الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
12 - باب صلاة الجمعة
هذا من باب إضافة الشيء إلى زمنه ووقته، فهي الصلاة التي تُفعل في وقت الجمعة، وسمي هذا اليوم بـ"يوم الجمعة" لاجتماع الناس فيه على الصلاة، ولأنه جمع فيه من الآيات الكونية ما لم يجتمع في غيره، ففيه خُلق آدم، وفيه أدخل الجنّة، وأُخرج منها، وفيه تقوم الساعة
…
إلى آخره ما فيه من الخصائص، فلهذا سُمي يوم الجمعة، وقد ذكر اسمه بلفظ في القرآن في قوله تعالى:{يا أيها الذين أمنو إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9]، وهل ذكر في القرآن يوم آخر بعينه سواه؟ نعم، يوم السبت، لكن يوم السبت ذكر على سبيل التوبيخ واللوم.
التحذير من ترك الجمع:
422 -
عن عبد الله بن عمر، وأبي هريرة- رضي الله عنهم، أنّهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره:"لينتهينَّ أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمنَّ الله على قلوبهم، ثمَّ ليكوننَّ من الغافلين"، رواه مسلم.
قوله: "عنهم" الضمير جمع والراوي اثنان فكيف يكون ذلك؟ نقول: لأن عبد الله بن عمر هو وأبوه، وقوله:"يقول" هذه جملة حالية وليست مفعولًا ثانيًا، لأن "سمع" هذه تعلق بشيء محسوس فهو كالرؤية البصرية تنصب مفعولًا واحدًا، فإذا قلت:"رأيت الرجل يسعى" جملة "يسعى" جملة حالية، وهذه أيضًا جملة حالية سُمعت؛ لأن السماع يتعلق بالأمور المحسوسة ليس بالأمور العلمية التي في القلوب.
يقول: "على أعواد منبره" أعواد جمع عود، والمنبر المكان المرتفع فهو من النبر- وهو الارتفاع- وأعواد منبر الرسول صلى الله عليه وسلم هي: عبارة عن خشب صُنعت من أثل الغابة صنعها غلام لامرأة من الأنصار، وجعلها ثلاث درج، وكان النبي- عليه الصلاة والسلام في الأول يخطب إلى جذع نخلة، وزعم بعض المؤرخين أنه كان يخطب على منبر من طين، ولكن لم يثبت، والمعروف أنه كان يخطب إلى جذع هذه النخلة، ولما صنع المنبر وصعده النبي- عليه الصلاة والسلام حتى نزل الرسول- عليه الصلاة والسلام وأسكته فسكت، وهذا من آيات الله الدالة على أن كل شيء من جماد هو حي، وسواء كان الجماد فيه الحياة أو ليس فيه حياة فإنه يعلم ويعرف، فهذا أحد حصى ينمو أو لا؟ ليس فيه نمو ومع ذلك يحبنا ونحبه، والحصى سمع يسبح بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، والحجر كان يُسلم على الرسول- عليه الصلاة والسلام في مكة هذا أيضًا جماد
ولكن أحس بفقد الرسول- عليه الصلاة والسلام ما سكت إلا لما نزل الرسول- عليه الصلاة والسلام من المنبر وأسكته، وهذا المنبر صنع له على ثلاث درج، ولما صنع له صار يخطب عليه- عليه الصلاة والسلام وبقي في عهد أبي بكر، وعهد عمر، وعثمان، وعلي، وأول زمان معاوية، وزعم بعض المؤرخين- وأخشى أن يكون من دسائس الرافضة- أن معاوية طلب من مروان أن ينقل منبر الرسول- عليه الصلاة والسلام إلى الشام، ويقال: إنه لما همَّ بذلك حصل في المدينة ظلمة حتى شوهدت النجوم ولمّا رأى ذلك مروان أظهر للناس أنه لا يريد أن يقلعه ويذهب به إلى الشام وإنّما يريد أن يزيده، فزاده من ثلاث إلى ست درجات، وبقي على هذا حتى احترق المسجد سنة (654) هجرية، ثم بعد ذلك احترق مع المسجد، وصار الخلفاء كل واحد منهم يأتي بمنبر حتى وقتنا هذا.
فالشاهد أن قوله: "على أعواد منبره" نقول: المنبر هو عبارة عن ثلاث درج من الخشب من الأثل اتخذه النبي- عليه الصلاة والسلام ليخطب عليه.
يقول: "لينتهين" اللام هذه موطئة للقسم، والنون للتوكيد، والتوكيد هنا واجب أو كثير أو قليل؟ واجب لمام الشروط الأربعة فهو مثبت وفي قسم ومستقبل ولم يفصل عن لامه فيكون هنا التوكيد واجبًا، "لينتهين أقوام" أقوام: نكرة ولم يبينها الرسول- عليه الصلاة والسلام لأن من عادته أنه لا يعين أحدًا حتى وإن كان يعلمه مع أنه جاء في الحديث يُحتمل أن يعلمه أو لا يعلمه، على كل حال من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يعيّن أحدًا ولو كان يعلمه، ولهذا في قصة بريرة التي كاتبها أهلها وأرادت عائشة أن تشتريها وتشترط الولاء لها فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فاستأذنت عائشة النبي- عليه الصلاة والسلام خطيبًا في الناس فقال:"ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله"، وهو يعلمهم لكن هذه من عادته؛ لأن تعيين الإنسان في مثل هذه المقامات تجريح له في الواقع، وليس المقصود أن يجرح الشخص، ولكن المقصود أن يبين الحق وأن هذا باطل فلا يجوز، والتجريح في المقامات العامة هذا لا يصلح به مصلحة أبدًا، لأن الإنسان إذا عين شخصًا ربما يحمل على أن العداوة شخصية، وأراد أن يشهر به، انظروا إلى مؤمن آل فرعون:{وقال رجل مؤمن من أل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله} [غافر: 28]. لم يقل: أتقتلون موسى؛ لئلا يُتهم بأن دعوته إلى الحق دعوة شخصية عصبية، وهذا من حسن الدعوة.
يقول: "عن ودعهم الجمعات""ودع" هذا مصدر فعله "ودع" الماضي، والمضارع "يدعُ" والأمر "دع"، وهذا المصدر قليل مثلى إذا قلت:"يذرهم"، هذه فعل مضارع، والماضي "وذره"، والأمر "ذر"، والمصدر "وذر" هذه قليلة، "عن ودعهم الجمعات".
"ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين" الختم بمعنى الطبع، وسمي ختمًا مثل ما يختم الإنسان على الظرف لزيادة التوثقة، والمعنى: أنه- والعياذ بالله- يختم على القلب في غلاف لا يصل إليه خير قط، لأنهم تركوا الجمعيات يقول:"ثم ليكونن من الغافلين" هذه نتيجة الطبع أو الختم: الغفلة عن ذكر الله وعن آياته، والغفلة عن ذكر الله وآياته تستلزم أن يكون أمر الإنسان فرطًا ما يستفيد من وقته، ولا من عمره، {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هوته وكان أمره فرطًا} [الكهف: 28]. ضائعًا والعياذ بالله.
هذا الحديث يستفاد منه عدة فوائد:
أولًا: التحذير من ترك الجمعة من قول: "لينتهين أو ليختمن الله".
ثانيًا: أن ترك الجمعات من كبائر الذنوب، من أين تؤخذ؟ من الوعيد عليه، وكل ذنب فيه وعيد فإنه من كبائر الذنوب.
ثالثًا: أن الجمعة فرض عين ما الدليل؟ لأنها لو كانت فرض كفاية لاكتفي بالحاضرين ولم يكن على التاركين إثم.
رابعًا: مشروعية الخطبة على المنبر لقولهما: "على أعواد منبره".
خامسًا: أنه ينبغي في الأحكام العامة أن تكون علنًا مظهرًا؛ لأن الرسول أظهرها في خطبة الجمعة.
والسادس: أنه ينبغي في الخطب أن يذكر فيها ما يناسب المقام؛ لأن خطبة الجمعة من أهم ما يذكر فيها الحث على الجمعة والتحذير من إضاعتها.
ومن فوائد الحديث: الرد على الجبرية، من أين يؤخذ؟ من قوله:"لينتهين"، وقوله:"ودعهم" كل هذا إضافة الفعل إلى الفاعل، وهذا أمر معلوم والحمد لله، كل إنسان يعرف أنه يفعل بالاختيار ويدع بالاختيار.
ومن فوائد الحديث: إثبات الأسباب، من أين تؤخذ؟ من قوله:"لينتهين أو ليختمن الله" فيجعل النبي- عليه الصلاة والسلام ترك الجمعة سببًا للختم على القلب.
ومن فوائد الحديث: أن الله عز وجل لا يجازي الإنسان بالإقدام على المعصية إلا حيث كان الخطأ منه- أي: من الإنسان-، الختم على القلب حتى يصبح الإنسان غافلًا، هذه عقوبة عظيمة ما سببها؟ سببها الإنسان في ودعه الجمعات، ولهذا قال تعالى:{فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5]. فجعل سبب إزاغته زيغهم هم، ولكل شيء سبب.