الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الليل فقال: "يرحمه الله، لقد ذكرني آية كنت أنسيتها"، وفي لفظ:"كنت أسقطتها"، يعني: ـسقطها نسيانه، وإنما قال: في الآية: "أنسيتها" ولم يقل: "نسيتها"؛ لأن هذا لا ينبغي في الآية إذا أنسيتها أن تقول: نسيتها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، وإنما يقول نسيت". كلمة "نسيت" تدل على أن هناك شيئًا من الإهمال، فقال:"بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا وكذا"، لكن في الأفعال يصلح أن تقول: نسيت أن أسجد، نسيت أن أركع، وما أشبه ذلك، ولهذا لما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم أن سلم قبل أن يتم صلاته قال:"إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني"، والمهم: أن السهو في الصلاة وهو الذهول عن بعض ما يجب فيها أو عن فعل ما يحرم فيها بحيث يفعله هذا أمر طبيعي جبلي؛ كل البشر ينسون.
ذكر المؤلف رحمه الله في باب سجود السهو حديث:
صفة سجود السهو:
316 -
عن عبيد الله ابن بحينة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه، كبر وهو جالس، وسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم". أخرجه السعة، وهذا لفظ البخاري.
وفي رواية المسلم: "يكبر في كل سجدة وهو جالس ويسجد ويسجد الناس معه مكان ما نسى من الجلوس".
*فائدة لغوية:
بحينة اسم أمه، واسم أبيه مالك، فهو عبد الله بن مالك ابن بحينة. كيف أحرك "ابن": بالجر، أو بالرفع؟ فهو عبد الله بن مالك ابن بحينة، وقد ذكر العلماء في هذه المسألة -من باب الفائدة- أنه إذا كان الاسم الثالث اسم الجد، فإن كلمة "ابن" الثانية تكون في الإعراب تابعة لما أضيفت إليه "ابن" الأولى، وأيضًا إذا كان مضافًا إلى اسم الجد، فإن الاسم الذي قبله لا ينون، وأيضًا فإنه تكتب الهمزة في "ابن" بين الاسم الأول الذي أضيف إليه "ابن" وبين الاسم الثاني، فهذه ثلاثة فروق، مثلًا: إذا قلنا: "عبد الله بن عباس بن عبد المطلب" لكن "عبد الله بن مالك ابن بحينة" نقول: "عبد الله بن مالك ابن بحينة" ننون "مالك"، ونجعل "ابن" تابع للاسم الأول، ونفصل بينهما بالهمزة.
قوله: "قام من الركعتين ولم يجلي" يعني: ترك التشهد الأول صلى الله عليه وسلم، "فلما قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبَّر فسجد سجدتين وهو جالس، ثم سلم مكان ما نسي من الجلوس"، الصورة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر، فقام من الركعة الثانية ولم يجلس للتشهد الأول وقام الناس معه، فلما انتهت الصلاة لم يبق إلا أن يسلم سجد سجدتين، يكبر كلما سجد وكلما رفع ثم سلم.
يستفاد من هذا الحديث: أن التشهد الأول ليس بركن؛ لأنه لو كان ركنًا لا تصح الصلاة إلا به لوجوب الرجوع إليه حتى تصح الصلاة، لكنه واجب، خلافًا لمن قال: إنه يستدل بهذا الحديث على أن التشهد الأول ليس بواجب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما رجع إليه، ولو كان واجبًا لرجع إليه، ولكن الصحيح أنه واجب لقول ابن مسعود:"كنا نقول قبل أن يفرض عليما التشهد .. إلخ" وهذا صريح بأن التشهد فرض.
ويستفاد من هذا الحديث: أن الإنسان إذا قام إلى التشهد الأول لا يرجع إليه، لماذا؟ لأنه واجب يسقط بالنسيان، ولو رجع إليه لزاد في صلاته.
وهل يحرم الرجوع إذا استتم قائمًا أولًا؟ يحرم إلا إذا شرع في القراءة، قولان لأهل العلم، والصواب: أنه بمجرد أن يستتم قائمًا يحرم عليه الرجوع سواء قرأ أو لم يقرأ؛ لأنه لا دليل على التخصيص، ففي حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن استتم قائمًا فلا يرجع وعليه السهو"، والنهي الأصل فيه التحريم، فالصواب: أنك إذا استتمت قائمًا ما ترجع، إن ذكرت قبل أن تستتم قائمًا ترجع، ولكن هل عليك سجود السهو؟ يقول الفقهاء رحمهم الله: إنه إذا نهض عن الجلوس وجب عليه أن يسجد للسهو، يعني: ارتفع بحيث تفارق أليتاه عقبيه لا هو نهض ولا استتم، يرجع ويسجد للسهو، ولكن حديث المغيرة بن شعبة الذي أشرت إليه يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا سهو عليه، والحديث فيه كلام، فإن من أهل العلم من ضعفه، ولكن الصحيح أنه لا يصل إلى درجة الضعيف، فالفقهاء رحمهم الله قالوا: إنه لما ارتفع عن مكان الجلوس صار زائدًا في صلاته فوجب عليه سجود السهو، والحديث يقول:"لا سهو عليه"، ووجهه -والله أعلم-: أن النهوض ليس مقصودًا لذاته، وإنما المقصود القيام ولم يصل إلى حده، فكأن هذه الزيادة ملغاة؛ لأنها في الواقع ليست مقصودة، وإنما هي وسيلة أن يصل إلى القيام، وعلى كل حال في هذه الصورة نقول: السجود لا يجب إن سجد بناء على ما قال الفقهاء من أجل أن الحديث فيه كلام وضعف فلا حرج عليه.
ويستفاد من هذا الحديث: أنه يجب على المأمومين أن يتابعون الإمام إذا قام عن التشهد
الأول سهوًا، الدليل أن الصحابة قاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولو أنه واجب لنهاهم أن يدعوا الواجب وهو التشهد من أجل متابعة الإمام الواجبة؛ لأنه لا يترك الواجب -وهو التشهد- إلا بواجب، وعلى هذا فيجب على المأمومين إذا قام الإمام على التشهد الأول سهوًا، يجب عليهم أن يقوموا معه، ولا يحل لهم أن يتخلفوا عنه.
ويدل الحديث بالإيماءة: على أن الإمام إذا كان لا يجلس للاستراحة؛ فإنه لا ينبغي للمأموم أن يجلس للاستراحة ولو كان يراها، ولهذا صرح شيخ الإسلام ابن تيمية على أن جلسة الاستراحة هي عند من يرى أنها مشروعة مطلقًا إذا كان مأمومًا فإنه يتابع إمامه في عدم جلوسه، كما أنه لو كان يرى الجلسة وجلس إمامه فإنه يتابع إمامه، ومتابعة الإمام بها أهمية.
ويستفاد من هذا الحديث: أن سجود السهو لمن ترك التشهد الأول، متى يكون؟ قبل السلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد قبل السلام، وقال:"صلوا كما رأيتموني أصلي" فلما سجد قبل السلام بسبب التشهد الأول وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" صار محله قبل السلام، وهل ذلك على سبيل الوجوب أو على سبيل الأفضلية؟ ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه قبل السلام وجوبًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد بعد السلام في حال يكون فيه سجوده قبل السلام حتى نقول: إن المسألة على التخيير والأفضلية، وإنما سجد قبل السلام في موضعه، وبعد السلام في موضعه.
ويستفاد من هذا الحديث: أن الواجبات لا تسقط بالنسيان، بل لابد من فعلها أو فعل ما يكون بدلًا منها، فهنا سقط التشهد الأول، لكن لم يسقط ما يكون بدلًا منه، وهو سجدتا السهو، وعلى هذا نقول: من ترك واجبًا من واجبات الحج فهل يسقط عنه الدم على القول بوجوب الدم لمن ترك واجبًا؟ لا يسقط؛ لن له بدلًا، لكن إذا تركه سهوًا فلا إثم عليه، وإن تركه عمدًا فعليه الإثم والفدية، وإن تركه سهوًا فعليه الفدية دون الإثم.
ويستفاد من هذا الحديث: تيسير هذه الشريعة وتسهيلها وأن الإنسان العامل لا يعدم عمله؛ إذ من الجائز أن يكون من ترك التشهد الأول مع وجوبه أن تكون صلاته باطلة ويلزم بإعادة الصلاة، ولكن من رحمة الله وتيسيره جعل ترك هذا الواجب به بدل يجبره وهو السجود.
ويستفاد من هذا الحديث: فضيلة السجود على غيره من أفعال الصلاة؛ لأنه الذي اختاره الله أن يكون جابرًا، ما جعل الركوع جابرًا، جعل الجابر السجود ليس غير، وهذا دليل على أنه أفضل أركان الصلاة وهو كذلك؛ فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد لكن إذا قلت وأيهما أفضل القيام أو السجود؟ نقول: هذا محل خلاف بين العلماء بعضهم قال القيام أفضل وبعضهم قال السجود أفضل، والصحيح أن نقول: القيام أفضل بذكره، والسجود أفضل بهيئته،