الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثاني: بانه وصف بأنه "رجيم" يرجم الإنسان بالمعاصي.
ومن فوائد هذا الحديث: أن للشيطان هَمزًا ونفخًا ونفثًا، ولولا أن له ذلك ما صح أن يستعاذ من هذه الثلاثة.
أخيرًا: ما موقع "من همزه ونفخه ونفثه" مما قبلها؟ ارتباطها بالإعاذة العامة.
أوضاع منهي عنها في الصلاة:
263 -
وعن عائشة- رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة: بـ {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 2]. وما كان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسًا، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم". أخرجه مسلم وله علة.
قولها: "يستفتح الصلاة بالتكبير" أي: يبدأ بقوله: "الله أكبر"، والصلاة هنا عامة تشمل الفريضة والنافلة وذات الركوع وما ليس فيها ركوع.
وقولها: "بالتكبير" أي: يقول: "الله أكبر"، و"القراءة" في إعرابها وجهان: النصب، والجر، فعلى قراءة الجر يسقط الاستفتاح، يكون معنى الحديث: يستفتح الصلاة بالتكبير وقراءة الحمد لله رب العالمين، وعلى قراءة النصب "والقراءة" أي: يستفتح القراءة بـ {الحمد لله رب العالمين} وعلى هذا لا يمنع أن يكون قبلها استفتاح، ولهذا ترجح رواية النصب القراءة بـ "الحمد لله رب العالمين"، الحمدُ كيف كان بـ "الحمدُ" والباء حرف جر؟ القراءة بالحمدُ لله رب العالمين" أي: بهذه السورة، وعليه نقول:"الباء" حرف جر، و"الحمد لله رب العالمين" مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة التي منع من ظهورها الحكاية
…
إلخ السورة، هذه السورة هي سورة الفاتحة، وسميت سورة الفاتحة؛ لأنه افتتح بها القرآن الكريم، وليس لأنها أول ما نزل؛ لأن الآيات الأربع في سورة {اقرأ} هي أول ما نزل، هذه السورة لها خصائص عجيبة:
أولًا: أنها أعظم سورة في القرآن.
وثانيًا: أن قراءتها ركن لكل صلاة لا تصح الصلاة إلا بها.
وثالثًا: أنها رقية من كل مرض، أي مرض اقرأ عليه الفاتحة؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم قال:"وما يدريك أنها رقية"، وأطلق كل مرض اقرأ عليه الفاتحة، لكن بصدق تجد الأثر.
{الحمد لله رب العالمين} ، الحمد، هو وصف المحمود بالكمال، وليست ثناء على الله بالجميل الاختياري كما هو معروف في بعض الكتب؛ لأن الذي يمنع من قولنا: الثناء ما جاء في الحديث الصحيح: "إن الإنسان إذا قال: {الحمد لله رب العالمين} قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرحمن الرحيم}، قال: أثنى علي عبدي".
إذن المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، واللام في قوله "لله" للاستحقاق وللاختصاص، للاستحقاق باعتبار الحمد هو المستحق، والاختصاص هو الحمد كله. من أين عرفنا الحمد كله؟ من "أل" الدالة على الاستغراق، الاختصاص من اللام في قوله:"لله" و"الله" عَلَمٌ على رب العالمين لا يُسمى به غيره، "رب العالمين" هذا نعت، يعني: وصفًا، ولكنه كالتعليل لما سبق وهو ألوهية الله- عز وجل فهو مستحقٌّ للألوهية؛ لأنه رب العالمين، أي: خالقهم ومالكهم ومدبرهم، والمراد بـ "العالمين" هنا: ما سوى الله، وسُمُّوا عالمين من العلم، لأنهم عَلم على الله- عز وجل ففي كل المخلوقات آية لله رب العالمين كما قال الناظم [المتقارب]:
فيا عجبًا كيف يعصى الإله
…
أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية
…
تدل على أنه واحد
فالخلق كله علم على الله، وإن شئت تأمل في نفسك تجد العجب العجاب، في الصفات المعنوية والصفات الخلقية والصفات الخلقية تجد العجب العجاب، لو سألت الأطباء ما في هذا البطن من المعامل المكررة للطعام يدخل الطعام أصنافًا مصنفة ويخرج صنف واحد، ويدخل فيه القاسي واللين ويخرج على صفة واحدة، هذا المعامل في الحقيقة لها أقوام توزع هذا يذهب هنا وهذا يذهب هنا، شيء عجيب، ولهذا قال الله- عز وجل:{وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21]. خذ كل شيء، وما أحسن أن تطالع لهذا الغرض كتاب "مفتاح دار السعادة" لابن القيم- رحمه الله تجد العجب العجاب.
إذن "العالمين" جميع المخلوقات سُمُّوا بذلك؛ لأنهم عَلَم على خالقهم- جل وعلا-، "الرحمن الرحيم" ما أحسن هذا الوصف بعد قوله:"رب العالمين" للإشارة إلى أن ربوبيته- عز وجل-
مبنية على الرحمة لا على التأسف والخطأ والخطل والزلل بل على الرحمة، "الرحمن" باعتبار الوصف، و"الرحيم" باعتبار الفعل.
"الرحمن" باعتبار قيام الرحمة به، وأنها رحمة واسعة، ولهذا جاء على هذا الوجه "رحمن" على وزن فَعْلان، وهذا الوزن في اللغة العربية يدل على الامتلاء والسعة كما يقال: غضبان أي: ممتلئ غضبًا، سكران ممتلئ سكرًا، وما أشبه ذلك.
"الرحيم" باعتبار الفعل بمعنى: راحم، وقد فسر بعض أهل العلم "الرحمن": ذو الرحمة العامة، و"الرحيم": ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين، لقوله تعالى:{وكان بالمؤمنين رحيمًا} [الأحزاب: 43]. {مالك يوم الدين} وفي قراءة: {ملك} والقراءتان كل واحدة تحمل معنًى؛ فـ "مالك" من المُلك وهو التصرف، و "مَلِك" من الملكوت وهو السلطان، فإذا جمعت القراءتين نتج من ذلك أن الله تعالى مَلِك مالك، في المخلوقات ملك لكن ليس بمالك. الملك غير المالك بالمعنى العام هو الذي ليس له سلطة في مملكته، السلطة لغيره والتدبير لغيره، لكن يُسمى مَلِكًا بالوراثة هذا مَلِك لكن غير مالك، يوجد الآن في بريطانيا التي تُسمى العظمة ملكةٌ مالكة أم غير مالكة؟ غير مالكة، وزوجها الذي يسمى ملك غير مالك، ويوجد مالك غير ملك كل واحد منكم معه كتاب هو مالك له ولكنه ليس مَلِكًا.
و"يوم الدين" هو يوم الجزاء؛ لأن الدين تارة يُطلق على العمل، وتارة يُطلق على الجزاء، قال الله- تبارك وتعالى:{لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6]. هذا دين العمل، وقال الله تعالى:{وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} [الانفطار: 17 - 19]. وهذا يبين الجزاء، ومن الأمثال السائرة:"كما تدين تدان" أي: كما تعمل تُجازى.
فـ "مالك يوم الدين" أي: مالك يوم القيامة، وخص ملكه بهذا اليوم؛ لأنه في هذا اليوم تتلاشى جميع الملكوتات لا مَلِك، لا أحد في هذا اليوم، يستوي الملك ويستوي أدنى واحد من رعيته، بل من كان أكرم عند الله فهو أعلى وأكبر، يقول الله- عز وجل في ذلك اليوم:{لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [الانفطار: 16]. يجيب نفسه؛ لأنه لا ملك لأحد في ذلك اليوم، الملك كله لله- عز وجل، وإلا فمن المعلوم أن الله مالك يوم الدين ومالك الدنيا أيضًا كما قال- عز وجل:{قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه} [المؤمنون: 88].
{إياك نعبد وإياك نستعين} إياك نعبد؛ أي: لا نعبد إلا إياك، ووجه كونها بهذا المعنى: أنه قُدم المعمول وهو "إياك" وتقديم المعمول على عامله يدل على الحصر، بل القاعدة أعم من هذا وهي "تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر"، والعبادة هي التذلل لله- عز وجل مع المحبة والتعظيم، مأخوذ من قولهم: طريق مُعَبَّد أي: مذلل للسالكين، ونحن نقول بدله: طريق
مزفلت، فالطريق المعبد المذلل للسالكين اشتق منه العبادة أن الإنسان يقوم بعبادة الله تعالى تذللًا له ومحبة وتعظيمًا هذه لله.
{وإياك نستعين} أي: نطلب العون منك لا من غيرك؛ أي: نطلب أن تعيننا على جميع أمورنا في الدنيا والآخرة، ولهذا حذف المستعان عليه لإفادة التعميم. "وإياك نستعين" نقول فيها بالنسبة للاختصاص كما قلنا في "إياك نعبد" أي: لا نستعين إلا إياك.
فإن قال قائل: ألسنا نستعين بغير الله؟
فالجواب: نستعين به على أنه سبب لا على أنه مستقل، واستعانتنا بالسيد استعانة بالله تعالى؛ لأننا نعلم أن الله تعالى إذا لم يُسخر هذا الرجل الذي استعنا به لم ينفعنا بشيء، فحقيقة الاستعانة بالمخلوق أنها استعانة بالله خالقه- عز وجل؛ لأنه هو الذي يُسخر لمن استعانه، ومع هذا نقول: الاستعانة المطلقة في كل شيء لا تكون إلا لله- عز وجل.
{اهدنا الصراط المستقيم} اهدنا الصراط: الهداية هنا يراد بها: هداية الإرشاد والعلم وهداية التوفيق والطاعة، ودليل ذلك حذف حرف الجر، أي: أنك لم تقل: "اهدنا إلى الصراط المستقيم" فيكون المعنى: اهدنا إليه وفيه، اهدنا إلى هذا العلم وفيه، هذا التوفيق، و"الصراط المستقيم" هو دين الإسلام، وسُمي صراطًا؛ لأنه طريق واسع يسع كل من يدخله، قيل: والصراط لا يكون صراطًا إلا إذا كان طريقًا واسعًا، وكان طريقًا سهلًا، وكان طريقًا مستقيمًا ثلاث أوصاف: واسع، سهل، مستقيم، قالوا: والاشتقاق يدل عليه؛ لأن صَرَطَ الشيء أي: ابتلعه بسرعة، ويُقال في اللغة العامية عندنا:"ظراط الشيء" يقول: أعطيته لحمًا فظرطه بسرعة، يعني: بلعه مباشرة بدون أن يعض بها.
إذن الصراط ما جمع ثلاثة أوصاف: السعة، والسهولة، والاستقامة، والاستقامة يعني: أنه لا اعوجاج فيه ولا ارتفاع ولا نزول؛ لأن الارتفاع والنزول هو في الحقيقة انحراف، عرج طريقًا من اليسار وعرجه طولًا وعلوًّا ونزولًا تكون المسافة واحدة، وقوله:"المستقيم" هذا من باب التأكيد؛ يعني: الذي لا اعوجاج فيه، وهذا مستفاد من معنى الصراط، لكنه أظهر هذا الوصف للتشويق إليه، هذا الصراط المستقيم صراط مَنْ؟ {صراط الذين أنعمت عليهم} ، والذين أنعم الله عليهم أربعة أصناف كما قال الله تعالى:{ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} [النساء: 69]. هؤلاء أنعم الله عليهم نعمة الهداية العلمية ونعمة الهداية العملية.
{صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم} الغضب هو وصف لله- عز وجل قائم بذاته على وجه الحقيقة، لكن هنا لم يقل: غير الذين غضبت عليهم بخلاف الإنعام قال: {الذين أنعمت
عليهم}، والحكمة من هذا: تلافي إضافة الغضب إلى الله- عز وجل في هذا السياق وإلا فقد اضاف الله الغضب إلى نفسه في مواضع أخرى كما قال- عز وجل: {من لعنه الله وغضب عليه} [المائدة: 60]. وقال في قاتل العمد: {وغضب الله عليه ولعنه} [النساء: 93]. أي فائدة أخرى أن من غضب الله عليه غضب عليه أولياء الله؛ لأن أولياء الله يحبون ما أحبه الله ويكرهون ما كره الله، فلما كان الغضب من الله ومن أولياء الله صار التعبير باسم المفعول أعمُّ، فمَن المغضوب عليهم؟ المغضوب عليهم يُعرف صنفهم إذا قسمت أقسام الناس في هذه السورة، {ولا الضالين} الضال: الذي لم يهتد للطريق، يطلب الطريق لكن ضلّ، كما لو خرج الإنسان في البرية ثم ضلَّ الطريق فهو يبحث عنه، وقد يسلك طريقًا فيه هلاكه وهو لا يدري، فالضال هو مَنْ جهل الحق بعد طلبه، {المغضوب عليهم}: هم الذين علموا الحق وخالفوه: {الذين أنعم الله عليهم} هم الذين علموا الحق واتبعوه، فالأقسام ثلاثة: عالم بالحق متبع له، فهذا أنعم الله عليهم، وعالم بالحق خالفه فمغضوب عليهم، وطالب للحق لم يوفق له الضال، هذه أقسام حاصرة، على رأس المغضوب عليهم: اليهود: وعلى رأس الضالين: النصارى، ولهذا جاء في الحديث وإن كان فيه نظر تفسير {المغضوب عليهم} باليهود، و {الضالين} بالنصارى.
وهذه السورة في الواقع إذ تأملها الإنسان وتعمق فيها علم الحكمة من كونها أم القرآن، وأم الكتاب؛ لأن جميع معاني القرآن ترجع إليها، فيها علم التاريخ، أحوال الأمم، الرسل، كل شيء، كل الموضوعات التي اشتمل عليها القرآن أساسها موجود في الفاتحة، ولهذا استحقت أن توصف بأنها "أم القرآن"، واستحقت أنها لا تصح صلاة أحد إلا بقراءتها وهذه مزية عظيمة، آية الكرسي أعظم آية، {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن، ومع ذلك تصح الصلاة بدونهما، لكن هذه لها هذه المزية؛ لأنها قد جمعت معاني القرآن الكريم، ومن أراد التوسع فيها فعليه بكتاب "مدارج السالكين" لابن القيم، فقد أتى فيه بالعجب العجاب حول تفسير هذه السورة العظيمة.
فتقول: "وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه""كان" أي: النبي- صلى الله عليه وسلم، "إذا ركع" يعني: حنى ظهره "لم يشخص رأسه ولم يصوبه" الإشخاص: الرفع، والتصويب: التنزيل، فهو لا يرفعه ولا ينزله، بل يجعله محاذيًا لظهره، ثم كيف حال الظهر؟ دلت الأدلة الأخرى على أنه يسوي ظهره تمامًا حتى لو صُبَّ الماء لاستقر من شدة تسوية الظهر، ولكن بين ذلك؛ يعني كيفية استواء ظهره المشار إليه في الحديث بأنه لا يكون فيه الإشخاص والتصويب.
"وكان إذا رفع من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا" لم تذكر التكبير أو التسبيح أو التحميد؛ لأنها أرادت أن تتكلم على الأفعال التي هي الأركان.
"وكان إذا رفع لم يسجد حتى يستوي قائمًا" يستوي أي: يعتدل، وقد مرَّ علينا أنه لابد من الطمأنينة، "وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي ساجدًا" هذا فيه طي، إذا رفع من السجدة أفادت: أنه يسجد بعد الرفع من الركوع، فإذا سجد وقام لم يسجد الثانية حتى يستوي جالسًا.
"وكان يقول في كل ركعتين التحية" يعني: في الفرائض، كل ركعتين يقول فيها التحية، إن كانت ثنائية فجميع التحية، وإن كانت ثلاثية أو رباعية فالركعتان الأوليان يقتصر فيهما على التشهد الأول، وقولها:"التحية" هذا من باب التعبير بالبعض عن الكل، والمراد: جميع التحيات.
"وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى" كان يفرش اليسرى يعني: يجلس عليها وينصب اليمنى، وقد أخرجها من جانبه الأيمن، فيكون أصابع اليمنى إلى الأرض وظهر اليسرى إلى الأرض، ولم تفصل- رضي الله عنها، لكن سبق في حديث أبي حُميد التفصيل وهو أنه في التشهد الأخير يتورك.
"وكان ينهي عن عقبة الشيطان" يعني: جلسته على عقبيه، وهل هو الإقعاء الذي ذكره ابن عباس- رضي الله عنهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم كان يفعله إذا جلس، أو هو الإقعاء الذي هو كإقعاء الكلب؟ ظاهر الحديث أنه الأول؛ يعني: أن قوله: "عقبة" في معنى: العقيبة؛ أي: الجلوس على عقبيه، وسيأتي في الفوائد كيف نجمع بين هذا وبين حديث ابن عباس.
"وينهي أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع" وهذا في حال السجود؛ لأنه لا يمكن أن يفترش الذراعين إلا إذا سجد، لو أراد أن يفترش ذراعيه في الجلوس لا يمكن، وفي القيام من باب أولى.
إذن ينهى عن افتراش الذراعين في حال السجود، وقولها:"افتراش السبع" من باب التشبيه للتقبيح؛ لأنه يكون كالسبع، والإنسان منهي عن التشبه بالحيوان فإنه مُكرم عليه فكيف ينزل بنفسه للتشبه بالحيوان، لاسيما وهو يناجي الله- عز وجل في الصلاة؟ !
"وكان يختم الصلاة بالتسليم" يعني: أن النبي- صلى الله عليه وسلم إذا انتهى من الصلاة سلَّم، و"أل" في قولها "بالتسليم" يُحتمل أن تكون لبيان الحقيقة، ويحتمل أن تكون للعموم، فإن قلنا: إنها لبيان الحقيقة صارت التسليمة الواحدة كافية؛ لأنها يحصل بها التسليم، وإن قلنا: إنها للعهد صار المراد بالتسليم التسليمتين.
قال: "أخرجه مسلم وله علة".
من فوائد هذا الحديث: ضبط عائشة- رضي الله عنها لأحوال النبي- صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وعباداته ومعاملاته؛ لأن أخص الناس به زوجاته، فإنهن يعلمن من السر ما لم يعلمه غيرهن.
ومنها: سعة علمها- رضي الله عنها، حيث ساقت هذا الحديث كله بجمله وأفراده.
ومنها: مشروعية افتتاح الصلاة بالتكبير، وهذا التكبير ركن من أركان الصلاة لا تنعقد الصلاة إلا به، ويجب أن يكون التكبير بهذا اللفظ "الله أكبر" فلو أتى بمعناه لم يصح، واختلف العلماء- رحمهم الله فيمن لا يعرف الأذكار إلا بلغته، هل يأتي بها بلغته أو يكلف أن يتعلمها بالعربية؟ والصواب: أن يأتي بها بلغته، أما القرآن فقد عُلم أنه لا يجوز أن يُترجم حرفيًّا، أما أن ينقل معناه فلا مانع، ولا يقرأ بغير العربية، وأما الأذكار فلا بأس، والله- عز وجل يعلم لغة كل قوم.
ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي- صلى الله عليه وسلم لا يجهر بالاستفتاح ولا بالتعوذ ولا بالبسملة لقولها: "والقراءة بالحمد لله رب العالمين".
ومنها: أن الإنسان لا يُقدِّم السورة التي بعد الفاتحة على الفاتحة، لم يكن هذا مشروعًا فإن تعمد على وجه التلاعب فصلاته باطلة، وإن تعمد لا على وجه التلاعب فصلاته غير باطلة، لكنه أخطأ، وإن نسي فإنه لا شيء عليه، ولكن يعيد السورة بعد الفاتحة، وهل يسجد للسهو؟ قيل: إنه يسجد للسهو استحبابًا لا وجوبًا؛ لأن مثل هذا القول لا يُبطل الصلاة عمده، لكنه أتى به في غير موضعه وقالوا كل من أتى بقول مشروع في غير موضعه فإنه يستحب له أن يسجد للسهو، وعلى هذا فمن نسي وقرأ السورة قبل الفاتحة قلنا له: اقرأ الفاتحة، ثم اقرأ السورة، ثم اسجد للسهو استحبابًا، ولا نقول: إنه واجب؛ لأن الإنسان لو تعمده لم تبطل صلاته.
ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية الركوع في الصلاة، وهو ركن من أركان الصلاة؛ لأن الله تعالى عبّر به عن الصلاة، وإذا عبر الله بالبعض عن الكل دل ذلك على أنه لابد من وجود هذا البعض في الكل، وهذه القاعدة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله في "كتاب الإيمان" حيث ذكر فيه أنه إذا عبَّر عن الشيء ببعضه دلَّ على أن هذا البعض واجب في ذلك الكل. هل عبّر الله تعالى عن الصلاة بالركوع؟ نعم، في قوله تعالى:{وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43]. الركوع الواجب منه الانحناء، ولكن هل له ضابط؟ قيل: إن ضابط الانحناء أن يُمَكِّن المعتدل في طول يديه وقصرهما من مس الركبتين، وقيل: إن الواجب أن يكون إلى الركوع الكامل أقرب منه إلى القيام الكامل، وذلك لأن الانحناء قد يكون أقرب إلى القيام، وقد يكون أقرب إلى الركوع، وقد يكون مساويًا، يعني: ليس انتصابًا ولا ركوعًا تامًّا، قالوا: الواجب هو أن يكون إلى الركوع الكامل أقرب منه إلى القيام الكامل، وأظن أن هذا متقارب، بمعنى: أنك لو نظرت إلى الرجل المعتدل في طول الذراعين وجدت أنه إذا أمكنه أن يمسَّ ركبتيه كان إلى الركوع الكامل أقرب منه إلى القيام الكامل.
ومن فوائد هذا الحديث: أن السنة في الركوع ألا يرفع رأسه ولا ينزله عن ظهره، لقولها- رضي الله عنها:"لم يشخص رأسه ولم يصوبه"، ولكن بين ذلك، ومعلوم أنه إذا كان الرأس بين ذلك سوف يكون مساويًا في الظهر، وهل يشمل هذا أن يصوب الظهر مع الرأس، أو يشخص الظهر مع الرأس؟ نعم، نحن مثلًا لدينا أربعة أشياء:
الأول: أن يرفع الرأس والظهر.
والثاني: أن ينزل الرأس والظهر؛ لأن بعض الناس تجده عندما يركع ينزل مرة بظهره ورأسه.
والثالث: أن يكون الظهر مستويًا، ولكن يرفع رأسه.
والرابع: أن يكون الظهر مستويًا، ولكن ينزل الرأس، فهي نفت الارتفاع والانخفاض في الرأس سواء؛ أي: أن استواء الظهر والرأس في هذه الحالة يكون سواء ارتفاعًا وانخفاضًا، إلا أن الرأس ينزل، بينما الظهر يبقى مستويًا، فالاعتدال هو المفروض، ولهذا ذُكِرَ "أن من صفة النبي- صلى الله عليه وسلم في ركوعه أنه لو صبَّ الماء على ظهره لاستقر".
ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية الرفع من الركوع لقولها- رضي الله عنها: "وكان إذا رفع من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا" يعني: حتى يستقر قائمًا، وهذا الرفع ركن من أركان الصلاة، فلو أن الإنسان وهو راكع سجد قبل أن ينهض فقد ترك ركنًا من أركان الصلاة؛ إذن لابد أن يرفع حتى يستوي قائمًا.
ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية السجود لقولها: "وكان إذا رفع من السجدة"، والرفع من السجود ركن من أركان الصلاة لابد منه.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجب البقاء بعد السجود قاعدًا حتى يستقر لقولها: "إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسًا"، وهذا الجلوس حكمه ركن من أركان الصلاة.
ومن فوائد هذا الحديث: التشهد في كل ركعتين سواء كانت ثنائية أو ثلاثية أو رباعية؛ الثنائية كالفجر يتشهد في الثانية، الثلاثية كالمغرب، الرباعية كالظهر والعصر والعشاء، هذه التحية هل هي ركن أو لا؟ نقول: مقتضى سياق الحديث أن تكون ركنًا؛ لأنها ذكرتها مع الأركان، ولكن السنة يفسر بعضها بعضًا ويقيد بعضها بعضًا، ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم أنه ترك التشهد الأول ذات يوم وجير هذا الترك بسجود السهو، والأركان لا تُجبر بسجود السهو، فدل هذا على أن التشهد واجب، ولكنه يسقط بالسهو ويُجبر بسجدتين قبل السلام كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم تمامًا.
فإن قال قائل: هل كلامها هذا يشمل الفرض والنفل؟
فالجواب: أنه يشمل الفرض والنفل؛ لأن ما يثبت في الفرض يثبت في النفل، وما يثبت في النفل يثبت في الفرض إلا بدليل، والدليل على أن ما ثبت في النفل يثبت في الفرض، وما ثبت في الفرض ثبت في النفل إلا بدليل: أن الصحابة- رضي الله عنهم لما حكوا أن النبي- صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به، قالوا غير هذا: أنه لا يصلي عليها المكتوبة، فاستثناؤهم هذا يدل على أن من المتقرر عندهم أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل، وعلى هذا فنقول: النفل جاز فيها الركعة الواحدة كالوتر، والخمس بتسليم واحد، والسبع بتسليم واحد، والتسع بتسليم واحد، إلا أنه يجلس عقب الثامنة ويتشهد ولا يُسلم، هذه الثلاث ورد فيها سُنَّتان.:
الأولى: إذا أوتر بثلاثٍ فصفتان: الأولى: أن يسلم من ركعتين ثم يأتي بواحدة، والثانية: أن يوتر بثلاثٍ سردًا دون التشهد؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم نهى أن يشبه الوتر بصلاة المغرب، بقية النوافل يُسلم من كل ركعتين، وعليه فلابد من التشهد في كل ركعتين، وما ورد في فضل أربع ركعات بتسليم واحد فهو ضعيف لا يعوَّل عليه:"صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"، وقد صحح كلمة "النهار" كثير من العلماء، ومنهم الشيخ عبد العزيز بن باز- رحمه الله حيث ذكر أن هذه اللفظة الزائدة "النهار" تعتبر زيادة صحيحة.
من فوائد هذا الحديث: أن المشروع في جلسة الصلاة أن يفترش المصلي رجله اليسرى وينصب اليمنى، وقد تم شرحها فيما سبق، لكن ظاهر الحديث أنه في كل الصلوات، يعني: الثلاثية والرباعية والثنائية.
وقد يقول قائل: إنه ليس ظاهر الحديث؛ لأنها قالت: "وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفترش" أي: يفترش في هذه التحية، وهذا حق كلما جلس الإنسان للتشهد في ركعتين فإنه يفترش.
فقد يقول قائل: ليس ظاهر الحديث أنه في الصلاة الثلاثية والرباعية في كلا التشهدين،
فإن أبى آبٍ إلا أن يقول: ظاهر الحديث أنه يفترش رجله اليسرى وينصب اليمنى في جلسات الصلاة للتحيات الأولى والثانية.
قلنا: هذا الظاهر مرفوع بما جاء صريحًا في حديث أبي حُميد وغيره أنه في الصلاة الثلاثية والرباعية يتورك في التشهد الأخير ولا يفترش، ولهذا اختلف العلماء- رحمهم الله في هذه المسألة؛ فمنهم من قال: إنه يفترش في جميع جلسات الصلاة في التحيات الأولى والثانية وبين السجدتين، ومنهم من فصّل، وهذا التفصيل هو الصواب.
إذن التشهد الأخير تورك، التشهد الأول افتراش، الجلوس بين السجدتين افتراش.
ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن مشابهة الشيطان لقولها: "وكان ينهي عن عقبة الشيطان".
فإذا قال قائل: الحديث نهى عن التشبه بالشيطان في شيء واحد وهو الجلسو، فكيف تُعَمم؟
فالجواب عن هذا: أن النبي- صلى الله عليه وسلم أضاف العقبة إلى الشيطان تقبيحًا لها لكونها قعدة الشيطان.
ثانيًا: أن لدينا حديثًا عامًّا وهو: "أن من تشبه بقوم فهو منهم"، ولا يمكن أن يرضى أحد بتشبهه بالشيطان، وسبق القول في عقبة الشيطان أنها: أن ينصب قدميه ويجلس على عقبيه، وظاهر هذا الحديث العموم؛ لأن سواء كانت القعدة بين السجدتين أو في التشهدين، وهذا ما ذهب إليه أصحاب الإمام أحمد- رحمهم الله وقالوا: إن هذه القعدة مكروهة، ولكن ابن عباس- رضي الله عنهما ذكر أن هذا الإقعاء من السُّنة، ولا يبعد أن يكون ابن عباس- رضي الله عنهما رأى النبي يفعل ذلك ولم يعلم بما فعله أخيرًا من كونه يفترش أو يتورك، وقولهم:"لا يبعد" ليس معناه يقينًا، لكن لا يبعد هذا كما فعل عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه في التطبيق والوقوف بين المأمومين، حيث كان ابن مسعود- رضي الله عنه يقف بين المأمومين، يعني: إذا صاروا ثلاثة وقف بينهما، ولكن هذا الحكم منسوخ؛ لأنه إذا كان الجماعة ثلاثة صار إمامهم أمامهم.
ثانيًا: التطبيق: أن يضع إحدى يديه إلى الأخرى بين فخذيه إذا ركع، ابن مسعود- رضي الله عنه متمسك بهذا مع أنه منسوخ؛ لأن الرجل إذا ركع أين يضع يديه؟ على ركبتيه، فلا يبعد أن يكون ابن عباس- رضي الله عنهما كحال عبد الله بن مسعود.
ومن فوائد هذا الحديث: النهي أن يفترش المصلي ذراعيه كافتراش السبع، والسبع هنا