الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأنه يبرز ويخرج، ولهذا قال علماء اللغة: إن السفر: "مفارقة محل الإقامة" وسماه الله عز وجل في القرآن الكريم سفرًا، وسمَّاه ضربًا في الأرض، فقال تعالى:{وإن كنتم مرضى أو على سفرٍ أو جاء أحدٌ منكم من الغآئط} [النساء: 43]. وقال: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفرٍ} [البقرة: 184]. وسمَّاه ضربًا في الأرض كما في قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض
…
} الآية [النساء: 101]. وقال تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض
…
} [المزمل: 20]. المهم من هو المسافر؟ من فارق محل إقامته، أمَّا من نوى أن يفارق ولم يخرج فليس بمسافر لا يكون إلا إذا ضرب وخرج.
وقوله: "والمريض" المريض ضد الصحيح، والمراد هنا: مريض البدن، والمرض -كما سبق- مرضان: مرض القلب، نسأل اله العافية، ومرض البدن.
قصر الصلاة في السفر وحكمه:
407 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أوَّل ما فرضت الصَّلاة ركعتين، فأقرَّت صلاة السَّفر وأتمَّت صلاة الحضر". متَّفق عليه.
قولها: "أول ما فرضت الصلاة""أول" مبتدأ، ومقتضى الجملة أن يكون الخبر قولها:"ركعتان"، ولكن الخبر محذوف تقديره "أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين"، فالخبر إذن محذوف، و"ركعتين" حال من نائب الفاعل من قولها:"فرضت"، قولها:"فرضت" الفرض في اللغة: "القطع" وأمَّا في الشرع فإنه: ما أم به على سبيل الإلزام، فخرج بقولنا:"ما أمر" المباح والمكروه والحرام، ودخل المستحب، فلمَّا قلنا:"على سبيل الإلزام" خرج المستحب، إذن على هذا التعريف الفرض والواجب بمعنى واحد وهذا هو الصحيح، وهو مذهب الإمام أحمد، وقال بعض العلماء: بل بينهما فرق، فالفرض: ما كانت الأدلة فيه قطعية في الثبوت وفي الدلالةفهذا فرضٌ، وما كانت الأدلة فيه ظنية فهو واجب، والصواب ظانه لا فرق بينهما، لأن الكل يأثم بتركه ويؤجر لفعله.
وقولها: "الصلاة" المراد بها الفريضة وهي خمسن وقولها: "ركعتين" إلى متى؟ إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم يعني: ثلاث سنوات أو سنة حسب اختلاف أهل العلم في النعراج بقى المسلمون يصلون ركعتين ركعتين غلا المغرب، فلما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام زيد في صلاة الحضر، "فأقرت صلاة السفر" يعني: بقيت ركعتين، وهنا يشكل الأمر؛ لأن منَّا من يسمي صلاة السفر قصرًا وهي الآن على مقتضى هذا الحديث ليست بقصر، وإنَّما صلاة الحضر زيادة، فنقول: تسميتها قصرًا أمر نسبي ليس على سبيل الحقيقة، وإلا الحقيقة: أنها لم تقصر بل بقيت
على الفريضة الأولى، لكن بالنسبة إلى صلاة الحضر التي زيد فيا إلى الأربع صارت قصرًا، والله عز وجل يقول:{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصَّلاة} [النساء: 101].
وقولها: "أقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر" في بعض الألفاظ: "وزيد في صلاة الحضر" وهو أوضح من قولها: "وأتمَّت"، لكن قولها:"وأتمت" أيضًا على سبيل الأمر النسبي، "أتمت" باعتبار أن صلاة السفر ركعتان.
في هذا الحديث تذكر عائشة رضي الله عنها أن الصلاة لها مرحلتان:
المرحلة الأولى: تساوي صلاة الحضر والسفر بأن كانت الصلاة كلها ركعتين ركعتين.
والمرحللة الثانية: الزيادة في صلاة الحضر، وبقاء صلاة السفر على الفرض الأول.
يستفاد من هذا الحديث، أولًا: مشروعية القصر في السفر، وقد تدل عليه قوله تعالى:{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصَّلاة} . وهذه المشروعية هل هي على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب المؤكد الذي يكره تركه أو على سبيل الاستحباب الذي لا يكره تركه؟ في هذا خلافٌ بين أهل العلم؛ فقد ذهبت جماعة منهم أهل الظاهر وأبو حنيفة إلى أن هذه المشروعية مشروعية وجوبن وأن المسافر يجب عليه القصر، واستدلوا بهذا الحديث قالوا: لأن حديث عائشة واضح في أن صلاة السفر بقيت على الفريضة الأولى، فكما أنك لا تصلي في الحضر خمسًا فلا تصلي في السفر أربعًا يعني: كل فريضة.
استدلوا أيضًا بأن الصحابة رضي الله عنهم أنكروا على عثمان إتمامه الصلاة في منّى، فإن عثمان رضيالله عنه بقى في خلافته ست أو ثمان سنوات يقصر الصلاة، ثم بعد أتم، وخلافته كانت اثنتي عشرة سنة، ولكن الصحابة أنكوا عليه ذلك واعتذروا له، حتى إن ابن مسعود قال لما بلِّغ بهذا الأمر:"إن لله وإنَّا إليه راجعون" فجعل هذا من المصائب التي يسترجع منها.
واستدلوا أيضًا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أسفاره ما أتم ولو يومًا واحدًا، بل كل أسفاه كان يقصر الصلاة، ولولا أن هذا على سبيل الوجوب ما حافظ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم لكان يفعل سواه يومًا من الأيام ليبيِّن للناس أنه ليس بواجب، أو يقول للناس: إنه ليس بواجب.
أما الذين قالوا: إنه مشروع على سبيل التأكيد بحيث يكره تركه فاستدلوا بهذا الحديث قالوا: إن المقصود لا يجوز تركه لكن نظرًا للخلاف في هذه المسألة نجعل الإتمام من باب المكروه وليس من باب المحرم، واستدلوا بأن عمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى:{فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصَّلاة إن خفتم أن يفتنكم الَّذين كفروا} [النساء: 101]. فشرط الله تعالى لجواز القصر الخوف، فقالوا: إن عمر سأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن هذا الشرط كيف نقصر ونحن آمنون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا
صدقته". قالوا: فسماها الرسول صلى الله عليه وسلم صدقة، والصدقة ليست واجبة، وقبولها ليس بواجبن لن المصدق عليه إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل، ولكن الذين قالوا بوجوب القصر قالوا: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالقبول فقال: "اقبلوا صدقته" والأصل في الأمر الوجوب.
واستدل هؤلاء الذين قالوا: إنه ليس للوجوب بأن عثمان رضي الله عنه كان الصحابة يصلون خلفه ويتمون تبعًا له، ولو كان القصر عندهم واجبًا ما صلوا خلف إنسان خالف الفرض، ولناقشوه في ذلك حتى يعرفوا حجته في هذا الأمر، فما لم يناقشوه في هذا الأمر وتابعوه دل على عدم الوجوب، إذ إن الصحابة لا يمكن أن يوافقوا على خطأ، ولكنه سئل ابن مسعود ضي الله عنه عن كونه ينكر على عثمان ويصلي معه تمامًا فقال:"إن الخلاف شر" فعلم بهذا أنه يصلي وراءه إتمامًا درءًا للشر والتفرق على الخلافاء وأن المفسدة كبيرة جدًا لو تفارقوا وتخلَّفوا.
وأما الذين قالوا: إنه ليس بمؤكد -أي: سنة- ولا يكره تركه فقالو: إن الله يقول: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصَّلاة} [النساء: 101]. فنفى الجناح فقط، ونفي الجناح لا يدل على الوجوب، كما لو قلت: لا حرج أن تفعل كذا، هل معنى ذلك أن هذا الشيء يجب عليك؟ لا، ولكن هذا الاستدلال فيه نظر، لأن نفي الوجوب في هذا الدليل لا يمنع من الوجوب في دليل آخر؛ لأن الله قال في السعي بين الصفا والمروة:{فمن حجَّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما} [البقرة: 158]. فإن الطواف بهما فرض واجب في الحج والاعمرة على القول الراجح، والمسألة خلافية.
المهم أن القول بالوجوب إذا استعرضنا أدلته وجدنا أنه قوي جدًا إلا أن الإنسان قد يكون في نفسه حرج من الإيجاب بسبب إقرار الصحابة رضي الله عنهم عثمان بدون مناقشة، وإلا لكان الواجب أن يناقشوه: لماذا أتممت وعمر يقصر وأبو بكر يقصر والنبي صلى الله عليه وسلم يقصر؟ كل من قبله كانوا يقصرون، فالمسألة ما ينبغي بلا شك للإنسان المسافر أن يصلي تمامًا بل يقصر إمَّا وجوبًا وإمَّا سنة مؤكدة غاية التأكيد، وكنت أرى بالأول الوجوب لكن حصل عند تردد في آخر الأمر، وقلت: إن قولها: "أقرت" على الفريضة الأولى يعني: لم تزد، وليس المعنى أنه فرض أن تكون، إنَّما أنا أرى أنه لا ينبغي للإنسان أن يتم إلا في حالة واحدة وهي إذا ائتم بمقيم بل إذا ائتم بمن يتم -هذا التعبير السليم- فإن عليه أن يتم لقوله -عليه الصلاة ولاسلام-:"ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا"، وتقدم لنا أن الصواب إذا أدرك مع الإمام ولو أقل من ركعة فإنه يلزمه الائتمام.