرير الذي لم نف بما تدل عليه هذه الكلمات العظيمة يتبين أهمية الذكر بعد الصلاة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". قوله: "اللهم" أصلها: يا
الله لكن حذفت ياء النداء تيمنًا بذكر اسم الله قبله، وعوض عنها الميم للدلالة عليها، واختيرت الميم دون غيرها من الحروف لدلالتها على الجمع، كأن الداعي جمع قبله على الله- سبحانه وتعالى.
308 -
وعن سعدٍ بن أبي وقاص رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر كل صلاة: اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر". رواه البخاري.
قوله: "يتعوذ بهن: هذا فيه عود الضمير على متأخر لفظًا ورتبةً، وهو شاذ وقليل كما قال ابن مالك [الرجز]:
وشذ نحو زان نوره الشجر
ولكن ما دام المعنى واضحًا لأنه لا بأس به، يقول:"كان يتعوذ بهن دبر كل صلاة". "دبر" يحتمل أن يكون معناه: ما بعد الصلاة، ويحتمل أن يكون معناه: آخر الصلاة، لأن آخر الشيء: دبره، فدبر الشيء: هو آخره، وكذلك دبر الشيء: ما بعده، فتسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين المراد: ما بعد الصلاة، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ:"لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: "اللهم أعني على ذكرك" هذا آخر الصلاة قبل السلام، والمرجح: أن ما كان ذكرًا المراد بالدبر فيه ما بعد الصلاة، وما كان دعاءً فالمراد بالدبر فيه، ما كان في آخر الصلاة، والقرينة التي ترجح ذلك: أن الذكر أمر الله به بعد الصلاة فقال: {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا} [النساء: 103]. فيكون كل ذكر دبر الصلاة يكون بعد الصلاة، وأما الدعاء فإننا نرجح أن دبر الصلاة فيه آخرها، وذلك لقول النبي- عليه الصلاة والسلام في حديث ابن مسعود: "ثم ليتخير من الدعاء ما شاء، ولأن الإنسان يدعو الله عز وجل في أثناء الصلاة قبل أن ينصرف منها، وإن كان في صلاته كما قال النبي- عليه الصلاة والسلام "يناجي ربه".
وعلى هذا فيكون المشهور أن يتعوذ من هذه الأشياء في آخر الصلوات يقول: "اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن" كلاهما شح ومنع، لكن البخل: منع لبدل المال في محله، والجبن: منع لبدل النفي في محله، ولهذا ضد الجبن: الشجاعة، وضد البخل: الكرم، فالبخل هو الذي يمنع ما ينبغي بذله من المال أو من الأعمال أيضًا، ولهذا جاء في الحديث عن النبي- عليه الصلاة والسلام:"البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي".
وأما الجبن فإنه يمنع ما ينبغي بذله من النفس، وضده الشجاعة، واعلم أن منع ما لا ينبغي بذله من المال ليس ببخل، ولكنه اقتصاد واعتدال، فإذا كان يتهور بالإنفاق وإنما ينفق المال حسب ما شرعه الله ورسوله فهذا ليس ببخيل، وإنما هو مقتصد ومعتدل في إنفاقه، والله عز وجل يقول:{وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} [الأعراف: 31]. ولهذه المناسبة أود أن أنبه على أن بعض الناس يتبع النساء فيما ينفق، حتى إنك تجده يشتري أشياءً ليس لها داعٍ وليس لها حاجة، كل ذلك من أجل إرضاء أهله، وهذا أمر لا ينبغي، لا الذي ينبغي أن يكون الإنسان معتدلًا في إنفاقه، ويمكنه أن يقنع زوجته أو من طلب من أهله أن يشتري كذا وكذا بما يعطيه الله عز وجل من البيان والإقناع.
وأما الجبن فإنه لا بكون جبنًا إلا إذا كان في موضعٍ ينبغي فيه الإحجام، ولهذا كان لا ينبغي أن تقدم على أمرٍ إلا بعد أن تعرف النتيجة كما قال المتنبي [الكامل]:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
…
هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعتا لنفسٍ مرةٍ
…
بلغت من العلياء كل مكان
فالإنسان لا يتهور، بل ينظر ويتأمل، فإذا كان للإقدام مكان أقدم، وإذا كان للإحجام مكان أحجم، وكمل قيل أيضًا- وأظنه للمتنبي-[الطويل]:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
…
مضر كوضع السيف في موضع الندا
"وضع الندى" يعني: الكرم، "في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندا" فإذا كان حاجة تقتضي الكلام والعفو والصفح صار السيف وضعه مضر بالعلا، فإذا كان الأمر بالعكس صار الكرم وضعه مضرًا بالعلا، فإذا كان الأمر بالعكس صار الكلام وضعه مضرًا بالعلاـ والمهم: أن الجبن الذي هو ضد الشجاعة لا يكون جبنًا إذا كان المقام لا يقتضي الإقدام، ومن ثم ينبغي للإنسان أن يتأمل في أموره، وألا يتعجل حتى يعرف النتائج.
"وأعوذ بك من أرد إلى أرذل العمر" أرذله: أنقصه وأردؤه والإنسان يرد إلى أرذل العمر إما لعله طارئة، وإما لتقدم السن، الكبير إذا كبر يرد إلى أرذل العمر تجده مصل الصبي، بل إنه أبلغ من الصبي؛ لأن الصبي حتى الآن لم يعرف ويرجى أن يعرف، فأهله يتحملون منه هذا الرداء وهذا في عقله؛ لأنهم يؤملون أنه يزول ويترقى العقل والفهم، لكن الذي- والعياذ بالله- وصل إلى الكبر حتى صار عقله بمنزلة الصبي يكون الرجاء فيه بعيدًا، ثم إن هذا الذي رد
إلى أرذل العمر قد عرف بعض الأشياء، ولهذا تجده في بعض الأحيان يصر على أهله أن يأتوا بها، مثلًا إذا كان من أصحاب الغنم صار يهدي بالغنم يوقظ أهله من النوم في وقت الليل ويقول: احضروا لي العنزة الفلانية، وإذا كان من أهل الأموال تجده أيضًا يهدي فيها هذا بتعب، لكن الصبي في باله هذا الشيء؟ أبدًا، ولهذا سمي:"أرذل العمر"، وأرذل صفة اسم تفضيل، يعني: أنه ما في العمر أرذل منه ولو حال الصغر، وهذا يعني: أنه ليس هناك في العمل أرذل من أن يرد إلى أرذل العمر، أقول: أرذل العمر قد يكون طارئًا وقد يكون فارغًا عارضًا، كما لو حصل للإنسان وجع في دماغه من حاجة أو غيره وقد يكون بسبب الكبر.
"وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر"، "فتنة الدنيا" تقدم لنا معناها وهي تعود على أمرين: إما شبهات، وإما شهوات، الشبهات معناها: أن الإنسان يخفى عليه الحق إما بكثرة البدع والأفكار السيئة، أو لغير ذلك من الأسباب، فتجده يكون حيوانًا- والعياذ بالله- لا يدري أين يذهب، وإما شهوة يكون عارفًا بالحق عالمًا به لكنه تريده نفسه تريد وتهوى خلاف الحق.
النصارى فتنتهم شبهة أم شهوة؟ الآن شهوة، ولكن فيما سبق قبل بعثة الرسول- عليه الصلاة والسلام كانت شبهة؛ لأنهم ضالون، واليهود شهوة؛ لأنهم عالمون بالحق.
وكل من خالف الحق عالمًا به فقد فتن فتنة شهوة- والعياذ بالله-، وكل من خالف الحق جاهلًا به، فقد فتن شبهة. كثير من الناس الآن فتنوا في الدنيا فتنة شهوة يعلمون ما أوجبه الله عليهم ولا أظن أن الناس في عصرٍ من العصور المتأخرة كانوا أعلم بالمسائل الشرعية من عصرنا هذا، لكن- والعياذ بالله- صار عندهم شهوات ميل إلى الباطل.
"وأعوذ بك من عذاب القبر" عذاب القبر ثابت كما سبق بالقرآن والسنة وإجماع المسلمين. ما دليله من القرآن؟ عدة آياتٍ منها قوله تعالى: {النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]. ومنها قوله تعالى: {ولو ترى الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون} [الأنعام: 93]. اليوم "أل" هنا للعهد الحضوري مثلها قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم
…
} يعني اليوم الحاضر، {اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون} [الأنعام: 93]. ومنها: قوله تعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذي كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق} [الأنفال: 50]. "إذ" ظرف، فصار هذا الأمر متى؟ حينما يتوفون.
وأما السنة فدلالتها كثيرة ظاهرة تبلغ إلى قريب التواتر، أما إجماع المسلمين فكل المسلمين يقولون في صلاتهم:"أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر .. إلخ"، فهل
يتعوذ الناس من شيءٍ لا وجود له؟ لا يمكن، لولا أن له وجودًا ما تعوذوا بالله منه، وعلى هذا فيكون عذاب القبر ثابتًا بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، ولكن هذا العذاب من نعمة الله عز وجل أن الله لا يطلع عليه أحدًا أبدًا إلا من شاء من خلقه، لأنه لو اطلع عليه لما تدافنوا، ولو اطلع الناس عليه لكان في ذلك فضيحة للمقبور، ولو اطلع الناس عليه لكان في ذلك عار على أهله، ولو اطلع الناس عليه لكان في ذلك أذى على أهله، ولكن من حكمة الله عز وجل أن الله أخفاه، ولو اطلع الناس عليه أيضًا ما كان للإيمان به فائدة، لأنه يكون الآن من أمور الشهادة والفضل، كل الفضل للإيمان بالغيب.
عذاب القبر الأصل أنه على الروح، ولكنها قد تتصل بالبدن، ولاسيما حال الدفن حين يسال الإنسان عن ربه وعن دينه ونبيه، فإنه يضرب بمرزبة من حديدٍ إذا لم يجب، يصيح صيحةً يسمعها كل شيءٍ إلا الثقلين- نعوذ بالله، وقد ثبت عن النبي- عليه الصلاة والسلام أنه مر بقبرين في المدينة وقال:"إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة".
فهذه الخمس كان الرسول- عليه الصلاة والسلام يتعوذ بهن في دبر كل صلاة: "اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر".
309 -
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثًا، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام". رواه مسلم.
هذا أيضًا من الأذكار التي ينبغي أن يقولها الإنسان بعد الصلاة: "كان- عليه الصلاة والسلام إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثًا" يعني قال: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله. ومعنى:"أستغفر الله": أسأل الله المغفرة، والمغفرة هي ستر الذنب مع التجاوز عنه، هذه المغفرة قال العلماء: مشتقة من المغفر، والمغفر هو: الذي يوضع على الرأس من حديدٍ ونحوه ليتقى به السهام إذن فهو ساتر وفي نفس الوقت وقاية.
وقوله: "استغفر ثلاثًا" الحكمة من الاستغفار بعد الانصراف من الصلاة؛ لأن الإنسان لا يخلو من تقصير، فهذا الاستغفار إن كانت الصلاة تامة كان كالطابع لها، وإن كان فيها نقص كان كفارة لها، كما جاء ذلك في كفارة المجلس، فهذا الاستغفار بعد أداء العبادة، وهذا كقوله
تعالى في الحج: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} [البقرة: 199].
وقوله: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" لا تقل: إنه لم يذكر فيه هذا الوضع "وتعاليت"، تقول:"تباركت يا ذا الجلال والإكرام"؛ لأن الأذكار توفيقية، ما يزاد فيها إلا ما جاء به النص، والنص هنا ما ذكر "وتعاليت"، فتقول:"اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام". ما معنى "أنت السلام"؟ يعني: السالم من كل نقصٍ ومن كل عيب، فالله عز وجل سلام، أي: سالم من كل نقصٍ ومن كل عيب ..
فإذا قلت: هذه الصيغة فعال كيف تحولها إلى فاعل؟
نقول: هذه من باب الصفة المشتبهة، والصفة المشتبهة تدل على الثبوت والاستمرار، بخلاف اسم الفاعل فإنه قد يدل على الحدث بدون ثبوتٍ واستمرار، فالسلام أبلغ من السالم، ولهذا جاء اسمًا لله عز وجل "ومنك السلام" هنا السلام بمعنى: التسليم، كالكلام بمعنى التكليم، يقال: كلمته كلامًا وكلمته تكليمًا، فسلام هنا بمعنى: تسليم، أي: منك التسليم، يعني: إنك أنت المسلم لمن تشاء من خلقك، فالسلامة ما تطلب إلا من الله عز وجل وهو عز وجل سالم سلام، سالم من كل نقصٍ وعيب.
"تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، "تباركت" قلنا: إن المعنى: كثرت خيراتك، لأن أصل البركة الخير الثابت الدائم، مأخوذ من بركة الماء لكثرة الماء فيها وسعتها ودوامه وثبوته فيها، فمعنى:"تباركت" أي: أنك يا ربنا كثير الخيرات والبركات، وهنا لم يقل: بوركت، بل قال:"تباركت" لأن التبارك صفته، بخلاف غيره فإنه يكون مباركًا وليس هو المتبارك، ولهذا قال الله تعالى عن عيسى وعن يحيى:{وجعلني مباركًا} [مريم: 31]. أي: لما كنت، لكن تفاعل صفة ذاتية فيه.
"تباركت يا ذا الجلال والإكرام""ذا" بمعنى: صاحب، "الجلال" بمعنى: العظمة يعني: يا صاحب العظمة، "والإكرام" لها معنيان:
أحدهما: أنه أهل لأن يكرم عز وجل وأن يعظم.
والثاني: أنه مكرم لمن يستحق الإكرام من خلقه بالثواب الجزيل والثناء، وهذا الإكرام يتعلق بالله عز وجل وبالخلق، فبالله من حيث إنه محل التكريم والتعظيم وبالخلق، لأنهم مكرمون يكرمهم الله عز وجل، ونظيره "الودود" بمعنى: الواد، وبمعنى: المودود، فهو يود من شاء، وغيره أيضًا من أحبابه يودونه، إذن الإكرام صفة تتعلق بالخالق وبالمخلوق، إذن ينبغي لنا- إن سلمنا- أن نقول: "أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنك أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا
الجلال والإكرام، قبل كل ذكر ولهذا تقول عائشة: كان النبي- عليه الصلاة والسلام لا يجلس إلا بمقدار ما يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" ثم ينصرف، فدل هذا على أن هذا الذكر قبل كل الأذكار، والمناسبة فيه ظاهرة أيضًا؛ لأنه ينبغي أن يلي الصلاة لأجل أن يكون طابعًا لها أو كفارة لها.
310 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سبح الله دبر كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين، وحمد لله ثلاثًا وثلاثين، وكبر الله ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسع وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، غفرت خطاياه، ولو كنت مثل زبد البحر". رواه مسلم.
- وفي روايةٍ أخرى: "أن التكبير أربع وثلاثون".
قوله: "دبر كل صلاة" يعني: المكتوبة، "غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" يعني: في كثرتها، وزبد البحر كثير لا يحصيه إلا الله عز وجل ففي هذا دليل على فضيلة هذا الذكر دبر الصلوات، كل صلاة مكتوبة: الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء تسبح الله ثلاثًا وثلاثين فتقول: سبحان الله، سبحان الله، حتى تكمل ثلاثًا وثلاثين، وتقول بعد: الحمد لله الحمد لله حتى تكمل ثلاثًا وثلاثين، وتقول: الله أكبر حتى تكمل ثلاثًا وثلاثين فهذه تسع وتسعون كلمة، يقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير".
وفي لفظ لمسلم: أن التكبير أربع وثلاثون بدون: "لا إله إلا الله"، وبالتكبير أربعًا وثلاثين مرة تكمل المائة.
ما معنى "سبحان الله"؟ معنى "سبحان الله": تنزيهًا لله عز وجل عن كل نقص، فالله عز وجل كامل من جميع الوجوه، كامل في أسمائه وفي صفاته وفي أفعاله، فأسماؤه كلها حسنى تدل على معانيها الحسنة التي لا أحسن منها، وصفاته كلها عليا، يقول الله عز وجل:{ولله الأسماء الحسنى} [الأعراف: 180]. ويقول: {وله المثل الأعلى} [الروم: 27]. يعني: الوصف الأكمل، وكذلك أفعاله، فإن أفعاله كلها حميدة مرتبطة بالحكمة، فهو- سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء بحكمة، فهو منزه عن العبث، منزه عن اللغو، منزه عن اللهو، منزه الباطل، منزه عن كل عيب، قال الله تعالى:{وما خلقنا السماء والأرض ما بينهما باطلًا} [ص: 27]. {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين* لو أردنا أن نتخذ لهوًا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين} [الأنبياء: 17].
وقال عز وجل: {وما ربك بغافلٍ عما يعملون} [الأنعام: 132]. وقال تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيامٍ وما مسنا من لغوب} [ق: 38]. على غير ذلك مما يدل دلالةً ظاهرةً على أن الله تعالى منزه عن كل عيب، ولهذا ينزه عن نفي السمع، أو نفي البصر، أو نفي الحكمة، أو نفي المغفرة، أو نفي الرضا، أو ما أشبه ذلك، خلافًا لمن قال- والعياذ بالله-: إن الله تعالى لا سمع له، ولا بصر له، ولا حكمة له، ولا رحمة له، ولا مغفرة له، ولا يحب، ولا يحب- والعياذ بالله- ووصفوه بصفات النقص مدعين أنهم بذلك أثبتوا له الكمال، وهم- والله- إنما أثبتوا له النقص- والعياذ بالله- من حيث لا يشعرون، فلا أحد يصف الله تعالى بأكمل مما وصف به نفسه، وقد وصف نفسه بأنه غفور، وأنه ذو رحمة، وأنه قوي، وأنه حكيم، وأنه سميع بصير، وأنه على كل شيءٍ قدير، وأنه يحب ويحب ويرضى ويسخط، ويفعل ما يشاء- سبحانه وتعالى فهو منزه عن كل نقص.
وأما قولك: "الحمد لله"، "الحمد" معناه: وصف المحمود بالكمال، فبالتسبيح يكون التخلي عن كل صفات النقص، وبالحمد يكون الاتصاف بصفات الكمال، فيكون من قال:"سبحان الله والحمد لله" جامعًا لله تعالى بين النفي والإثبات، بين نفي النقص الذي دل عليه:"سبحان الله" وإثبات الكمال الذي دل عليه "الحمد لله".
وأما "الله أكبر" فهي كالطابع على هذا، يعني: أكبر من كل شيءٍ عز وجل له الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم، وأخبر النبي- عليه الصلاة والسلام أن السموات السبع والأرضين السبع في كف الرحمن كخردلةٍ في كف أحدنا، فهو عز وجل له الكبرياء في السموات والأرض، وأما ختم هذه الكلمات الثلاث بكلمة التوحيد:"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير" فهذه الكلمة كلمة الإخلاص التي بعث بها جميع الرسل، {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]. كل الرسل بعثوا بهذا، {ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36]. فكل الرسل متفقون على معنى هذه الكلمة، وأنه لا أحد يعبد في السموات أو في الأرض بحقٍ إلا الله عز وجل.
وقوله: "له الملك وله الحمد" فيه الثناء على الله عز وجل بتمام الملك وبتمام الصفات وكمالها، "له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير" كل شيء فالله قادر عليه لا يستثنى من هذا شيء فمل شيءٍ تتعلق به القدرة ويمكن أن يوصف الفاعل بأنه قادر عليه فإن الله عز وجل قدير
عليه، {وما كان الله ليعجزه من شيءٍ في السموات ولا في الأرض إنه كان عليمًا قديرًا} [فاطر: 44].
إذن بعد كل صلاةٍ مكتوبة تقول: سبحان الله ثلاثًا وثلاثين، والحمد لله ثلاثُا وثلاثين، والله أكبر ثلاثًا وثلاثين، وتختم المائة بقولك:"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير" أو تقول: "الله أكبر" أربعًا وثلاثين تختم بها المائة، هذا جائز وهذا جائز.
فإن قلت: هل الأفضل أن أفردها، أو الأفضل أن أجمعها؟ يعني: الأفضل أقول: "سبحان الله" حتى أكمل، "الحمد لله" حتى أكمل، "الله أكبر" حتى أكمل، أو الأفضل أن أجمعها فأقول:"سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر"؟
فالجواب: أن تلك الصفتين قد وردت عن النبي- عليه الصلاة والسلام، فهذا جائز، وهذا جائز وعلى القاعدة السابقة أن العبادات الواردة على وجوهٍ متنوعةٍ ينبغي أن نفعلها على كل وجه.
وقوله: "غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" ظاهر الأحاديث العموم، "غفرت خطاياه" جمع مضاف والجمع المضاف يفيد العموم، فظاهره أن الخطايا ولو كانت من الكبائر فإنها تغفر له إذا قال هذا الذكر، وهذا ما ذهب إليه بعض أهل العلم، ولكن جمهور أهل العلم يقولون: إن جميع الأحاديث الواردة في مغفرة الذنوب أو تكفير السيئات مقيدة باجتناب الكبائر، والدليل على ذلك قول النبي- عليه الصلاة والسلام:"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن ما اجتنبت الكبائر" قالوا: فإذا كانت هذه الفرائض العظيمة- الصلوات الخمس أعظم فريضة عملية- لا تقوى على تكفير الكبائر، فإن من دونها من باب أولى ألا تكفر بها الكبائر ولا شك أن هذا قول وجيه وهو قول الجمهور، لكن لإطلاقه يرجى أن يكون هو الصواب، وإننا نرجو الله عز وجل أن يعفو عنه بهذا العمل جميع ذنوبه، لكن لا تجزم إلا إذا اجتنبت الكبائر.
311 -
وعن معاذٍ بن جبل رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أوصيك يا معاذ: لا تدعن دبر كل صلاةٍ أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي بسندٍ قوي.
هذا الحديث أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه أن يقول دبر كل صلاة، والمراد: كل صلاةٍ مكتوبة، كما جاء ذلك مقيدًا في بعض الروايات يقول:"اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"، الإعانة على هذه الأمور يحصل بها سعادة الدنيا والآخرة.
"على ذكرك" يعني: بالقلب واللسان.
"وعلى شكرك": بالقلب واللسان والجوارح.
"وعلى حسن عبادتك": فهو أخص من الشكر، لأن الشكر يحصل بالعبادة، وإن كانت على غير الوجه الأحسن، لكن على حسن عبادتك أخص.
وفي الإعانة على هذه الأمور إعانة على ما فيه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وفي سؤال العبد ربه أن يعينه على ذلك عنوان على افتقاره إلى ربه، وأنه- سبحانه وتعالى إن لم يعنه فإنه لا يسعد وهو كذلك إذا لم يمدك الله عز وجل بعونه، فإنه إن وكلك إلى نفسك وكلك إلى ضعفٍ وعجزٍ وعورة، ولهذا قرن الله الاستعانة بالعبادة فقال:{إياك نعبد وإياك نستعين} ، وقال:{فاعبده وتوكل عليه} [هود: 123]. فلابد من استعانة العبد بربه، فإن لم يعنه شغل وعجز عن إدراك العمل.
وفي قوله: "حسن عبادتك" لم يقل: "على عبادتك"، لأن الإنسان قد يعبد ربه، ولكن لا يكون عمله حسنًا إما لعدم إخلاصه، وإما لعدم متابعته، والعمل لا يكون حسنًا إلا بأمرين: بالإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "أن تقول دبر كل صلاة" اختلف العلماء في معنى: "دبر"، فقال بعض العلماء: أي بعد الصلاة، وهذا هو المشهور عند أكثر أهل العلم، وقال بعض العلماء:"دبر كل صلاة" أي: في آخر الصلاة قبل السلام، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: لأن محل الدعاء آخر الصلاة ليس بعد الصلاة، الذي بعد الصلاة الذكر، وأما الدعاء فهو قبل، وعلى هذا فإذا جاءت كلمة "دبر" إن كان دعاء فهو قبل السلام، وإن كان ذكر فهو بعد السلام، ولهذا دليل من القرآن والسنة، أما من القرآن في الذكر فقال الله تعالى:{فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله} [النساء: 103]. فجعل محل الذكر بعد الصلاة، فكل ذكرٍ مقيد بدبر الصلاة فالمراد بعدها، وأما في الدعاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود لما ذكر التشهد:"ثم ليتخير من الدعاء ما شاء". وقال: "إذا تشهد أحدكم التشهد الأخير فليقل: أعوذ بالله من عذاب جهنم"، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ما بعد التشهد وقبل التسليم محلًا للدعاء، وحديث معاذٍ هذا قد ورد في بعض ألفاظه أن الرسول أمره أن يقول:"في صلاته"، وهذه الرواية تؤيد ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أنها تقال قبل السلام لا بعده.
* * *
فضل آية الكرسي ومعانيها:
312 -
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاةٍ مكتوبةٍ لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت؟ . رواه النسائي، وصححه ابن حبان.
- وزاد فيه الطبراني: "و {قل هو الله أحد} .
آية الكرسي هي التي ذكر فيها الكرسي وهي قوله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم} [البقرة: 255]. هذه آية الكرسي، أما قوله، {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256]، فهي ليست من آية الكرسي؛ لأن آية الكرسي آية واحدة وهي هذه، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعبٍ قال:"أي آية أعظم في كتاب الله؟ " قال: "آية الكرسي، فضرب على صدره وقال: "ليهنك العلم أبا المنذر" يعني: هنأه بعلمه؛ حيث علم أن أعظم آيةٍ في كتاب الله هي آية الكرسي، وأما أعظم سورة؟ فإن سورة الفاتحة هي أعظم سورةٍ في كتاب الله، هذه الآية العظيمة من قرأها في ليلةٍ لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح.
ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل أبا هريرة رضي الله عنه وكيلًا عنه على الصدقة- صدقة الفطر- فلما جاء ذات ليلةٍ جاءه رجل- شيطان في صورة رجل- فأخذ من التمر، فأمسكه أبو هريرة وقال:"لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقال: هذا الرجل إنه فقير، وذو عيال، وطلب أن يعفو عنه، أبو هريرة رضي الله عنه رق له وعفا عنه، فلما أصبح وغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ما فعل أسيرك البارحة؟ "، جاءه الوحي من الله أن هذا الشيطان جاء إلى أبي هريرة بهذه الصورة، فقال: يا رسول الله، إنه شكا إلي أنه ذو عيالٍ وفقر، فأطلقته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: : "كذبك وسيعود" كذب يعني: أخبرك بالكذب وسيعود، قال أبو هريرة: فعلمت أنه سيعود لقول النبي صلى الله عليه وسلم فعاد وفعل مثل ما فعل في المرة الأولى، واعتذر بما اعتذر به في المرة الأولى، ولكن لما اعتذر أعطاه أبو هريرة، أعطاه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال:"كذبك وسيعود" لم يقل: فلا تعطه، وإلا لما أعطاه، لكن لم يقل له: فلا تعطه، ثم لما غدا أبو هريرة على الرسول صلى الله عليه وسلم قال له:"ما فعل أسيرك البارحة؟ " فقال أبو هريرة: شكا إلي أنه ذو عيالٍ وفقر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كذبك
وسيعود" فعاد في الليلة الثالثة، ولكنه أمسكه أبو هريرة واعتذر، ولكن قال: "ما أطلقك إلا عند الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إني أخبرك بآيةٍ إذا قرأتها لم يزل عليم من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح آية الكرسي، فلما أصبح أبو هريرة غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر فقال:"صدقك وهو كذوب"، صدقك ليس لأنه صاحب عيال، لكن صدقك بأنك إذا قرأت هذه الآية في ليلةٍ لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح.
هذه الآية اشتملت على عشر جمل {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم} [البقرة: 255].
أما معانيها من حيث الإجمال ففي قوله: {لا إله إلا هو} توحيد الله عز وجل، وهذه كلمة أعظم كلمةٍ يقولها الإنسان "لا إله إلا الله" بعث بها الرسل، وأنزلت به الكتب، {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]. وفي الأثر الذي قال الله تعالى فيه لموسى: "لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفةٍ ولا إله إلا الله في كفةٍ مالت بهن لا إله إلا الله" كلمة عظيمة، لأن فيها توحيد الله بالألوهية، "لا إله إلا الله" إثبات ونفي، وهذا هو حقيقة التوحيد، الإثبات بدون نفي ما يدل على التوحيد، والنفي المطلق تعطيل محض، لو قلت:"زيد قائم" ما دل على أن غيره لم يقم، لكن إذا قلت:"لا قائم إلا زيد" دل على أن غيره ليس بقائم، كذلك لو قلت:"لا إله إلا الله" دليل على أنه لا إله إلا الله، ما فيه إله سوى الله، ولكن هذه الجملة فيها خبر مقدر لابد منه وهو:"حق" يعني: لا إله حق إلا الله، و"الله" يدل من ذلك الخبر، لأننا لو قلنا بهذا التقدير فهو يعني: أنه توجد هناك آلهة تعبد من دون الله تسمى: آلهة، لكنها آلهة ليس لها حق في الألوهية، ولهذا قال الله تعالى في آيةٍ أخرى:{إن هي إلا أسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم: 23]. فهي وإن عبدت واتخذت إلهًا فإنها ليس لها ألوهية حقيقة، ولهذا نقول:"لا إله حق إلا الله".
وقوله: {الحي القيوم} هذان وصفان ينتظمان جميع الأسماء الحسنى، ولهذا ورد في الحديث
أن اسم الله الأعظم هو الحي القيوم، وقد ذكر هذان الاسمان في كتاب الله في ثلاثة مواضع: في سورة البقرة في آية الكرسي، وفي سورة آل عمران:{الله لا إله إلا هو الحي القيوم* نزل عليك الكتاب بالحق} [آل عمران: 2 - 3]. والموضع الثالث: في سورة طه في قوله: {وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلمًا} [طه: 111]. فهما منتظمان لجميع الأسماء الحسنى، "فالحي" معناه: ذو الحياة الكاملة التي لم تسبق بعدمٍ ولا يلحقها فناء، حياة غير الله عز وجل ناقصة، مسبوقة بعدمٍ وملحوقة بفناء، أما حياة الرب عز وجل فإنها لم تسبق بعدمٍ ولا يلحقها فناء، حياة غير الله عز وجل ناقصة، مسبوقة بعدمٍ وملحوقة بفناء، أما حياة الرب عز وجل فإنها لم تسبق بعدمٍ ولا يلحقها فناء، ثم هي حياة كاملة، كل صفات الكمال تضمها هذه الحياة، بخلاف حياة غيره فهي ناقصة.
"القيوم" يقول علماء النحو: إنها صيغة مبالغة على وزن "فيعول"، إذن معناه: أن هناك شيئًا كثيرًا من القيومية فمعنى القيوم: القائم بنفسه القائم بنفسه على غيره كما قال الله تعالى: {أفمن هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت} [الرعد: 33]. أي: أيكون هذا كمن لا يقوم بذلك، من القائم على كل نفسٍ بما كسبت؟ الله عز وجل {ما من دابةٍ إلا هو آخذ بناصيتها} [هود: 56]، فهو القائم على غيره، {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} [الروم: 25]. كل شيءٍ قائم بالله عز وجل وهو القائم بنفسه.
{لا تأخذه سنة ولا نوم} السنة: هي النعاس، يعني مقدمة النوم، والنوم هو: الاستغراق في الراحة؛ أي: فترة راحة للبدن والعقل، تغيب خلالها الإرادة والوعي جزئيًا أو كليًا، وتتوقف فيها الوظائف البدنية جزئيًا، فالرب عز وجل لا تأخذه السنة ولا النوم، لماذا؟ لكمال حياته وقيوميته، لكمال حياته لا يحتاج إلى النوم، نحن نحتاج إلى النوم؛ لأن حياتنا ناقصة نحتاج إلى نومٍ نستريح به من تعبٍ سابق، نستجد به النشاط لعملٍ مستقبل، أما الرب عز وجل فإنه لا يحتاج إلى ذلك لكمال حياته، {لا تأخذه سنة ولا نوم} كذلك لكمال قيوميته، هو القائم على عباده، لو أنه عز وجل جاز عليه النوم أو النعاس أين يكون تدبير العباد في ذلك اليوم؟ ولمن؟ لا يمكن، فهو عز وجل لكمال قيوميته لا يمكن أن تأخذه سنة ولا نوم، بل هو ممتنع غاية الامتناع أن يكون- سبحانه وتعالى ينام أو تأخذه السنة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام"، وكلمة" "لا ينبغي" في القرآن والسنة معناها: الشيء الممتنع غاية الامتناع، "يرفع القسط ويخفضه"، سبحانه وتعالى، والذي يكون بيده رفع القسط وخفضه لابد أن يكون دائمًا لا تأخذه سنة ولا نوم.
ثم قال: {له ما في السموات وما في الأرض} : وهذه الجملة تدل على عموم ملك الله، له ما في السموات وما في الأرض، وعلى اختصاص الله تعالى بذلك الملك، أما عموم الملك فهو مأخوذ من قوله:{ما في السموات} {ما} من الأسماء الموصولة فهي للعموم، وأما انفراده بالملك فهي مأخوذة من تقديم الخبر {له ما في السموات وما في الأرض} ففيها عموم ملكه- سبحانه وتعالى.
{من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} {من} استفهام بمعنى النفي، من الذي يستطيع أن يشفع عند الله لا بإذنه؟ لا أحد، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يشفع إلا بإذن الله، وذلك لكمال سلطانه وعظمته، لا أحد يقدر أن يتكلم ولا بالشفاعة إلا بإذنه، ولهذا ملوك الدنيا كلما كان الملك أهيب في قلوب الناس تجد الكلام في مجلسه أقل، يهابونه في كلامه لعظمته عندهم، فالرب عز وجل لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه ولو كان أقرب الخلق إليه وأعظمهم عنده منزلة، لماذا؟ لكمال سلطانه عز وجل، لا أحد يتكلم إلا بإذنه.
{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} هذه أيضًا جملة تدل على عموم علمه- سبحانه وتعالى {ما بين أيديهم} المستقبل، {وما خلفهم} الماضي، فكل ما كان وما يكون فالله عالم به.
{ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلا بما شاء} قال بعض العلماء: {من علمه} أي: من معلومه، فعلمه مصدر بمعنى: اسم مفعول كما في الحديث: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، "رد" بمعنى: مردود، فعلم بمعنى: معلوم، يعني: لا يحيطون بشيءٍ مما يعلمه الله إلا بما شاء، وقيل: المعنى: لا يحيطون بشيءٍ من علم الله، أي: ما يعلمون شيئًا عن الله إلا بما شاء، يعني: ما نعلم شيئًا من أسمائه، ولا من صفاته، ولا من أفعاله إلا بما شاء، والصحيح كان الآية شاملة لهذا وهذا، فنحن لا نحيط بشيءٍ من معلوماته، ولا بشيءٍ مما يتعلق بعلم ذاته وأسمائه وصفاته إلا بما شاء.
ثم قال: {وسع كرسيه السموات والأرض} ، الكرسي دون العرش، وأقل منه بكثير، وهو واسع للسموات والأرض السموات كم عدد السموات؟ سبع، وهي واسعة أم لا؟ واسعة:{والسماء بنيناها وإنا لموسعون} [الذاريات: 47]. انظر المسافات بين الأرض والسماء الدنيا، والمسافات بين السماء الدنيا والثانية، وبين الثانية والثالثة، وبين الثالثة والرابعة، وكلما اتسعت المسافة ازداد الكبر، قشرة البيضة العليا أوسع من الصفرة التي في جوفها، والبياض الذي تحت القشرة أوسع من الصفرة، إذا كان الكرسي محيطًا بالسموات والأرض فمعناه: أنه عظيم جدًا
وهو دون العرش، ولهذا جاء في الحديث أن السموات السبع والأرضين السبع في الكرسي كحلقةٍ ألقيت في فلاةٍ من الأرض.
ما هي الحلقة؟ أي: حلقة الدرع، وهي حلقة مثل حلقة السلسلة الصغيرة تلقى في فلاةٍ من الأرض تسع نصف الفلاة أو ثلاثة أرباع الفلاة؟ لا، ليست بشيءٍ بالنسبة للفلاة، السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقةٍ ألقيت في فلاةٍ من الأرض، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة، يعني: أن هذا شيء لا يتصور من حيث العظمة، علام تدل عظمة هذه المخلوقات؟ تدل على عظمة الخالق- جل وعلا- لأن عظم المخلوق يدل على عظم الخالق، كما أن عظم المصنوع من صنعنا يدل على عظم الصانع، فالرب عز وجل إذا كان كرسيه قد وسع السموات والأرض فما بالك بالعرش، وهو دليل على عظم الله عز وجل وكمال قدرته.
{ولا يئوده حفظهما} {يئوده} بمعنى: يثقله، {حفظهما} حفظ السموات والأرض بما فيهما من المخلوقات التي لا يحصى أجناسها إلا الله فضلًا عن أنواعها، فضلًا عن أفرادها، لا يثقل الرب عز وجل حفظ السموات والأرض لكمال علمه وكما قدرته، وكونه حافظًا فيه كمال الرحمة وكمال الإحسان، فهو لكمال العلم والقدرة والرحمة والإحسان يحفظ السموات والأرض ولا يثقله حفظهما.
{وهو العلي العظيم} سبحانه وبحمده من هذه عظيمة مخلوقاته، وهذه عظيمة صفاته، فهو العظيم بكل معنى العظمة، وهي العلي بذاته وصفاته، أما العلي بذاته فهو فرق كل شيء، ليس فوق الله شيء، وليس مع الله شيء، بمعنى: أنه ليس شيء محاذيًا لله، وليس شيء فوق الله، بل كل شيء تحت الله عز وجل هذا علو الذات.
فإن قلت: أليس قد ثبت في الحديث الصحيح: "أن المقسطين على منابر من نورٍ يوم القيامة علي يمين الرحمن" فهل يلزم من ذلك أن يكونوا محاذين له؟
الجواب: لا، لا يلزم، هم على يمين الرحمن لكنهم تحت، ولا يلزم من أن يكونوا محاذين له؛ لأن الله عز وجل له العلو المطلق من جميع الوجوه، والعلو معناه: أنه لا أحد يساويه، بل كل شيء فهو تحت الله عز وجل كذلك أيضًا له علو الصفات، ما معنى علو الصفات؟ معناه قوله تعالى:{ولله المثل الأعلى} [النحل: 60]. كل صفة عليا وكمال ليس فيها نقص بوجه من الوجوه فإنها لله- سبحانه وتعالى.