الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيستفاد من هذا ومما قبله: أنك مخير بين أن تأتي بهذا أو بهذا، ولا حرج عليك؛ لأن المخاطب مفهوم أنهم أهل هذه المقبرة.
ومن فوائد الحديث أيضًا: أن الإنسان ينبغي له أن يوطّن نفسه على مستقبله الذي لابد منه؛ لقوله: "أنتم سلفنا ونحن بالأثر"، يعني: أنتم تقدمتمونا والحال بيننا وبينكم واحد، لكن أنتم تقدمتم ووصلتم إلى المنزل ونحن لكم بالأثر، وهل يمكن أن نتخلف عنهم؟ لا يمكن أبدًا.
النهي عن سب الأموات:
569 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبُّوا الأموات، فإنَّهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا". رواه البخاريُّ.
570 -
وروى التِّرمذيُّ عن المغيرة رضي الله عنه نحوه، لكن قال:"فتؤذوا الأحياء".
"لا تسبوا" ما هو السبّ؟ السبّ هو: ذكر العيب، فإن كان في مقابلة الشخص فهو سبّ، وإن كان في غيبته فهو غيبة، وإن كان كذبًا فهو بهتان وسبّ أو غيبة، فقوله:"لا تسبوا الأموات" هذا سبّ ولكنهم أموات، فهو سب متضمن للغيبة؛ لأنهم ليسوا عندك حتى نقول: إن هذا مجرد سب، وقوله:"الأموات": جمع محلى بـ"أل"، والجمع المحلى بـ"أل" إذا لم تكن للعهد فهو يفيد العموم، فيشمل الأموات المسلمين وغير المسلمين، حتى الكافر لا يسب إذا مات؛ لأنه- كما سيأتي- أفضى إلى ما قدّم، وهذا تعليل عدم جواز شبهم مطلقًا.
وقوله: "فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" أي: انتهوا إليه ووصلوا إليه، وقوله:"إلى ما قدموا" يعني: من العمل، وهم الآن لا فائدة من سبَّهم؛ لأنهم وصلوا إلى الجزاء، وحينئذٍ يكون السب عبثًا، ثم إن كان لهم أحياء يسمعون هذا السب صار هناك علة أخرى، وهي إيذاء الأحياء، كما في رواية الترمذي:"فتؤذوا الأحياء".
فكان في سب الأموات معنيان: المعنى الأول: أنه لغو؛ لأنهم أفضوا إلى ما قدمّوا.
والمعنى الثاني: أنهم إذا كان لهم أحياء فسوف يتأذون، وحينئذٍ فسب الأموات دائر بين أمرين: إما لغو لا فائدة منه، وإما إيذاء للأحياء؛ فلهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو ظاهر الحديث، أي: أن ظاهره العموم، ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا خاص بالمسلمين، وأما الكفار فإنه يجوز أن يسبهم الإنسان ولو بعد موتهم، واستدلوا بما ثبت في صحيح
البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "قال أبو لهب- لعنه الله- للنبي صلى الله عليه وسلم .... " ذكر الحديث. فلعن عمه، يعني: لعنه ابن عباس، وابن عباس قوله حجة في مثل هذا، فهذا يقتضي أنه إذا كان كافرًا فإنه يجوز سبه؛ لأنه ليس له عرض محترم، وهو إذا أفضى إلى ما قدم فإنه يجازى عليه، لكن بالنسبة لنا ليس له عرض محترم، ولكن هذا يأباه ظاهر الحديث، إلا أن نقول: إذا سبه الإنسان تحذيرًا من فعله وسلوكه فهذا لا حرج فيه، وإذا سبّه لبيان حاله فكذلك لا حرج فيه؛ لأن المقصود بذلك النصح، وإذا سبّه قبل الدفن فلا محذور فيه، هذه ثلاثة أشياء: أما الأول يعني: إذا سبّه تحذيرًا من فعله فهذا ظاهر؛ لأن فيه مصلحة، لأن التحذير من فعل هذا الكافر أو الفاسق فيه مصلحة عظيمة، فإذا سبّه وقال: هذا الذي ظلم الناس وهذا الذي فعل كذا
…
يريد أن يحذّر منه لا أن ينتقم منه بالسبّ فهذا جائز، وإذا سبه أيضًا لبيان حاله فهو أيضًا جائز، بل قد يكون واجبًا، وهذا يقع كثيرًا في كتب أهل الحديث؛ أي: في كتب الرجال، فتجد فيها: يقول فلان، ثم يذكر بما فيه من العيب، لماذا؟ لأن هذا من باب التحذير يبين حاله، وما زال المسلمون على هذا، الثالثة: إذا كان قبل الدفن، ويستدل لذلك بالجنازة التي مرّت بالنبي صلى الله عليه وسلم وعنده أصحابه فأثنوا عليه شرًّا؛ فقال:"وجبت". وقد يقال: إنه لا حاجة للاستثناء؛ لأن التعليل يخرجه؛ لأن قوله: "فإنهم أفضوا إلى ما قدموا" لا يكون إلا بعد الدفن، أما قبل فإنه لم يفض إلى ما قدم حتى الآن، أي: إنه لم يصل إلى المجازاة، وعلى كل حال هذا الحديث- عمومه- لا شك أن فيه تخصيصًا، والتخصيص في الحالات الثلاث التي ذكرنا.
ويستفاد من هذا الحديث: حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يريد أن يحمي أمته عما فيه شر، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".
ومن هذا نعرف أن ما يفعله بعض الناس الآن من الرؤساء والزعماء مما لا فائدة فيه، حيث يبدءون فيما بينهم بالتشاتم، بأن يسب أحدهم نظيره بالطول، ويعيِّره الآخر بالعرض، ويقوم وسيط ثالث للدفاع عن هذا أو ذاك، فما الفائدة من هذا؟ لا فائدة فيه، هذا لغو وربما يحدث عداوة وبغضاء بين الناس، فهو قد أفضى لما قدّم وانتهى عن الدنيا، وبالنسبة إلى مبدئه إذا كان ذا مبدأ خبيث معارض للشريعة يجب أن نسبَّ هذا المبدأ نفسه؛ لأن المقصود ألا يغتر أحد بمبدئه ومنهاجه؛ أما أن نتجادل في هذا الشخص لعينه فلا شك أنه لغو وأنه يجرُّ إلى الآثام.
* * *