المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌صفة الاستفتاح ومعانيه: - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٢

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌7 - باب صفة الصلاة

- ‌صفة الاستفتاح ومعانيه:

- ‌الاستعاذة ومعناها:

- ‌أوضاع منهي عنها في الصلاة:

- ‌مواضع رفع اليدين وصفته:

- ‌صفة وضع اليدين في القيام:

- ‌حكم قراءة الفاتحة:

- ‌هذه الروايات فيها فوائد:

- ‌أحكام البسملة:

- ‌شروط كون قول الصحابي حجة:

- ‌التأمين وأحكامه:

- ‌متى تسقط الفاتحة:

- ‌كيفية القراءة في الصلاة:

- ‌مقدار القراءة في صلاتي الظهر والعصر:

- ‌قدر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب والعشاء والفجر:

- ‌صفة القراءة في فجر الجمعة:

- ‌هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تدبر القراءة في الصلاة:

- ‌أذكار الركوع والسجود ومعانيها:

- ‌تكبيرات الانتقال وأحكامها:

- ‌أذكار القيام من الركوع ومعانيها:

- ‌هيئة السجود وأحكامه:

- ‌صفة الأصابع في السجود والركوع:

- ‌الجلوس في محل القيام وأحكامه:

- ‌الدعاء بين السجدتين:

- ‌حكم جلسة الاستراحة:

- ‌القنوت وأحكامه:

- ‌دعاء القنوت:

- ‌حكم تقديم اليدين قبل الركبتين للسجود:

- ‌صفة وضع اليدين في التشهد:

- ‌صيغ التشهد ومعانيها:

- ‌صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌الدعاء بعد التشهد وأحكامه:

- ‌صفة التسليم وأحكامه:

- ‌الأذكار دبر الصلوات ومعانيها:

- ‌وجوب تعلم صفة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌صلاة المريض:

- ‌8 - باب سجود السهو وغيره من سجود التلاوة والشكر

- ‌صفة سجود السهو:

- ‌السجود للسهو بعد السلام وحكمه:

- ‌حكم التشهد لسجدتي السهو:

- ‌حكم سجود السهو قبل الكلام:

- ‌السهو مبني على غلبة الظن:

- ‌سقوط سجود السهو:

- ‌حكم سهو الإمام والمأموم:

- ‌سجود التلاوة:

- ‌حكم سجود التلاوة:

- ‌أحكام سجود التلاوة:

- ‌بعض مواضع سجود التلاوة في القرآن:

- ‌حكم سجود القارئ والمستمع والسامع:

- ‌التكبير لسجود التلاوة:

- ‌9 - باب صلاة التطوع

- ‌السنن الرواتب:

- ‌فضل ركعتي الفجر:

- ‌النفل قبل العصر والمغرب:

- ‌التخفيف في ركعتي الفجر والاضطجاع بعدها:

- ‌قيام الليل:

- ‌صلاة الوتر:

- ‌صفات صلاة الوتر:

- ‌الحث على قيام الليل والوتر:

- ‌لا وتران في ليلة:

- ‌ما يقرأ في الوتر:

- ‌صلاة الضحى:

- ‌10 - باب صلاة الجماعة والإمامة

- ‌حكم صلاة الجماعة:

- ‌وجوب الحضور للجماعة في المسجد:

- ‌عدم سقوط الجماعة عن الأعمى:

- ‌صلاة المفترض خلف المتنقل:

- ‌حكم الصلاة قيامًا خلف إمام قاعد:

- ‌مراعاة حال المأمومين في الصلاة:

- ‌إمامة الصغير المميز:

- ‌يقدم في الإمامة الأكثر قرآنًا:

- ‌تسوية الصفوف والمقاربة بينها:

- ‌أفضلية الصف الأول للرجال:

- ‌صلاة المرأة والصغير خلف الإمام:

- ‌حكم صلاة المنفرد خلف الصف:

- ‌المشي إلى الصلاة بالسكينة والوقار:

- ‌استحباب الكثرة في الجماعة:

- ‌حكم إمامة المرأة لأهل دارها:

- ‌الدخول مع الإمام على أي حال أدركه:

- ‌11 - باب صلاة المسافر والمريض

- ‌حقيقة السفر ومعناه:

- ‌قصر الصلاة في السفر وحكمه:

- ‌مسائل مهمَّة:

- ‌الصلوات التي لا تقصر في السفر:

- ‌الفطر في السفر وحكمه:

- ‌عدد الأيام التي يجوز فيها القصر:

- ‌حكم الجمع بين الصلاتين في السفر:

- ‌حالات جمع التقديم والتأخير:

- ‌حالات الجمع بين الصلاتين في الحضر:

- ‌الصلوات التي لا يجمع بينها:

- ‌صلاة المريض وكيفيتها:

- ‌12 - باب صلاة الجمعة

- ‌التحذير من ترك الجمع:

- ‌وقت صلاة الجمعة:

- ‌العدد الذي تنعقد به الجمعة:

- ‌حكم إدراك ركعة من الجمعة:

- ‌حكم الخطبة قائمًا:

- ‌صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌استحباب طول الصلاة وقصر الخطبة:

- ‌قراءة سورة (ق) في الخطبة:

- ‌حكم تحية المسجد والإمام يخطب:

- ‌ما يقرأ في الجمعة والعيدين:

- ‌صلاة النفل بعد الجمعة وأحكامها:

- ‌حكم فصل الفريضة عن النافلة:

- ‌فضل الاغتسال والتطيب يوم الجمعة:

- ‌ساعة الإجابة يوم الجمعة:

- ‌استغفار الخطيب للمؤمنين:

- ‌حكم قراءة آيات من القرآن في الخطبة:

- ‌الذين تسقط عنهم الجمعة:

- ‌13 - باب صلاة الخوف

- ‌شروط صلاة الخوف:

- ‌الصفة الأولى لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الثانية لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الثالثة لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الرابعة لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الخامسة لصلاة الخوف:

- ‌14 - باب صلاة العيدين

- ‌حكم صلاة العيد في اليوم الثاني إذا ترك لعذر:

- ‌من السنة أكل تمرات قبل الخروج لعيد الفطر:

- ‌حكم خروج النساء لصلاة العيد:

- ‌مشروعية الخطبة بعد صلاة العيد:

- ‌صلاة العيد ركعتان بلا نفل:

- ‌صلاة العيد بلا أذان ولا إقامة ولا نفل:

- ‌صلاة العيد في المصلى:

- ‌التكبير في صلاة العيد:

- ‌قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد:

- ‌مخالفة الطريق والتكبير في الطريق:

- ‌15 - باب صلاة الكسوف

- ‌مشروعية صلاة الكسوف والدعاء فيها:

- ‌القراءة في صلاة الكسوف جهرًا:

- ‌صفة صلاة الكسوف:

- ‌الدعاء عند هبوب الريح:

- ‌حكم الصلاة للزلازل:

- ‌16 - باب الاستسقاء

- ‌صفة صلاة الاستسقاء والخطبة لها:

- ‌الدعاء في صلاة الاستسقاء:

- ‌تحويل الرداء في الاستسقاء والجهر بالقراءة:

- ‌مشروعية رفع اليدين في الاستسقاء:

- ‌أقسام التوسل وأحكامه:

- ‌ما يفعل عند هطول المطر:

- ‌الدعاء عند رؤية المطر:

- ‌مشروعية الاستسقاء في الأمم السابقة:

- ‌17 - باب اللباس

- ‌تحريم الزنا والخمر والغناء:

- ‌تحريم لبس الحرير والجلوس عليه:

- ‌مقار ما يباح من الحرير:

- ‌حكم لبس الحرير لعذر أو مرض:

- ‌إباحة الذهب والحرير للنساء والحكمة منها:

- ‌حبُّ الله عز وجل لرؤية أثر نعمته على عبده:

- ‌النهي عن لبس القسيِّ والمعصفر:

- ‌جواز كف الثياب بالحرير وضوابطه:

- ‌كتاب الجنائز

- ‌الترغيب في تذكر الموت:

- ‌كراهة تمني الموت:

- ‌تلقين المحتضر الشهادة:

- ‌حكم قراءة يس عند المحتضر:

- ‌تغميض الميت:

- ‌حكم تسجية الميت:

- ‌حكم تقبيل الميت:

- ‌الإسراع في قضاء دين الميت:

- ‌حكم تحنيط الميت المحرم:

- ‌حكم تجريد الميت عن تغسيله:

- ‌صفة الغسل:

- ‌تكفين الميت وأحكامه:

- ‌استحباب الكفن الأبيض:

- ‌استحباب إحسان الكفن:

- ‌هل يجمع بين الرجال في الدفن، ومن يقدَّم:

- ‌كراهة المغالاة في الكفن:

- ‌حكم الصلاة على المقتول في حد:

- ‌حكم الصلاة على قاتل نفسه:

- ‌حكم الصلاة على القبر:

- ‌الصلاة على الغائب:

- ‌موقف الإمام في الصلاة على المرأة:

- ‌حكم الصلاة على الميت في المساجد:

- ‌عدد التكبير في صلاة الجنازة:

- ‌قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة:

- ‌الدعاء للميت في صلاة الجنازة:

- ‌الدعاء للمسلمين في صلاة الجنازة:

- ‌الإخلاص في الدعاء للميت:

- ‌استحباب الإسراع بالجنازة:

- ‌فضل اتباع الجنائز والصلاة عليها:

- ‌النهي عن اتباع النساء للجنازة:

- ‌كيفية إدخال الميت القبر:

- ‌الميت يتأذى بما يتأذى به الحي:

- ‌اللحد والشق في القبر:

- ‌النهي عن البناء على القبور وتجصيصها:

- ‌حكم تلقين الميت عند القبر:

- ‌زيارة النساء للقبور:

- ‌جواز البكاء على الميت:

- ‌النهي عن الدفن ليلًا:

- ‌استحباب إيناس أهل الميت:

- ‌آداب زيارة القبور:

- ‌النهي عن سب الأموات:

الفصل: ‌صفة الاستفتاح ومعانيه:

ومن فوائد هذا الحديث: حرص الصحابة- رضي الله عنهم على حفظ السنة، فإن هذا الحديث فيه طول، لكن الصحابه رضي الله عنهم أحرص الناس على حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

‌صفة الاستفتاح ومعانيه:

259 -

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض

إلى قوله: من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك

إلى آخره". رواه مسلم.

- وفي رواية له: "إن ذلك في صلاة الليل".

قوله: " إذا قام إلى الصلاة" ظاهر الحديث: إذا قام قبل أن يكبر فيقول هذا قبل التكبير، لكن في بعض الألفاظ:"وكبر" نقله بعض الشراح عن رواية مسلم ولم أرها فيه يعني: في صحيح مسلم، بل إذا قام إلى الصلاة.

وعلى هذا فنقول: يحتمل أن يكون هذا قبل التكبير أو بعده، فإن كان بعد التكبير فهو أحد الوجوه في صفة الاستفتاح، وإن كان قبله فليس كذلك.

قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض" وجهت، أي: جعلته وجاهه، والمراد بالوجه هنا: الوجه الحسي والوجه المعنوي.

أما الوجه الحسي: فهو الوجه الذي في الرأس.

وأما الوجه المعنوي: فهو القلب، فيكون المراد: وجهت قلبي ووجهي.

وقوله: "للذي فطر" هذا بيان الجهة التي وجهها إليها وهو الذي فطر السموات والأرض، يعني: الله عز وجل كما قال تعالى: {فاطر السموات والأرض} [فاطر: 1]. قال أهل العلم: والفطر هو فعل الشيء أولًا، فيكون معنى "فطر السموات" أي: خلقها على غير مثال سبق، يعني: هذه أول مرة تخلق السموات والأرض على هذه الصورة، و "السموات والأرض" تقدم الكلام عليها كثيرًا، وبينا السموات سبع بنص القرآن والسنة، وأن الأرضين وهي أيضًا سبع على ظاهر القرآن وصريح السنة.

إلى قوله: "من المسلمين"، قوله من؟ قول الله تعالى، لأن الآية هكذا:{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام: 162 - 163].

إذن فصوابها إلى قوله: "وأنا أول المسلمين".

قوله: "حنيفًا وما أنا من المشركين" حنيفًا يعني: مائلًا عن الشرك، فالاستقامة في قوله:

ص: 31

"وجهت وجهي للذي" وعدم الميل إلى الشرك في قوله: "حنيفًا"، وأكد ذلك بقوله:"وما أنا من المشركين"{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} [الأنعام: 162].

المراد بـ {صلاتي} : الصلاة المعروفة المعهودة شرعًا، {ونسكي}؛ قيل المراد بذلك: النسيكة وهي الذبيحة، فالمراد بالنسك: الذبائح التي يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل واستدل أصحاب هذا القول بقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2]، فذكر النحر بعد الصلاة، وقيل المراد بالنسك: العبادة، فعلى الأول يكون عطف نسك على صلاة من باب عطف المتباينين، وعلى الثاني من باب عطف العام على الخاص.

وأيهما أولى أن نقول: المراد بالنسك: جميع العبادات، أو المراد بالنسك الذبيح؟ الأول أولى، لماذا؟ لأنه يشمل الذبيحة وغيرها وكلما كان المعنى أشمل وأعم فهو أولى.

وقوله: {لله رب العالمين} اللام هذه للإخلاص، وقوله:{رب العالمين} أي: خالق العالمين مالكهم مدبرهم، و "العالم" كل من سوى الله فهو عالم من الإنس والجن والملائكة وغيرهم، وسموا عالمًا؛ لأنهم علم على خالقهم عز وجل، وجمعوا باعتبار الأجناس والأنواع فإنهم أجناس وأنواع.

{لا شريك له} هذا تأكيد للنفي، و {بذلك} أي: بما ذكر من الإخلاص واجتناب الشرك {أمرت} والآمر هو الله عز وجل، ولم يسم للعلم به، كقوله تعالى:{وخلق الإنسان ضعيفًا} لم يسم الخالق لماذا؟ للعلم به.

{وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} أورد بعض العلماء إشكالًا على هذا وقالوا: كيف يكون أول المسلمين وقد سبقه أمم وأنبياء ورسل كلهم مسلمون؟ فقيل: المعنى أول المسلمين من هذه الأمة فتكون الأولية نسبية؛ أي: باعتبار هذه الأمة، وقيل: إن الأولية هنا أولية صفة لا أولية زمن يعني: أنا أسبق الناس إلى الإسلام، وعلى هذا المعنى فلا نحتاج إلى أن نقول: إن الأولية نسبية؛ لأننا نعلم أن أشد الناس انقيادًا وإسلامًا لله: الرسول صلى الله عليه وسلم ومن المعلوم أننا نحن إذا قلنا: {وأنا أول المسلمين} لا يمكن أن نريد أول المسلمين زمنًا، لأن هذا يكذبه الواقع، لكنك تقر بأنك أول من يؤمن بهذا ويسلم لله عز وجل، سبقًا زمنيًا أو حاليًا؟ حاليًا.

قوله: "اللهم أنت الملك" اللهم، أي: يا الله هذا أصلها، فحذفت ياء النداء وعوض عنها الميم، وذلك لكثرة الاستعمال، وللتيمن بذكر الله عز وجل، قبل أداة النداء وعوضت عنها الميم، قالوا: لأنها جارية على الجمع، فكأن الداعي جمع قلبه على الله، وكانت في الآخر تيمنًا بالبداءة باسمه- جل وعلا-، وعلى هذا فنقول:"اللهم" منادي مبني على الضم في محل نصب.

"أنت الملك" يعني: ذا الملك التام والسيطرة التامة، فهو- سبحانه وتعالى ملك الملوك لا مالك إلا الله عز وجل وملكه جامع بين الملك الذي هو مطلق التصرف وبين الملك الذي هو

ص: 32

السيطرة التامة، ولهذا جاء في سورة الفاتحة قراءتان:{مالك يوم الدين} ، و {ملك يوم الدين} ، فإذا ضممت القراءتين بعضهما إلى بعض نتج عن ذلك أنه مالك ملك في الدنيا، قد يكون الإنسان ملكًا وليس بملك، فالإنسان يملك السيارة وليس بملك، يملك شاته وليس بملك، فإذا جمعت القراءتين نتج منهما أنه ملك مالك –سبحانه وتعالى.

"لا إله إلا أنت" أسأل ما معنى لا إله إلا أنت؟ لا معبود حق إلا أنت، إذن "إله" بمعنى: مألوه، يعني: لا معبود حق إلا أنت، وأما ما عبد من دون الله فهو وإن سمي إلهًا فليس بإله؛ لأنه ليس بحق كما قال عز وجل:{ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو البطل} [الحج: 62].

"أنت ربي وأنا عبدك" هذا من تحقيق الربوبية والإلوهية، تحقيق الربوبية في قوله:"أنت ربي"، والإلوهية في قوله:"وأنا عبدك" لأن العبد لابد أن يتعبد بما أراد معبوده

إلخ.

كأن المؤلف رحمه الله لم يسقه تمامًا كله اختصارًا أو اقتصارًا؛ لأنه مقيد لصلاة الليل، وليس استفتاحًا عامًا في كل الصلوات، فلذلك لم يسقه تامًا رحمه الله.

في هذا الحديث فوائد منها: جواز الاستفتاح بها الذكر، دليل ذلك وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المصلي موجه وجهه الظاهر والباطن إلى الله عز وجل.

ومن فوائده أيضًا: أن الذي فطر السموات والأرض هو الله- تبارك وتعالى لم يخلقهما أحد سواه ولم يشارك في خلقهما أحد سواه، ولم يعنه على خلقهما أحد قال الله- تبارك وتعالى:{قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرٍة في السموات ولا في الأرض} يعني: على وجه الاستقلال- {وما لهم فيهما من شرك} – على وجه المشاركة- {وما له منهم من ظهير} [سبأ: 22] أي: ما لله منهم من مساعد ومعين، فنفي الله – تبارك وتعالى الاستقلال والمشاركة والمعاونة؛ لأن الكل له عز وجل.

نشرح ما حذفه المؤلف: {حنيفًا وما أنا من المشركين} {حنيفًا} : أي: مائلًا عما سواه، {وما أنا من المشركين} من باب التأكيد، فيستفاد من ذلك: أن المعاني العظيمة ينبغي أن تؤكد بمؤكدات معنوية لا بالتأكيد المعروف عند النحويين.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الصلاة وسائر العبادات يجب أن تكون خالصة لله لقوله: {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} .

ومن فوائد الحديث: الاستدلال على استحقاق الإلوهية بثبوت الربوبية لقوله: {لله رب العلمين} . والله- تبارك وتعالى يحتج على الذين يشتركون به في ألوهيته بإقرارهم بربوبيته؛ يعني: كيف تؤمنون بأنه رب وهو الخالق وحده ثم تعبدون معه غيره، هذا مناف للعقل.

ص: 33

ومن فوائد هذا الحديث: أن محيا الإنسان ومماته لله؛ يعني: هو الذي يتصرف للإنسان في حياته وكذلك بعد مماته؛ لكمال ربوبيته –تبارك وتعالى.

يتفرع على هذه الفائدة: أنك لا تسأل لإصلاح حياتك أو مماتك إلا الله عز وجل، لأنه هو الذي يملك هذا {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} وإجابة الله –تبارك وتعالى الدعاء لمن لجأ إليه لا نحصي أفرادها، بل ولا أنواعها، بل ولا أجناسها، لو أنك تدبرت القرآن وجدت أن أدعية الرسل- عليهم الصلاة والسلام- كيف تستجاب لهم، وإذا تأملت التاريخ وجدت كيف يستجاب الدعاء لمن اتبعوهم بإحسان، وإذا تأملت عصرك وجدت أيضًا أمثلة على إجابة الدعاء، فإذا كان محياك ومماتك لله فلا تلجأ إلا إليه، لا تلجأ لأحد، لكن لا بأس أن تستعين بمن جعله الله تعالى سببًا بشرط أن تعتقد أنه سبب لا أصل، وإلا فمن المعلوم أن الإنسان يجوز أن يطلب من أخيه أن يساعده في شيء، أو فقير يطلب من غني أن يعطيه من الصداقة هذا شيء جائز، لكن يجب أن تعتقد أنه سبب، ولهذا قد لا ينفع، قد يحصل لك المطلوب وقد لا يحصل.

ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مكلف بأوامر الله لقوله: {وبذلك أمرت} فهل إذا أمر هو-عليه الصلاة والسلام يكون أمره أمر لنا؟ الجواب: نعم؛ لأنه إمامنا، ومخاطبة الإمام بالآمر مخاطبة لمن وراءه، ولهذا لو قال الإمام لقائد الجند أي: العسكر: يا فلان، اذهب إلى الناحية الفلانية، المراد: هو ومن كان تابعًا له، فالأوامر الموجهة للرسول صلى الله عليه وسلم له وللأمة، وليعلم أن الأوامر الموجهة للرسول صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما هو خاص به بلا إشكال، مثاله قوله تعالى:{ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك ووزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك} [الشرح: 1 - 4]. لمن الضمائر؟ للرسول، ولا يتعداه لغيره، خاص به بلا إشكال.

القسم الثاني: أوامر دل الدليل المقارن على أنها عامة له ولأمته، مثل قوله تعالى:{يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1]. الخطاب أولًا للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم صار لعامة الأمة في نفس الآية:{إذا طلقتم} ولم يقل: إذا طلقت، وهذا واضح أن الخطاب الأول ليس خاصًا بالرسول صلى الله عليه وسلم.

القسم الثالث: ألا يكون فيه دليل على هذا ولا على هذا، فهل يكون خطابًا للأمة من الأصل، أو يقال: هو خطاب خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم والأمة تفعله تأسيًا به لا على أنها مواجهة بالخطاب؟ فيه قولان للعلماء، والخلف بينهما قريب من اللفظ؛ لأن الكل متفقون على أن الأمة تمتثل أمرًا أو نهيًا.

ص: 34

ومن فوائد الحديث: الإخلاص لله عز وجل في قوله: "اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت" وهذا فرض على كل مخلوق أن يخلص لله عز وجل في ألوهيته.

ومن فوائد هذا الحديث: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله ربه وهو عبده لقوله: "اللهم أنت ربي وأنا عبدك" وهو صلى الله عليه وسلم أقوم الناس عبادة لله عز وجل حتى قال- عليه الصلاة والسلام: "إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم لما أتقي". وكان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، فقيل له: يا رسول الله، كيف تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ! قال:"أفلا أكون عبدًا شكورًا".

الربوبية والألوهية كلاهما ينقسم إلى عام وخاص؛ اجتمعت الربوبية العامة والخاصة في قول الله تعالى- نقلًا عن السحرة-: {قالوا ءامنا برب العالمين* رب موسى وهارون} [الأعراف: 121 - 122]. أين العامة؟ قوله: {برب العالمين} ، الخاصة:{رب موسى وهارون} ، كذلك العبودية تنقسم إلى عامة وخاصة، فقول الله- تبارك وتعالى:{إن كل من في السماوات والأرض إلا ءاتي الرحمن عبدًا} [الأعراف: 93]. هذه عامة، كل من في السموات وهم عبيد لله لا يمكن أن يخرجوا عن قضائه وقدره قيد أنملة ولا شعرة، وقول الله- تبارك وتعالى:{وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا} [الفرقان: 63]. هذه خاصة، والخاصة فيها ما هو أخص وهي عبودية الرسل؛ فإن عبودية الرسل أخص من عبودية بقية المؤمنين؛ لأنهم قاموا بالرسالة والعبادة، كما تقول مثلًا: المهاجرون جمعوا بين الهجرة والنصرة، والأنصار أخذوا بالنصرة فقط؛ فهم أنصاره وليسوا بمهاجرين.

الرسل- عليهم الصلاة والسلام- قاموا بالعبادة كما قام غيرهم من المؤمنين، ولكنهم- عليهم الصلاة والسلام- زادوا على العبادة القيام بأعباء الرسالة، وإبلاغ الرسالة ليس بالأمر الهين صعب صعب صعب، ولهذا لما قال عز وجل:{إنا نحن نزلنا عليك القرءان تنزيلًا} قال: {فاصبر لحكم ربك} [الإنسان 22 - 23]، لأن هذا تحميل يحتاج إلى صبر وهو كذلك، المسألة ليست هينة، الإنسان الذي يجابه الناس وكلهم مشركون معاندون ويحتاجون إلى دعوة، ولا يخفى علينا ما حصل للإنسان من المضايقة إذا دعا ولم يجد قبولًا، بل إذا أراد محاضرة في المسجد وجاء إلى المسجد الذي فيه محاضرة ولم يجد إلا صفًّا ونصفًا ماذا يكون؟ أزمة نفسية أم لا؟ أزمة نفسية يضيق صدره كيف لم يأت إلا هذا العدد القليل، لكن يجب أن يتسلى الإنسان بأمرين:

الأمر الأول: النبي صلى الله عليه وسلم كم بقي يدعو الناس سرًّا مختفيًا؟

والثاني: أن وسائل نقل العلم الآن- والحمد الله- اتسعت، فالذي لم يحضر إلى مجلس العلم اليوم نفسه يمكنه أن يكون شاهدًا؛ أي: يكون حاضرًا بالسماع- سماع الأشرطة- وهذا لا

ص: 35

شك أن يسلي الإنسان ويهون عليه المسألة، تجد مثلًا بعض المدرسين يأتي من مكان بعيد وإذا جاء إلى المسجد يجد نصف صف من الطلبة، بعض الناس لما وجدهم نصف صف قال: انتهى الأمر لابد لي من الرجوع، لا اصبر- أيها المعلم-؛ لأن الذي لم يحضر الدرس يستطيع أن يسمع الأشرطة.

نرجع الآن إلى أقسام العبودية صارت قسمين: الأول: عامة، والثاني: خاصة، والثانية فيها ما هو أخص.

قال المؤلف

إلخ ما ذكره، وتمامه:"وظلمت نفسي واعترفت بذنبي"، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ظلمت نفسي واعترفت بذنبي" ظلم النفس إما بتقصير في واجب أو بفعل محرم، فيستفاد من هذا إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم ظالم لنفسه؛ لأنه يخشى- عليه الصلاة والسلام أن يكون فرط في واجب، والمتتبع لسيرته يعلم أنه صلى الله عليه وسلم أطهر الناس وأبعدهم عن المعاصي، لكن لكمال تواضعه لله عز وجل وخشيته وخوفه من التقصير في الواجب قال:"ظلمت نفسي".

ومن فوائد هذا الحديث: إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم له ذنب، من أين نأخذه؟ من قوله:"اعترفت بذنبي". يقول بعض الناس: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يذنب ولا أدري ماذا يكون موقفهم من مثل هذا الحديث؟ قالوا: الذنب للأمة، هل يمكن أن الرسول يعترف بذنب أمته؟ الاعتراف لمن عليه الحق، ثم نقول لهم: ألم يقرءوا قول الله تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد: 19]. هذه لا يستطيع أحد أن يقول: {لذنبك} ، أي: ذنب أمتك، لكن خصوصية الرسول –عليه الصلاة والسلام أنه لو فعل شيئًا فإنه لا يقر عليه بل ينبهه الله عز وجل، دليل هذا قول الله تعالى:{يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفورٌ رحيمٌ * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 1 - 2]. فنبهه الله وفتح له باب المغفرة والرحمة، وقال عز وجل:{عفا الله عنك} [التوبة: 43]. هل هناك عفو بدون تفريط في شيء؟ لا، {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [التوبة: 43]. وما يضر الأنبياء إذا صدر عنهم معصية ثم ينبههم الله عليها، ثم استغفروا فغفر لهم ماذا يضرهم؟ لا يضرهم شيء بل يكون أحسن من الحال الأولى، هذا آدم عصى واجتباه الله عز وجل بعد أن استغفر وقال:{لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 149]. نوح سأل ما ليس له به علم؛ وذلك لأن ولده ليس من أهله وهو لا يعلم ذلك {إنه عملٌ غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظم أن تكون من الجاهلين} [هود: 46]. فالمهم أن الرسل- عليهم الصلاة والسلام- قد يقع منهم الخطأ، ولكن ميزتهم وخصيصتهم أنهم لا يقرون عليه.

لكن هنا شيء يجب أن نعلم أن الرسل معصومون منه وهو ما يخل بالأمانة، هذا شيء محال

ص: 36

عليهم؛ لأننا لو جوزنا هذا لادعى مدعٍ أنهم قد يكونون قد خانوا الرسالة، وهذا لا يمكن، يمتنع عليهم الكذب، فإنه لا يمكن أن يفعلون بأي حال من الأحوال لا جدًّا ولا مزحًا، يمكن أن يتأولوا ويأتوا بالتورية هذا ممكن، أما الكذب الصريح فلا يمكن هذا في حقهم، حتى إن النبي لا يمكن أن يشير بعينه على خلاف ما يفهمه مخاطبه يعني: لا يخون ولو بلحظة البصر؛ لأن هذا نوع من الخيانة، فالمهم أن ما يتعلق بالأمانة والصدق هم ممنوعون مما يخل به، كذلك ممنوعون مما يخل بالشرف والأخلاق هم ممنوعون منه بتاتًا؛ لأنهم إنما بُعثوا بمكارم الأخلاق، وبُعث النبي ليتمم مكارم الأخلاق، لكن ما يقع منهم من الذنوب فهي ترجع إلى ما تقتضيه النفس ويخطئ فيه الاجتهاد فقط.

ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي- صلى الله عليه وسلم مفتقر إلى دعاء الله لقوله: "فاغفر لي ذنوبي جميعًا".

ومن فوائد هذا الحديث: التوسل إلى الله- تبارك وتعالى بذكر صفته لقوله: "إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"، فإذا كان لا يغفر الذنوب إلا أنت فإلى من نرجع؟ إليه- سبحانه وتعالى؛ لأنه لا ملجأ لنا ولا منجى في طلب المغفرة إلا إليه- سبحانه وتعالى.

وقوله: "واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئ الأخلاق لا يصرف عني سيئها إلا أنت"، "اهدني لأحسن الأخلاق" أي: هداية علم وإرشاد، وأحسن الأخلاق أي: أكملها وأتمها، والأخلاق جميع خلق وهو الصفة الباطنة، والخَلق الصفة الظاهرة، فالإنسان خَلق وخُلق، الخُلق في الباطن والخَلق في الظاهر، وهذا يشمل الأخلاق فيما بين الإنسان وفيما بينه وبين العباد، "أحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت" هذا إظهار افتقار لله عز وجل وتوسل له بهذه الصفة، وهي أنه لا يستطيع أحد أن يهدي لأحسنها إلا الله عز وجل.

قال: "واصرف عني سيئ الأخلاق لا يصرف عني سيئها إلا أنت" عكس ما سبق، اصرفها عني بحيث لا أهتدي لها ولا أتلبس بها "لا يصرف عني سيئها إلا أنت".

"لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك" لبيك، أي: إجابة لك، وهي- كما ترون- بصيغة التثنية، وهل المراد الدلالة على التكرار، أو المراد حقيقة التثنية؟ الأول هو المراد؛ أي: أن المعنى: إجابة لك بعد إجابة مثل قوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين} [الملك: 4]. المراد: مطلق التعدد؛ أي: كرة بعد كرة، فيشمل إلى ما شاء الله، ومعنى "لبيك": إجابة، وهو واضح في كلام

ص: 37

الناس، إذا دعاك رجل تقول له: لبيك، وقيل المعنى: إقامة من قولهم: ألب في المكان؛ إذا أقام فيه، ولا مانع من أن نقول: إجابة لك وإقامة على طاعتك؛ فيكون شاملًا للمعنيين، "وسعديك" أي: إسعادًا بعد إسعاد، والمراد بـ "سعديك" أي: معونتك وإسعادك؛ أي: أكون سعيدًا، ونقول فيه كما قلنا في "لبيك" أن المراد بذلك: مطلق التكرار لا التثنية.

"والخير كله في يديك" أي: الخير في الدنيا والآخرة كله لله عز وجل هو الذي يقدره، وهو الذي يعطيه من شاء ويمنعه من شاء على ما تقتضيه حكمته وعدله.

"والشر ليس إليك" يعني: الشر لا ينسب إلى الله عز وجل؛ لأن أفعاله كلها خير وليس فيها شرٌّ بوجه من الوجوه، حتى ما يكون من المخلوقات من الشرور فإنه لا يكون شرًّا بالنسبة لإيجاد الله له، "والشر ليس إليك أنا بك وإليك" أنا بك، أي: وجودي بك وقوتي بك وعملي بك، فالباء هنا للاستعانة، "وإليك": الغاية والقصد، ففي الأول استعانة، وفي الثاني إخلاص إليك وحدك لا أرجع لغيرك، "أنا بك وإليك تباركت وتعاليت" تباركت أي: حلت البركة فيك" بمعنى: أن اسمك مبارك وذكرك مبارك وكلامك مبارك، وكل ما يصدر عن الله عز وجل فإنه مبارك، "فتعاليت" أي: ترفعت مكانًا ومنزلة، وهو أبلغ من قوله: "علوت"؛ لأن فيها- أي: في تعاليت- إشارة إلى الترفع ترفعه عن كل سفور- سبحانه وتعالى.

"أستغفرك": أطلب مغفرتك، والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه، "وأتوب إليك": أرجع إليك من معصيتك إلى طاعتك، وهي بمعنى: أسألك التوبة، فهي خبر بمعنى الدعاء، نرجع إلى فوائد الحديث من قوله: "واهدني لأحسن

".

ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مفتقر إلى الله- تبارك وتعالى؛ وذلك بطلب دعائه إياه، ولو كان غنيًّا عن الله ما احتاج أن يدعوه.

ومن فوائد هذا الحديث: أن كل أحد محتاج إلى حسن الأخلاق بل إلى أحسنها؛ لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا لذلك فمن دونه من باب أولى.

فإن قال قائل: أو ليس الله تعالى قد قال: {وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ} [القلم: 4].

فالجواب: بلى، فيقول: إذن ما الفائدة من قوله: "اهدني لأحسن الأخلاق" فنقول:

أولًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث دعا إلى ما هو أكمل مما أخبر الله به عنه: "لأحسن الأخلاق" هذه واحدة.

ثانيًا: أن الدعاء قد يكون المراد به: الثبات على أحسن الأخلاق، وإن كان في الداعي أصل الخلق الحسن، لكن يسأل الله أن يثبته.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا قادر على الهداية لأحسن الأخلاق إلا الله عز وجل لقوله: "لا يهدي لأحسنها إلا أنت".

ومن فوائده: التوكل على الله بصفاته المناسبة لما يدعو به الإنسان لقوله: "لا يهدي لأحسنها إلا أنت".

ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان محتاج إلى أمرين بالنسبة للأخلاق: خلو من الأخلاق السيئة، واتصاف بالأخلاق الكاملة، ولهذا قال:"اصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت"، ولا يكمل الإنسان إلا بهذا: بالخلو من الأخلاق السيئة، والاتصاف بالأخلاق الحسنة.

ص: 38

ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا بأس بالتلبية في غير الأحرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لبيك"؛ وذلك لأن "لبيك" بمعنى: أجاب وأقام، وهو في كل عبادة بحسبها، فالذي يقول في دعاء الاستفتاح "لبيك" لا يريد أنه دخل في النسك، يريد أنه لبى الله في غير العبادة، ومن خصال النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه: أنه إذا رأى في الدنيا ما يعجبه قال: "لبيك إن العيش عيش الآخرة"، كلما رأى ما يعجبه. افترض أنك مثلًا رأيت سيارة فخمة أعجبتك ماذا تقول؟ تقول:"لبيك إن العيش عيش الآخرة"، رأى قصرًا أنيقًا أعجبه ماذا يقول؟ يقول:"لبيك إن العيش عيش الآخرة"، فيقول:"لبيك" من أجل أن يجلب نفسه إلى عبادة الله؛ لأن النفس قد تنصرف إلى زهرة الدنيا، ويقول: إن العيش عيش الآخرة، يسلي نفسه أنه إذا فاته عيش الدنيا فالعيش عيش الآخرة، وهذا حق، ولهذا هؤلاء الذين عندهم القصور وعندهم السيارات هل سيخلدون في هذه القصور، هل ستبقى لهم هذه السيارات؟ أبدًا، إذن هذا العيش ليس بشيء، العيش حقيقة هو عيش الآخرة.

ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مفتقر إلى الله تعالى في الإسعاد لقوله: "وسعديك".

ومن فوائده: أن الخير بيد الله، وإذا كان بيد الله فمن تطلب أن يعطيك الخير؟ الله عز وجل حتى في الأمور التي يكون فيها البشر سببًا اسأل الله، لو أنت مثلًا عند الطبيب ليعالجك لا تجعل قلبك معلقًا بالطبيب وحده، اجعله معلقًا بالله عز وجل؛ لأن الخير في يده- سبحانه وتعالى.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الشرَّ لا يُنسب إلى الله لقوله: "والشر ليس إليك"، وهنا إشكال بل إشكالات:

الأول: إذا قلنا: إن الشر ليس يُنسب إلى الله، فهل نقول: إن الشر غير مُقدر لله؟ قد يقول قائل: إن الشر غير مقدر لله؛ لأن الرسول –صلى الله عليه وسلم قال: "الشر ليس إليك". فالمعاصي والفساد والقحط والجدب ليس من تقدير الله؛ لأنه شر، والشر ليس إليه. هذا واحد.

ص: 39

الإشكال الثاني: كيف تجمع بين هذا وبين قول النبي- صلى الله عليه وسلم في الإيمان بالقدر: "أن تؤمن بالقدر خيره وشره". والقدر من الله عز وجل خيره وشره، فأثبت أن في قدر الله شرًّا.

الجواب: أما الأول فنقول: إن النبي- صلى الله عليه وسلم قال: "الشر ليس إليك"، ولم يقل: الشر ليس منك، أي: لا يُنسب إليه الشر، فيقال: إن الله شرير عز وجل حاشاه وكلا، وفرق بين العبارتين، وإذا عرفت الفرق بين العبارتين تبين أنه لا حجة لبعض القدرية الذين يقولون: إن الله مقدر للخير وليس مقدرًا للشر، ويستدلون بهذا الحديث.

نقول: أمعنوا النظر، افهموا العبارة:"الشر ليس إليك" غير "الشر ليس منك" هذه واحدة، أما الجمع بين هذا الحديث وحديث الإيمان بالقدر:"أن تؤمن بالقدر خيره وشره" فنقول: المراد بالشر الذي في الإيمان بالقدر: شر المخلوقات المفعولات لا شر الخالق الفاعل، ففعل الله ليس فيه شر؛ الشر في المفعولات يعني: في المخلوقات؛ يعني: مثلًا خلق الله عز وجل سِباعًا وثعابين وعقارب كل هذه شرور بالنسبة للإنسان، يخلق الله تعالى الزلازل والصواعق والفيضانات كلها شر بالنسبة للإنسان، لكن بالنسبة لإيجاد الله لها وفعله لها هل هي شر؟ لا؛ والله هي خير عظيم لها فوائد جمة، أشار الله تعالى إلى بعضها في القرآن، قال الله تعالى:{ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41].

والرجوع إلى طاعة الله خير عظيم، {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء} [الشورى: 37] هذا خير أيضًا.

ومن الخير: أن تعلم كمال قدرة الله عز وجل؛ حيث خلق للناس ما فيه منفعة عظيمة وكثيرة، انظر إلى الذئب جسمه بالنسبة للبعير صغير كيد من أيديه ومع ذلك انظر ضرره على الخلق وانظر نفع البعير.

قال الله عز وجل: {ولهم فيها منافع ومشارب} [يس: 73]. فيتبين بذلك قدرة الله عز وجل كيف خلق من الضار نافع، ومن الحِكم: أن كثيرًا من الناس لا يقرأ الأوراد ولا يلتفت إليها إلا إذا خاف من ذات الشرور، ولولا ذات الشرور ما اهتم بالأوراد ولا بالذكر هذه فائدة، وهناك فوائد أخرى تظهر للمتأمل.

يتبين الآن أن إيجاد الله تعالى لهذه الشرور ليس شرًّا بالنسبة إلى الله، بل هو خير عظيم يظهر للمتأمل، وبذلك صدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"والشر ليس إليك".

هل يجوز أن يقول الإنسان: بيدك الخير والشر؟

الجواب: لا؛ لأنه إذا قال هذا نسب الشر إلى الله، إذا قال هذا خالف ما جاءت به السنة:"الخير في يديك والشر ليس إليك".

ص: 40

ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان لا تقوم مصالح دينه ودنياه إلا إذا آمن بهذه القضية العظيمة، التي أشار إليها النبي- صلى الله عليه وسلم بقوله:"أنا بك وإليك"؛ ففيه الإشارة إلى الاستعانة بالله والإخلاص له بقوله: "أنا بك وإليك".

ومن فوائد هذا الحديث: البركة العظيمة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته لقوله: "تباركت"، وقد فسرها الإمام محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله فقال:"تباركت" أي: أن البركة تُنال بذكرك، وهذا لاشك أنه داخل في المعنى، لكن المعنى أعم، فكل ما يصدر من الله فهو خير وبركة ولاسيما في الشرائع، رجل سمَّى الله حين ذبح الذبيحة فكانت حلالًا، والآخر لم يُسم فكانت حرامًا، والفعل واحد، والسكين واحد، وإنهار الدم واحد، والذبح واحد، التي سمَّى عليها الله طيبة- حلال- طاهرة، والثانية خبيثة حرام نجسة، كله بسبب ذكر الله عز وجل، إذا سمَّى الإنسان على الأكل بارك الله فيه، وإذا لم يُسم شاركه الشيطان ونُزعت منه البركة، وهلُمَّ جرًّا. تجد البركة في كل ما يتعلق بالله عز وجل ينبني على هذه الفائدة: ألا تطلب البركة إلا من الله عز وجل.

ومن فوائد هذا الحديث: تنزه الله- تبارك وتعالى عن كل ما لا يليق بجلاله لقوله: "تعاليت" يستدل بها أيضًا على علوه تعالى المكاني، وأنه تعالى فوق كل شيء.

ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي- صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم- يسأل الله المغفرة، ويتفرع منها: أن سؤالنا نحن للمغفرة أشد إلحاحًا؛ لأن الواحد منا لا يدري هل غُفرت له الذنوب أو لم تُغفر، فهو يأتي بالأسباب الموجبة للمغفرة، لكن لا يعلم هل تحصل المغفرة أو لا؛ لأنه قد يكون السبب الذي عُلقت عليه المغفرة في حقه ناقصًا لا يقوى على أن يكون سببًا لمحو الذنوب ومغفرتها.

ومن فوائد هذا الحديث: افتقار النبي- صلى الله عليه وسلم إلى مغفرة الله لقوله: "أستغفرك".

ومن فوائد الحديث: أن النبي- صلى الله عليه وسلم مفتقر إلى التوبة إلى الله عز وجل ومَن دونه من باب أولى. انتهى الكلام على هذا الحديث، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتأسين به.

260 -

وعن أبي هريرة- رضي الله عنه قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة سكت هنيهةً قبل أن يقرأ، فسألته، فقال:"أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد". متفق عليه.

قوله: "إذا كَبَّر للصلاة" أي: إذا قال: الله أكبر، والمراد بذلك: تكبيرة الإحرام، "سكت هُنَيْهَةٌ" أي: سكت سكوتًا قليلًا، فـ "هنيهة" وصف لموصوف محذوف، والتقدير: سكوتًا هنيهة؛ أي: قليلًا "قبل أن يقرأ فسألته". هنا اختصر المؤلف الحديث، وليته لم يصل إلى هذا القدر من

ص: 41

الاختصار، قال أبو هريرة:"بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ "، هذه الجملة التي حذفها المؤلف فيها فوائد، لكن كأن المؤلف- رحمه الله يختصر الحديث بقدر ما يريد أن يكون دليلًا عليه وعلى المسائل الفقهية، لكن نقولها: قال: "بأبي أنت وأمي" بأبي متعلق بمحذوف، والتقدير: أفديك بأبي وأمي؛ يعني: أجعل أبي وأمي فداء لك.

"أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ " يعني: أخبرني عن هذا السكوت ما تقول؟ والمراد بالسكوت هنا: عدم الرفع بالصوت، والأصل في السكوت: هو الإمساك عن القول، يقال: تكلم وسكت، ولكن المراد به هنا: عدم رفع الصوت بدليل قوله: "ما تقول". قال: أقول: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب"، "اللهم" يعني. يا الله، "باعد بيني وبين خطاياي" أي: اجعلها بعيدة عني، "كما باعدت بين المشرق والمغرب" وهذا أبلغ ما يكون في البُعد كما قال الله تعالى في القرآن:{حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين} [الزخرف: 38] باعد بيني وبينها حتى لا أفعلها؛ لأنها بعيدة المنال، و"الخطايا" جمع خطيئة، وهي ما خَطئ به الإنسان؛ أي: فعله عن عمد، وأما ما أخطأ به فهو ما فعله عن غير عمد.

"اللهم نقني من خطاياي كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس" هذه الخطايا المتلبس بها.

"نقني منها" أي: خلصني منها، "كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس". وخصَّ الثوب بالأبيض؛ لأن الأبيض يظهر عليه أثر الدنس أكثر مما يظهر على غيره، ولهذا تجد الإنسان في الشتاء إذا لبس ثياب الشتاء السوداء متى يغسل الثوب بعد كم؟ بعد شهر، وإذا لبس البياض في الصيف يغسله كل أسبوع؛ لأن الأبيض يؤثر فيه الوسخ أكثر من غيره، ويظهر فيه أثر الوسخ أكثر من غيره، فلهذا قال:"كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس" هذا تنقية الإنسان من الذنوب.

قال: "اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد" هذا الغَسل يزيل الأثر نهائيًّا فهنا خطايا لم يتلبس بها الإنسان، فماذا يقول؟ باعد بيني وبينها، خطايا تلبس بهذا وتلطخ بها يقول:"اللهم نقني من خطاياي" تنقى منها: تخلص، وتركها يحتاج إلى غسل يزيل أثرها بالكلية، انظر للترتيب، ترتيب طبيعي مناسب للواقع.

وقوله: "بالماء" معروف، "الثلج": تجمد الماء، "البرد": هو الثلج النازل من السحاب، كونها تُغسل بالماء ليس فيه إشكال؛ لأن الماء مزيل، لكن البَرَد والثلج أيهما أشد إزالة الماء الحار أو الثلج والبرد؟ الماء الحار، لكن القضية ليست قضية ثوب يُغسل لكنها قضية ذنوب، والذنوب في الأصل حارة وعقوبتها النار، والشيء إنما يُداوى بضده، فلذلك ذكر الثلج وذكر البرد.

هذا الحديث- كما رأيتم- حديث تستفتح به الصلاة بعد تكبيرة الإحرام، فإذا أضفناه إلى ما سبق وإلى ما يلحق تبين أن الاستفتاح له أنواع كما سيذكر- إن شاء الله- في الفوائد.

ص: 42

من فوائد هذا الحديث: مشروعية التكبير عند الدخول في الصلاة، وهذه تكبيرة الإحرام، وقد سبق أنها ركن من أركان الصلاة، وأنه لا يدخل الإنسان في صلاته إلا بها لا في الفريضة ولا في النافلة، فلو نسي أن يكبر لم تنعقد الصلاة، لا نقول: بطلت صلاته، بل لم تنعقد صلاته، والفرق بين قولنا: لم تنعقد الصلاة وقولنا: بطلت؛ أن بطلت فيما صح أولًا ثم طرأ عليه البطلان، وأما لم تنعقد فهو لم يصح ابتداءً.

ومن فوائد الحديث: مشروعية الإسرار بالاستفتاح لقوله: "سكت هنيهة".

ومن فوائده: أن السكوت يطلق على القول الذي لا يُسمع مع أنه- أي: القائل المتكلم- تكلَّم ولم يسكت.

ومنها: أن الصلاة ليس فيها سكوت بل كلها ذكر، دليل ذلك أن أبا هريرة- رضي الله عنه سأل النبي- صلى الله عليه وسلم ماذا يقول؟ ولم يقل لِمَ سكت؟ قال: ماذا تقول؟ وهو دليل على أن الصلاة ليس فيها سكوت مطلق بل لابد فيها من ذكر.

ومن فوائد هذا الحديث: تأدب الصحابة- رضي الله عنهم مع النبي؛ لأن أبا هريرة قدَّم ما يفيد الأدب في قوله: "بأبي أنت وأمي، أرأيت سكوتك".

ومن فوائد هذا الحديث: جواز فداء النبي- صلى الله عليه وسلم بالأبوين، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم أقرَّه على ذلك، فالدليل هو إقرار النبي- صلى الله عليه وسلم على ذلك، وهل يُفدى الأبوان بغير النبي- صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: نعم، إذا كان هذا الذي افتديته بالأبوين له مقام في الإسلام من علم أو مال أو ما أشبه ذلك.

ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية الاستفتاح بهذا الدعاء؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم كان يستفتح به، وهل يُقال: إنه خاصٌّ بالصلاة الجهرية، أو يقال: كما ثبت في الصلاة الجهرية ثبت في السرية؟ الثاني، لكن لما كانت الصلاة السرية لا يُجهر فيها بشيء لم يكن مستغربًا أن يسكت بين القراءة والتكبير.

إذا قال قائل: كيف نجمع بين هذا الحديث والأحاديث الأخرى التي تدل على أن النبي- صلى الله عليه وسلم يستفتح بغير ذلك؟

فالجواب: أن هذا من تنوع العبادات، وتنوع العبادات أنواعًا، منها ما يكون التنوع فيه في أذكارها، ومنها ما يكون التنوع فيه في أعدادها، ومنها ما يكون التنوع فيه بأوقاتها حسب ما يقتضيه الحال، فمثلًا صلاة العشاء كان النبي- صلى الله عليه وسلم تارة يُقدمها وتارة يؤخرها بحسب الحال، الوتر تارة يوتر بخمس، أو سبع، أو تسع، أو إحدى عشرة هذا تنوع بالعدد، التنوع بأذكارها الاستفتاح في التشهد، الذكر بعد الرفع من الركوع هذا متنوع بأذكارها.

فإذا قال قائل: ما هو الجواب عن هذا الحديث مع أحاديث أخرى تدل على الاستفتاح بغيره؟

ص: 43

فالجواب: أن هذا من باب تنوع العبادات، ثم هل يقتصر الإنسان على نوع منها أو يفعل هذا مرة وهذا مرة، أو يجمع بينها؟ نقول: الأفضل أن يفعل هذا مرة وهذا مرة، وألا يجمع بينها إذا دلَّ الدليل على هذا، وأما من تمسك بنوع منها واقتصر عليه فهذا على خير لاشك، لكن تمام التأسي بالرسول- صلى الله عليه وسلم أن يفعل هذا مرة وهذا مرة.

وفي فعل العبادات المتنوعة على وجوهها فوائد ثلاث:

الفائدة الأولى: تمام التأسي بالنبي- صلى الله عليه وسلم.

والفائدة الثانية: أحْضَر للقلب؛ لأنه لو لزم شيئًا واحدًا صار يقوله بغير حضور قلب.

الثالثة: أحفظ للسُّنة. هذه ثلاث فوائد في كون الإنسان يفعل العبادات المتنوعة التي جاءت على وجوه تارة هذه وتارة هذه، لكن ما أمكن جمعه فإنه يُجمع كأذكار الصلوات بعد التسليم هذه وردت بهذا وبهذا وبهذا، ولكن العلماء قالوا: إنه يُجمع بينها ولا يُقتصر على نوع لإمكان الجمع، والجمع بينها مع إمكانه أحوط في التأسي بالنبي- صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد ينقل عنه بعض الصحابة ما لم يسمعه الآخر، فالاحتياط أن يأتي بكل ما ورد متى أمكن الجمع.

إذا قال قائل: ألا يمكن الجمع في أدعية الاستفتاح؟

فالجواب: لا يمكن؛ لأن أبا هريرة لما سأل النبي- صلى الله عليه وسلم ما تقول؟ قال: أقول كذا، وهذا يدل على أنه لا جمع.

ومن فوائد هذا الحديث: ما دلَّ عليه هذا الاستفتاح من الأدعية العظيمة وهو:

أولًا: المباعدة بين الإنسان وبين الذنوب: "اللهمَّ باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب"، وهذا قبل الفعل.

والثاني: "اللهمَّ نقني من خطاياي كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس"، فيشرع الدعاء بهذه الجملة لأجل تنقية الإنسان من الذنوب، وهذا دون الأول.

ثالثًا: أنه ينبغي الدعاء بالجملة الأخيرة: "اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" وبذلك يعود ثوب الإنسان نظيفًا.

ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي- صلى الله عليه وسلم قد يُخطئ؛ لأنه قال: "اللهم نقني من خطاياي"، "اللهم اغسلني من خطاياي"، لو كان الدعاء مقصورًا على الجملة الأولى "اللهم باعد" لقلنا: إن هذا لا يدل على أنه يُخطئ، لكن لما جاءت "نقني" و"اغسلني" دل هذا على أنه يُخطئ، ولكن الله تعالى أجاب دعاءه فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

فلو قال قائل: إذا كان قد غُفر له ما تقدم وما تأخر فما فائدة الدعاء؟

ص: 44

فالجواب من وجهين:

الأول: أن الدعاء نفسه عبادة.

والثاني: أنه قد يكون من أسباب مغفرة ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر: أدعيته التي يكررها دائمًا- عليه الصلاة والسلام، كما أننا الآن أخبرنا الله- عز وجل أنه يصلي هو ملائكته على النبي- صلى الله عليه وسلم ومع ذلك أمرنا أن نصلي عليه، لكن مع الفرق بين هذا والذي قبل: أن صلاتنا على النبي- صلى الله عليه وسلم منفعتها لنا أكثر، فهو من مصلحتنا ومنفعتنا من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الأشياء تداوى بضدها لقوله: "بالماء والثلج والبرد" وآثار الذنوب العقوبة بالنار وهي حارة فناسب أن يكون الغَسل بالماء والثلج والبرد، وهذا هو الموافق للفطرة والطبيعة أن الأدواء تعالج بأضدادها، ولهذا قال النبي- صلى الله عليه وسلم "الحمى من قيح جهنم فأبردوها بالماء". الحمى: حمى البدن سخونة قال: "أبردوها بالماء البارد"، والماء البارد يزيلها وهذا مجرب، مع أن المريض لاشك أنه يتعب جدًّا ويتأذى به لكن يصبر؛ لأن الحمى إذا مس الإنساء ماء ساخنًا تأذى به، لكن يُقال: هذا دواء، فكما أن تشرب دواءً مرًّا وتصبر على مرارته أو دواء كريه الرائحة وتصبر، فاصبر على برودة هذا فإنه شفاء، يوجد بعض الناس بجعل المريض أمام المكيف من أجل أن يبرد، ولكن هذا قد يكون له سلبيات، إنما لو أتيت بخرقة نظيفة ووضعتها على وجه المريض أو كمادات لنفع بذلك نفعًا عظيمًا، قصدي من هذا المثال أن الأدواء تُقابل بضدها.

261 -

وعن عمر- رضي الله عنه أنه كان يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله غيرك". رواه مسلم بسند منقطع، ورواه الدارقطني موصولًا وموقوفًا.

"موصولًا وموقوفًا" يعني: عن عمر: هذا الاستفتاح كان عمر يجهر به يُعلمه الناس كما جهر ابن عباس- رضي الله عنه في قراءة الجنازة وقال: ليعلموا أنها سُنة، فكان عمر- رضي الله عنه يقرأ هذا الاستفتاح ويجهر به؛ لأنه ثناء على الله- عز وجل ثناء محض، لكن الثناء على الله متضمن للدعاء في الواقع؛ لأن المُثنى على الله ماذا يريد؟ يريد الثواب، فهو متضمن للدعاء.

قوله: "سبحانك اللهم" تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به من أوصاف العيوب أو مماثلة المخلوقين، والله- عز وجل منزه عن أمور ثلاثة:

الأول: عن كل صفة نقص كالعمى والصمم والخرس وما أشبه ذلك، هذا وكل صفة نقص فالله تعالى مُنزه عنها.

ص: 45

الثاني: كل نقص في صفاته- يعني: صفات الكمال- لا يمكن أن يلحقها نقص؛ فقوته لا يلحقُها ضعف، وقدرته لا يلحقها عجز، وعلمه لا يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان. كل صفات الكمال التي اتصف بها- جل وعلا- فإنه منزه عن نقصها، ليس فيها نقص بكل حال من الأحوال، حياته لم تسبق بعدم ولا يلحقها فناء، وهلُمَّ جرًّا.

الثالث: مماثلة المخلوقين؛ منزه عن مماثلة المخلوقين سمعًا وعقلًا، قال الله تعالى:{ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]. وقال تعالى: {هل تعلم له سميا} [مريم: 65]. وقال تعالى: {ولم يكن له كفوًا أحد} [الإخلاص: 4]. وقال تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون} [البقرة: 22]. والنصوص في هذا كثيرة.

إذن متنزه عن أمور ثلاثة، فإن قال قائل: الثالث داخل في ضمن الأول؛ لأن مماثلة المخلوق عيب. قلنا: لكن النص عليها أولى؛ حتى لا يظن الظان أن الكمال في المخلوق كالكمال في الخالق!

"سبحانك اللهم" اللهم يعني: يا الله، وسبق الكلام عليها، "وبحمدك" قيل: المعنى: وبحمدك سبحت، فيكون هذا ثناء على الله وحمدًا لله أن وفق القائل بالتسبيح. إذا قيل إن التقدير: وبحمدك سبحت، ولكن هذا قول ضعيف، والصواب أن الباء للمصاحبة، وأن الواو من باب عطف الصفات بعضها على بعض، والمعنى: ومع تسبيحي إياك أحمدك؛ فيكون في الأول نفي النقص، ويكون في الثاني إثبات الكمال، ولاشك أن هذا أعلى من الأول، المعنى: أن الإنسان إذا قال: "سبحانك اللهم وبحمدك" فقد جمع لله بين نفي ما لا يليق به وإثبات كماله- عز وجل وذلك بحمده، فالباء للمصاحبة، والواو من باب عطف الصفات مثل:{سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى} [الأعلى: 1 - 4].

"وتبارك اسمك" يعني: اسم الله- عز وجل مُبارك ما خالط شيئًا إلا نزلت فيه البركة، وهل المراد: كلمة اسم الله، أو كل اسم الله؟ الثاني؛ لأن "اسم" هنا مفرد مضاف فيعمُّ، كل أسماء الله فيها بركة، ولذلك نتوسل إلى الله تعالى بها، فنقول: يا رحمن ارحمنا، يا غفور اغفر لنا، ولولا أن فيها بركة ما صحَّ أن نتوسل إلى الله تعالى بها، هذه معنى "تبارك اسمك".

ومن بركات اسم الله- عز وجل: أنه لو سمى الإنسان على الذبيحة حلَّت ولو ترك التسمية لم تحل، ومن بركته: أن الإنسان إذا أتى أهله وقال: "باسم الله، اللهمَّ جنبني الشيطان وجَنِّب الشيطان ما رزقتنا، ثم قُدِّر بينهما ولد لم يضرَّه شيطان أبدًا". والأمثلة على ذلك كثيرة.

"وتعالى جدُّك""تعالى": تَرفَّع وعَظُمَ، وقوله:"جدك" أي: غناك؛ لأن الجد بمعنى: الغنى، وربما يكون أوسع من هذا المعنى يكون الغنى والقوة وما أشبه ذلك، ومنه قول الذاكر: "ولا

ص: 46

ينفع ذاك الجدِّ منك الجدُّ"، "وتعالى جدك، ولا إله غيرك" أي: لا معبود حق غير الله، والمعبودات من دونه باطلة. قال الله تعالى:{ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير} [الحج: 62].

من فوائد هذا الحديث: أنه يُسن الاستفتاح بهذا الذكر، دليله إن شئت فقل: فعل النبي- صلى الله عليه وسلم وإن لم تطمئن لذلك لكون الإسناد منقطعًا، فقيل: دليله فعل أمير المؤمنين عمر، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"، ونحن نُشهد الله أن عمر- رضي الله عنه منهم؛ فإذا جاءت سُنة عن أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي ولم تأتِ سُنة نبوية بخلافها كانت سُنة نبوية، يعني: ليست كفعل الرسول، لكن سُنة أمرنا النبي- صلى الله عليه وسلم باتباعها:"عليكم بسنتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"، أما إذا جاءت السُّنة النبوية بخلافها فلاشك أن الأصل مُقدَّم على الفرع، ولهذا احتَّج بعض الناس في صلاة التراويح، وقال: ثلاثًا وعشرين سُنة عمر، ماذا نقول؟ نقول: سُنة النبي- صلى الله عليه وسلم أفضل، ثم هل صح هذا عن عمر، من يقول أنه صح عن عمر؟ غاية ما هنالك حديث يزيد بن رومان أن الناس كانوا يقومون في رمضان بثلاثٍ وعشرين: وهذا على ما فيه من انقطاع لا يصح إضافته لعمر؛ لأنه مضاف إلى زمن عمر، وعمر ليس كالنبي- صلى الله عليه وسلم ما فُعل في عهده فهو حُجة، يعني: عمر قد تخفى عليه هذه السُّنة، وليس هناك وحي يُقوِّم ما اعوج مع أنه- رضي الله عنه صحَّ عنه- الموطأ- بأصح إسناد أنه أمر أُبي بن كعب، وتميم الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وهذا لاشك أصلب بكثير من حديث يزيد بن رومان؛ لأن من البعيد جدًّا جدًّا جدًّا أن يُخالف عمر هَدْي النبي- صلى الله عليه وسلم.

على كل حال نعود للحديث: نقول: هذا إن صحَّ عن النبي- صلى الله عليه وسلم أنه استفتح بهذا الدعاء، وإن لم يصح فهو سُنة عمر- رضي الله عنه وعمر له سُنة متبعة.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للقدوة والأسوة في عباد الله أن يجهر بما يخفى على الناس؛ لأن عمر كان يجهر به كما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة وقال: "ليعلموا أنها سنة"، وهل من ذلك ما جاء عن أبي قتادة أن النبي- صلى الله عليه وسلم كان يسمعهم في صلاة الظهر أو العصر القراءة أحيانًا؟ نعم، قد يقال: هذا منه حتى يعرفوا أنه يقرأ سورة مع الفاتحة، وقد يقال: ليس منه، لكن النبي- صلى الله عليه وسلم يريد أن يوقظهم بعض الشيء؛ لأن الإمام إذا أراد الصلاة السرية قد يسهى المصلون، فإذا رفع صوته أحيانًا صار هذا كالتنبيه.

ص: 47