الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذن قوله: "مئنة من فقه" أي: من فهمه في دين الله، بل ومن فهمه لأحوال الناس أيضًا، فكلمة "فقه" هنا ينبغي أن نجعلها شاملة لفقه الشرع، ولفقه أحوال الناس، وذلك لأن الإنسان في فرائضه يناجي ربه، فكلما طالت هذه المناجاة فلا شك أنه أفضل، وأمّا في الخطبة فهو يعظ الناس ويرشدهم وكلما قصر كان أكمل وأنفع، ولهذا يُقال:"خير الكلام ما قل ودل ولم يطل فيُمل" وهذا هو الواقع، واعتبر ذلك في رجل قام يتكلم فهو من أشد الناس تأثيرًا إذا أطال الكلام ملّ الناس وسئموا ثم إن آخر الكلام ينسي أوله، لكن إذا كان قصيرًا وجامعًا وواضحًا بيّنا جعل الله تعالى فيه خيرًا كثيرًا فالمدار على النفع إذن الحكمة في أن هذا من الفقه حكمة دلالة؛ لأنه في صلاته يُناجي عز وجل والبقاء في مناجاة الله لا شك خير كثير، وأمّا في الخطبة فإنّما يُناجي الناس، ويريد أن يدلهم ويرشدهم، وهذا يقتصر فيه على ما كان أنفع، وكلما قل الكلام ودل فإنه أفضل وأنفع.
وفي هذا الحديث من الفوائد: أن الناس يختلفون في الفقه.
وفيه أيضًا: أنه ينبغي مراعاة أحوال الناس؛ لأن قصر الخطبة لا شك أنه مراعاة لأحوال الناس فإذا راعيتها كان في هذا خير كثير.
وهل يستفاد منه: أن الخطب خاصة بالرجال، أو يقال: إن الجمعة فقط هي الخاصة بهم؟ الظاهر أن المراد: الجمعة، وإلا قد تقوم المرأة خطيبة للنساء في مصلحة من المصالح، ولا حرج في هذا، فإن قال قائل: كيف تجمع بين هذا الحديث والذي بعده، وهو حديث:
قراءة سورة (ق) في الخطبة:
430 -
وعن أمَّ هشام بنت حارثة رضي الله عنها قالت: "ما أخذت: {ق والقرآن المجيد}، إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلميقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس". رواه مسلم.
هذا يدل على أن الرسول يطيل؛ لأن {ق والقرآن المجيد} تقول أيضًا: "إذا خطب الناس" فمعنى ذلك: أنه لا يقتصر على هذه السورة وحدها، بل يكون هناك خطبة مع هذه السورة، وهذا يعتبر طولًا، فالجواب على ذلك: أن نجعل مثل هذا هو الميزان لقصر الخطبة؛ لأن بعض الناس يُطيل الخطبة إلى ساعة، أو ساعة وربع، وما أشبه ذلك، وهذا أطول من سورة (ق) فيُقال: إن الأمر نسبي كما قلنا في مسألة الصلاة: إنه ينبغي للإنسان التخفيف مع الإتمام، وقلنا: كيف يمكن أن نقول بذلك والرسول صلى الله عليه وسلم ربما يقرأ بسور طوال؟ فقلنا: إن التخفيف ميزانه فعل الرسول- عليه الصلاة والسلام وكذلك هنا، فما شابه هذه الخطبة فإنها تعتبر خفيفة، ولكن
مع ذلك قد يكون هناك أحوال توجب للخطيب أن يقصر الخطبة عن هذا، وربما تأتي أحوال نادرة تحتاج إلى توضيح أكثر بأن يكون الأمر ضروريًّا أن يبين في هذه الخطبة لا في خطب أخرى مقبلة فيزيد، فالمهم: أن الأفضل أن تكون خطبة الرجل كخطبة النبي صلى الله عليه وسلم.
نرجع إلى قولها: "ما أخذت {ق والقرآن والمجيد} إلا عن لسان الرسول"، قولها: ق والقرآن المجيد" (ق) هذا حرف هجائي، وقد افتتح الله بها هذه السورة كما افتتح بحروف الهجاء عدة سور من القرآن، وسبق لنا في التفسير أن العلماء اختلفوا في هذه الحروف، هل لها معنى أو ليس لها معنى، وبيَّنا أن الصواب أنه ليس لها معنى لكن لها مغزى، وهذا قول مجاهد رحمه الله إمام المفسرين التابعين، وإنما التزمنا بذلك؛ لأن الله تعالى أنزل القرآن بلسان عربي مبين، ومثل هذه الحروف لا معنى لها في اللغة العربية، فإذن لمقتضى كون القرآن بلسان عربي مبين نجزم بأنه لا معنى لها، ولسنا بذلك مغامرين أو قائلين بلا علم لأنه قد يقول قائل: فما أدراكم فلعل لها معنى الله أعلم به فلماذا تجزمون؟ نقول: نجزم بمقتضى إخبار الله عز وجل عن هذا القرآن بأنه بلسان عربي مبين، وهذه في اللسان العربي المبين ليس لها معنى، لكن كما قال شيخ الإسلام وغيره:(لها مغزى).
وقولها: "والقرآن المجيد" هذه الواو حرف قسم وجر، والقرآن مقسم به، قد وصفه الله تعالى هنا بالمجيد، والمجد هو: العظمة؛ ولهذا لما قال المصلي: {مالك يوم الدين} . ماذا قال الله تعالى في جوابه؟ قال: "مجدتني عبدي"، وتقول العرب:"في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار". استمجد يعني: صار أقوى وأعظم؛ ولهذا يستعملون هذين النوعين من الشجر في القدح فيما سبق، أمّا الآن فالحمد لله قد تغير الحال وتيسر الأمر، والشاهد هنا أن الله وصف القرآن بأنه "مجيد" أي: ذو عظمة، وكل وصف للقرآن من المجد والعظمة والكرم كله يكون أيضًا لمن أخذ بالقرآن، فمن أراد العظمة فعليه بالقرآن، ومن أراد الكرم في قوله وماله وجاهه فعليه بالقرآن، فالقرآن الكريم مدرٌّ لكل خير لمن تمسك به، وهو أيضًا مجيد ذو عظمة يرفع من تمسك به، إذن هذا الكلام على الآية، وإن كان هذا موضع تفسير، لكن لا بأس أن تفسر بعض الشيء، تقول:"ما أخذتها إلا على لسان رسول الله يخطب بها".
يُستفاد من هذا الحديث: أولًا: أن النساء يحضرون الجمعة، ولنقف هل دل الحديث على هذا أو لا؟ ما يتعين، لماذا؟ لأنها قد تسمع بدون أن تحضر، إذن ما دام فيه احتمال فإنه يسقط له الاستدلال، فلا يمكن أن نستدل بهذا الحديث على أن النساء يحضرن الجمعة، لأنّها قد تسمعها من الخارج كما يوجد عندنا الآن، لكن في زمن مضى كان يخصص للنساء حجرة عند المنبر يسمعن الخطبة.
ويستفاد من هذا الحديث: مشروعية الخطبة بهذه السورة، يؤخذ من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن هذه السورة سورة عظيمة فيها مبدأ الخلق، ومنتهى الخلق، ومبدأ الحياة، ومنتهى الحياة، وفيها أيضًا أخبار وقصص، وفيها تحدث عن اليوم الآخر، ولو لم يكن فيها من المواعظ إلا وقوله تعالى:{لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق: 22]. هذا متى يقال؟ يوم القيامة إذا انكشف الغطاء وتبين كل شيء فحينئذٍ يخاطب خطاب تقرير وتوبيخ.
"لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاء" الآن "فبصرك اليوم حديد" قوي بعدما كنت قد غطى عليك، {على بصره غشاوة} [الجاثية: 23]. وهذا كقوله تعالى في سورة المؤمنون: {بل قلوبهم في غمرة} [المؤمنون: 63]. يعني: من الآخرة قلوبهم في غمرة مغمورة ما يضيئها شيء، لكن لهم أعمال من دون ذلك، انظر أتت "من" و"دون" لدنو مرتبة هذه الأعمال عن الأعمال الآخرة، وهذه الأعمال التي دون أعمال الآخرة {هم لها عاملون} هذه الجملة فيها حصر، وفيها جملة اسمية للدلالة على الثبوت والاستمرار وتكثيف الجهود لهذه الأعمال، ولكن أعمال الآخرة قلوبهم في غمرة منها- نسأل الله السلامة-، وأعمال الدنيا هم لها عاملون كأنما خُلقوا لها، وفي يوم القيامة {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق: 22].
المهم: أن هذه السورة في الحقيقة إذا تأملها الإنسان وجد فيها من المواعظ شيئًا عظيمًا؛ ولهذا كان النبي- عليه الصلاة والسلام في أيام الأعياد يقرأ بها في العيد وهي وسورة القمر: {اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر: 1]. وفي سورة القمر أيضًا مواعظ عظيمة.
ومن فوائد الحديث: قولها: "كل جمعة يقرؤها على المنبر إذا خطب الناس" هذا عندي فيه إشكال، ما هو الإشكال، ذلك أنها تقول:"كل جمعة" كأنها تتبع خطب النبي- عليه الصلاة والسلام لا على أنه يقرأ هذه السورة كل جمعة، فهذه تحتاج إلى مراجعة هل إن هذا على عمومها أو أن المراد: في الغالب.
حكم الكلام في أثناء الجمعة:
431 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، والذي يقول له: أنصت، ليست له جمعة". رواه أحمدُ بإسناد لا بأس به.
قوله- عليه الصلاة والسلام: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب" جملة: "والإمام يخطب" جملة حالية من فاعل "تكلم"، يعني: والحال أن الإمام يخطب، وقوله:"والإمام يخطب" جواب
من تكلم، "فهو كمثل الحمار"، واقترنت الفاء بالجواب، لأن الجملة اسمية، وقوله:"كمثل الحمار" يُحتمل أن تكون بمعنى صفة، ويُحتمل أن تكون بمعنى: شبهًا كشبه الحمار، أو كصفة الحمار، فـ"مثل" تأتي بمعنى صفة كقوله تعالى:{مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير أسن} [محمد: 15].وتأتي بمعنى شبه، كقوله تعالى:{مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا} [البقرة]. أي: شبههم كشبه هذا فقوله هنا: "كمثل الحمار" يحتمل أن يكون كشبهه ويحتمل أن يكون كصفته، والمعنى واحد، لكنه يختلف المعنى في الآيتين اللتين ذكرناهما.
وقوله: "كمثل الحمار يحمل أسفارًا" كلمة "يحمل" الجملة هنا هل صفة أو حال؟ قد يقول قائل: إنها حال، لأن الذي قبلها معرفة، ولكنهم قالوا: إنها في مثل هذا صفة؛ لأن "أل" هنا للجنس فهو بمعنى النكرة، أي: كمثل حمار يحمل أسفارًا، ومثل ذلك قول الشاعر:[الكامل]
ولقد أمرُّ على اللّئيم يسبني
…
فمضيت نمَّت قلت لا يعنيني
فجملة "يسبني" صفة؛ لأن المعنى: ولقد أمر على لئيم، وليس المعنى: أمرُّ على اللئيم المعروف، فلما كانت "أل" هنا للجنس صار مدخولها بمنزلة النكرة.
وقوله: "كمثل الحمار يحمل أسفارًا" الأسفار جمع سفر، أو سفر وهو الكتاب، والحمار الذي يحمل أسفارًا لا يستفيد منها، هو حامل ما يفيد لكنه لا يستفيد، واختار النبي- عليه الصلاة والسلام الحمار كما اختاره ربه- سبحانه وتعالى في صفة الذين حُمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار؛ لأن الحمار من أبلد الحيوانات، ولهذا يُضرب به المثل في البلادة.
وقوله: "كمثل الحمار يحمل أسفارًا" أين وجه المشابهة؟ قد تقدم لنا في علم البيان: أن التشبيه لا بد له من مشبّه، ومشبه به، وأداة تشبيه، ووجه الشبه، وقد تحقق في هذه الجملة "كمثل الحمار يحمل أسفارًا" كل أطراف التشبيه إلا وجه الشبه؛ لأنه قد ذكر المشبه والمشبه به والأداة، "كمثل الحمار" ولكن وجه الشبه محذوف والتقدير: في عدم الانتفاع بالخطبة التي الآن تقرأ فوقه- يعني: فوق رأسه وهو حاضر لكنه لا ينتفع بها- كما لا ينتفع الحمار بالأسفار.
قال: "والذي يقول له: أنصت، ليست له جمعة""الذي" هذه مبتدأ والواو للاستئناف، و"الذي" اسم موصول، وجملة "يقول" صلة الموصول، و"ليست له جمعة" خبر الذي، "الذي يقول له أنصت" ليست بمعنى: اسكت، "أنصت" يعني: أصغ إلى كلام الخطيب؛ لأن عندنا سكوتًا واستماعًا
وإنصاتًا أعلاها الإنصات {وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} . ففرق الله بين الاستماع والإنصات، ومعلوم أيضًا أن هناك فرقًا بين الاستماع والسكوت، قد يسكت الإنسان ولا يستمع للكلام، لكن الذي يقول "أنصت" يعني: أصغ إلى الإمام، وتلقَّ ما يقول ليست له جمعة.
قوله: "ليست له جمعة" تقدم لنا في النفي أن النفي يحمل أولًا على نفي الوجود، فإن لم يمكن فعلى نفي الصحة، فإن لم يمكن فعلى نفي الكمال، هنا الآن نسلط هذه القاعدة على هذا النفي، "ليست له جمعة" أي: لا يوجد له جمعة هل يصح؟ لا، لماذا؟ لأنه قد حضر وسيصلي، لا يصح له الجمعة؟ الجواب: فيه احتمال لكنه تصح خطبته، وأظن المسألة إجماعية في أنها تصح، إذن لا بد أن تحمل على شيء آخر وهو: لا تكمل له جمعة فلا ينال ثوابها؛ لأن الخلل هنا ليس في نفس الصلاة حتى نقول: إنه نفي للصحة هذا شيء خارج الصلاة لكنه نفي للكمال، لأن صلاة الجمعة- كما تعلمون- تشمل خطبة قبلها، وتشمل أيضًا نفس الصلاة التي تكون الخطبة من مقدماتها {يا أيها الذين أمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9]. فليس النهي عائدًا إلى ذات العبادة، وعليه فنقول: إن النفي هنا نفي للكمال.
قال المؤلف: "رواه أحمد بإسناد لا بأس به"، كلمة "لا بأس به" يعني: قليلة ما تمر علينا، لأننا عرفنا الصحيح، والحسن، والضعيف، لكن هذا ما قال: لا حسن، ولا ضعيف، ولا صحيح، قال: بإسناد لا بأس به، فهل مثل هذا التعبير أقرب إلى التصحيح، أو أنه أقرب إلى التضعيف؟ هو للتضعيف أقرب، لكنه يقول: لا بأس به، لأنه معضود بالحديث الذي يعده، يقول:
- وهو يُفسِّر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين مرفوعًا: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب، فقد لغوت".
إذن معنى "لغوت": بطلت جمعتك، أي: بطل ثوابها؛ لأن الشيء الملغي هو الذي لا يُعتد به ولا يعتبر، ولكن المراد باللغو هنا: أنه لا ثواب له، لا يثاب ثواب الجمعة، وثواب الجمعة أفضل من غيرها بكثير، لكن يحرم هذا الثواب بسبب هذا العمل؛ لأنه قال: أنصت.
يُستفاد من هذا الحديث: التحذير من الكلام والإمام يخطب يوم الجمعة، من أين يؤخذ؟ من تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم المتكلم بالحمار الذي يحمل أسفارًا، ولا ريب أن هذا التشبيه يقصد به التقبيح والتنفير، وبالمناسبة قال بعض العلماء: إن الرجل إذا عاد في هبته فعوده في الهبة جائز؛ لأن النبي- عليه الصلاة والسلام "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه"، قالوا: والكلب
لا تكليف عليه، فإذا كان لا تكليف عليه فمعنى ذلك أنه يجوز أن يعود في الهبة! ذكرته من أجل أن تعرفوا كيف يتصور بعض العلماء هذا التصور مع أن كل أحد- حتى العامي في السوق- يعرف أن الغرض من هذا: التنفير والتقبيح، وليس في بعض الألفاظ "ليس لنا مثل السوء". العائد في هبته كالكلب.
هل تقول قوله تعالى: {فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} [الأعراف: 176]. إن هذا على سبيل الإباحة؟ لا أحد يقول بهذا، هذا أيضًا لو ادعى مدعٍ في هذا الحديث مثل ما ادعى في حديث الهبة، وقال: الحمار ليس عليه تكليف لو حمل الحمار أسفارًا وهو لا يفهمها ليس عليه شيء، يأثم الحمار أم لا يأثم؟ لا يأثم هل أحد يمكن أن يقول في هذا الحديث هذا؟ لا أظن أحدًا يقوله، فإذا كان هذا لا يمكن فكذلك قوله تعالى:{فمثله كمثل الكلب} لا يمكن، فكذلك في حديث الهبة ولا فرق.
يُستفاد من هذا الحديث: جواز تشبيه الإنسان بالحيوان على سبيل التنفير والتحذير؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام شبهه به، ولكن هل نقول ذلك في كل مناسبة مثل لو فرضنا أننا نعلم تلاميذ ولكن ما فهموا، هل يصح أن نقول لهم ذلك؟ لا، بعض المدرسين أبلغني أنه يقول لبعض التلاميذ هكذا: أنتم كمثل الحمير تحمل أسفارًا هذا لا يجوز، لأنها إنما قليت فيمن لا ينتفع بها- بطاعة الله عز وجل لا في صبي يتعلم، ولكن ما فهم من أول مرة فهي تقال في محلها.
ويستفاد من هذا الحديث: حسن تشبيه الرسول- عليه الصلاة والسلام؛ لأن الربط بين هذا والحمار في وجه الشبه ظاهر المناسبة.
ويُستفاد من الحديث أيضًا: تحريم إسكات هذا الرجل بالقول، من أين يؤخذ؟ من كونه حرم الأجر؛ لأن الدلالة على التحريم تارة تكون بإثبات الوزر على الفاعل، وتارة تكون بحرمانه الأجر، وهل هناك مثال لتحريم الشيء من أجل حرمان الأجر؟ ذكرناه سابقًا وهو اقتناء الكلب كالماشية ينقص به كل يوم من أجره قيراط أو قيراطان، هذا يدل على تحريم اقتناء الكلب؛ لأن فوات الأجر كحصول الإثم، فإذا كان هذا الفعل يهدم أجر الإنسان ويزيله فهو كالذي يوجب له العقوبة، فهنا لما قال:"ليست له جمعة" علمنا بأن قول الإيمان لصاحبه: "أنصت" حرام.
لو أشار إليه إشارة هل يدخل في الوعيد؟ لا؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام يقول: "والذي يقول له: أنصت"، والقول إذا أطلق فالمراد به اللفظ باللسان، فالكلام بالإشارة لا يدخل في الوعيد.
يستفاد من هذا الحديث: أنه لا يجوز الكلام حال الخطبة ولو بتغيير المنكر، من أين يؤخذ؟ من قوله:"والذي يقول له: أنصت"؛ لأن المتكلم الأول فاعل محرمًا، والقول له: أنصت هذا نهي عن منكر ومع ذلك جعله النبي- عليه الصلاة والسلام محرمًا.
مسألة: هل يُستفاد من الحديث تحريم رد السلام إذا سلم عليك أحد؟ نعم، يستفاد منه؛ لأنه إذا كان لا يجوز تسكيت هذا الرجل المتكلم فمن باب أولى ألا تجيب المُسلِّم؛ لأن الأصل أنه لا يجوز أن يُسلِّم في هذه الحال، ولكن هل تمد يدك إليه مصافحة لا سلامًا؟ نعم، إن لم تنشرح له، ولكن في هذه الحال أيضًا ينبغي أن تنتبه إذا انتهى الإمام من الخطبة بأن هذا حرام لا يجوز أن تسلم في تلك الحال، ومثل ذلك أيضًا تشميت العاطس، فلو أن أحد عطس وحمد الله ما تشمته.
ومن ذلك أيضًا إذا ذكر النبي- عليه الصلاة والسلام في أثناء الخطبة هل تصلي عليه أو لا؟ نعن، الفقهاء يقولون: تُصلي إذا ذكر؛ لأن هذا الشيء يتعلق بالخطبة، ولا يتعلق بأمر خارج فهو قد يكون من أسباب اتجاه الإنسان إلى الخطبة أن يتابع الإنسان الخطيب، وإذا دعا أمّن، وإذا مر بذكر الرسول- عليه الصلاة والسلام صلّى عليه، لكن بشرط ألا يكون مشغلًا لغيره وألا ينصرف به أيضًا هو عن الاستماع فإن كان مشغلًا لغيره أو مشتغلًا به عن الاستماع فإنه لا يجوز.
ويُستفاد من الحديث: جواز الكلام بين الخطبتين؛ لأنه قيد ذلك بقوله: "والإمام يخطب"، فدل هذا على جواز الكلام بين الخطبتين.
ويُستفاد منه: أنه لا يجوز الكلام ما دام الإمام يخطب، ولو كان قد انتهى من أركان الخطبة من أين تؤخذ؟ من قوله":"والإمام يخطب"، فأما قول بعض أهل العلم إن الإمام إذا شرع في الدعاء أو انتهى من أركان الخطبة جاز لك أن تتكلم فهذا ليس بصحيح، حجتهم في ذلك أنهم يقولون: إن الواجب من الخطبة الأركان وما زاد فليس بواجب، وما ليس بواجب فالاستماع إليه ليس بواجب، ولكن هذا قياس في مقابلة النص؛ لأن النص- كما ترون- شامل للخطبة كلها، فلا يجوز للإنسان أن يتكلم حتى ولو شرع الإمام في الدعاء، حتى لو شرع في قراءة آية أخرى؛ لأن الركن تم بقراءة الآية الأولى مثلًا: فالصواب أنه لا يجوز ما دام الإمام يخطب، وأما إذا سكت فلا حرج.
ويستفاد من هذا الحديث: أن خطبة غير الجمعة لا يحرم فيها لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب"، فلو فرض أن خطيبًا قام يخطب الناس في غير الجمعة بعد إحدى الصلوات الخمس، أو في أي مناسبة فهل يجب الاستماع له؟ لا