الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لئلا يجادل مجادل فيقول: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن" أي: لا صلاة كاملة كما ذهب إليه بعض الناس، وسيأتي ذكرها في الفوائد.
قال: وفي أخرى لأحمد وأبي داود والترمذي، وابن حبان:"لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ " هذه بمعنى: كأنكم، وهي مشربة معنى الاستفهام "تقرءون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم" أي: نقرأ. قال: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا حين انصرف من صلاة الفجر، وكان الصحابة يقروءن مع النبي صلى الله عليه وسلم الفاتحة وغير الفاتحة، فقال لهم: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". فحكم وعلل؛ فحكم بالنهي عن القراءة خلف الإمام واستثنى الفاتحة، ثم علّل بأنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها.
هذه الروايات فيها فوائد:
أولًا: فضيلة الفاتحة وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن جميع الصلوات لا تصح إلا بها.
الوجه الثاني: أنها هي المصحّحة للصلوات.
ومن الفوائد: أن من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصلاته باطلة، تؤخذ من النفي، ومن لفظ ابن حبان والدارقطني:"لا تجزئ".
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا فرق بين الإمام والمنفرد والمأموم، وجهه: العموم بدون استثناء، وأما ما ورد من أن "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"، فهذا حديث مرسل لا يصح لا سندًا ولا حكمًا.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا فرق بين كون الصلاة جهرية أو سرية، وهذه مسألة اختلف فيها العلماء على أربعة أقوال:
الأول: قول من يقول: إن من كان له إمام لم تجب عليه الفاتحة فإنها سنة في حقه، وعلى هذا القول لو أن الإنسان كان مأمومًا ودخل مع الإمام في أول الصلاة وكبر واستفتح، ثم قرأ سورة المزمل ومشى مع الإمام تصح صلاته أو لا؟ تصح؛ لأن قراءة الفاتحة عند هذا سنة وليس بواجب، ولا يخفى ما في هذا القول من البعد.
القول الثاني: أنها تجب على المأموم في السرية والجهرية، واستدل هؤلاء بالعموم "لا صلاة لمن
…
" و"من" اسم موصول تفيد العموم؛ أي: لا صلاة لمن لم يقرأ سواء كان مأمومًا أو منفردًا أو إمامًا، وسواء كانت الصلاة سرية أم جهرية، واستدل هؤلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إلا
من سمع قراءة إمامه فلا بأس، وقالوا: إن حديث عبادة بن الصامت في صلاة الفجر نصّ في موضع النزاع فلا عدول لنا عنه، وعلى هذا القول لا تسقط عن المأموم لو نسيها، فإذا نسي أن يقرأ في إحدى الركعات؛ قلنا: قد فاتت ركعة، ائت بركعة بدلها، إلا أنها تسقط عن المسبوق إذا جاء والإمام راكع فإنه يركع بدون فاتحة، دليل ذلك حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فدخل في صلاته ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الركعة.
والقول الثالث: أنها واجبة على الإمام، وعلى المأموم ليست واجبة، واستدلوا بقول الله تعالى:{وإذا قرئ القرءان فاستمعوا له، وأنصتوا لعلكم ترحمون (204)} [الأعراف: 204]. وقالوا: هذا عام، والمأموم تبع لإمامه، واستدلوا أيضًا بمعنى معقول وهو أنه كيف نلزم المأموم بقراءة الفاتحة في الجهرية وقد استمعها وأمن عليها، والمستمع المؤمن كالفاعل بدليل قول الله تبارك وتعالى في قصة موسى وهارون، قال موسى:{ربنا إنك ءاتيت فرعون وملأه زينة وأمولًا في الحيوة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أمولهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم (88)} [يونس: 88] فقال الله تعالى: {قد أجيبت دعوتكما} [يونس: 89]. ومعلوم أن الداعي موسى بنص القرآن، ولكن هارون كان يؤمن، فجعل الله تعالى دعوة موسى دعوة لهارون، فدل ذلك على أن قراءة الإمام في الجهرية التي يسمعها المأموم ويؤمن عليها أنها قراءة له، فاستدلوا إذن بالنص والمعنى، وقالوا: إذا لم نقل: إن قراءة الإمام قراءة للمأموم في الجهرية فما فائدة الجهر حينئذ، وما الفائدة من كون الإمام يقرأ والمأموم يقرأ؟ وهذا القول كما ترى قول قوي جدًا أثرًا ونظرًا.
والقول الرابع: أن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمأموم والمنفرد، واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وبقوله "لعلكم تقرءون خلف إمامكم". قالوا: نعم. قال: "لا تفعلوا إلا بأم الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، وهذا قاله صلى الله عليه وسلم حين انفتل من صلاة الفجر وهو نصٌّ في موضع النزاع، وأجابوا عما استدل به القائلون بالتفصيل بين السرية والجهرية بأن قوله تعالى:{وإذا قرئ القرءان فاستمعوا له، وأنصتوا} [الأعراف: 204] عام مخصص بالأدلة الدالة على وجوب قراءة الفاتحة، فيكون المعنى: إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا إلا في الفاتحة فلابد منها، واستدلوا على المعنى المعقول والقياس بأنه لا فائدة من جهر الإمام بالقراءة إذا كان لا يغني عن قراءة المأموم، بأن هذا قياس في مقابلة النص فلا يعتبر، وحقيقته: أننا نشهد الله عز وجل أنه لولا حديث عبادة بن الصامت لكان القول الواضح الجلي أن المأموم إذا سمع قراءة إمامه فلا قراءة عليه؛ لأنه يسمعها ويؤمن عليها فهي كقراءته بنفسه، لكن ماذا نقول وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد انفتل من صلاة الفجر:"لا تفعلوا إلا بأم القرآن"؟ على هذا
القول يقولون: إنها تسقط عن المأموم إذا كان مسبوقًا ولا يعيد قراءة الفاتحة، واستدل هؤلاء بحديث أبي بكرة رضي الله عنه حين دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكع، فركع قبل أن يدخل في الصف، ثم دخل في الصف، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم:"من فعل هذا؟ " قال: أنا. قال: "زادك الله حرصًا ولا تعد"، ولم يأمره بقضاء الركعة التي لم يدرك منها إلا الركوع وما بعده، ولو كان لم يدركها لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بقضائها كما أمر الذي لا يطمئن في صلاته أن يعيد الصلاة، وهذا واضح.
فيستثنى من ذلك على هذا القول: المسبوق إذا أدرك بعض الفاتحة ثم ركع الإمام هل نقول: إنه يكملها ثم يتابع ولو رفع الإمام من الركوع؟ الجواب: لا، إن تمكن من إدراكها قبل أن يرفع فعل، وإن لم يتمكن فإنه يركع؛ لأنه الآن مسبوق وهو يريد أن يدرك الركوع، ولو أكمل الفاتحة لفاته الركوع.
هناك قول خامس أشد من هذه الأقوال يقول: إن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمأموم والمنفرد والمسبوق والذي أدرك الصلاة من أولها، وإلى هذا ذهب بعض المتأخرين ومنهم الشوكاني في "شرح المنتقى" وقال:"لا تصح"، وأجاب عن حديث أبي بكرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"ولا تعد" ولكن هذه الإجابة ساقطة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاتعد" وكلمة "لا تعد" ننظر هل المعنى: لا تعد إلى السرعة لإدراك الركعة، أو المعنى: لا تعد إلى الركوع قبل أن تدخل في الصف، أو المعنى: إلى الاعتداد بالركوع إذا لم تدرك الفاتحة؟ كل هذا محتمل، نقول: أما الأول: لا تعد إلى الإسراع فهذا صحيح، والثاني: لا تركع قبل الدخول في الصف فذلك صحيح، الثالث: فيه احتمال، ولكن يبعده أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإلغاء هذه الركعة، ولو كان هذا العمل مردودًا -أي: عدم قراءة الفاتحة في حال السبق- لبينه له النبي صلى الله عليه وسلم كما بين ذلك لمن صلّى وهو لا يطمئن.
إذن الصواب في هذه المسألة: أن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمأموم والمنفرد في السرية والجهرية إلا المسبوق، وكما قلت لكم: إنه لولا حديث عبادة بن الصامت لكان القول المتعين هو التفريق بين السرية والجهرية وأن الإنسان إذا سمع قراءة إمامه الفاتحة سقطت عنه؛ لأنه استمعها وأمن عليها، ولكن لا نستطيع أن نتجاسر على هذا القول، وحديث عبادة نصّ في الموضوع على أن القول بالتفصيل هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله، والقول بالوجوب مطلقًا هو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله فقد ذهب إلى أنها واجبة على المأموم مطلقًا بكل حال، ولولا النص لقلنا بالتفصيل كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
* * *