الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الجنائز
سبق لنا أن الجنائز: جمع جَنازة أو جِنازة، وأن بعضهم قال: الجنازة بالفتح: الميت، والجنازة بالكسر: النعش عليه الميت، وقال بعض أهل اللغة: إنهما سواء، يقال: الجَنازة. ويقال: الجِنازة. والجنائز: هم الأموات، هم الأحياء في الواقع لكنهم انتقلوا من دار إلى دار أخرى، كما انتقلوا من الدار التي هي بطون أمهاتهم إلى الدنيا فيرجعون بعد الدنيا إلى البطن الأول وهو بطن الثرى والتراب، ثم بعد ذلك يخرجون من هذا البطن إلى الحياة الآخرة، وهذا من الحكمة أن يكون الخروج من البطن الأول إلى البقاء الآخر، وأما في الدنيا فهو الخروج من البطن الثاني إلى العمل، فهنا طرفان: الطرف الأول الذي هو خلق الإنسان من الطين، والطرف الآخر خروجه من هذا البطن إلى اليوم الآخر الدائم، فيكون في ذلك الطرفان الأول والطرف الأخير لكن في الحمل في بطون أمهاتهم هم طرفان، في الوسط يخرج الإنسان من بطن أمه إلى الدنيا ثم ينتقل.
الترغيب في تذكر الموت:
507 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذكر هاذم اللَّذَّات الموت)). رواه التِّرمذيُّ، والنَّسائيُّ، وصحَّحه ابن حبَّان.
قول: ((أكثروا ذكره)) في نفوسكم أو فيما بينكم؟ يشمل هذا وهذا.
وقوله: ((هاذم وهادم)) لغتان؛ فـ ((هاذم)) بمعنى: قاطع، و ((هادم)) من الهدم الذي هو هدم البنيان. وقوله:((هاذم اللذات)) يعني: الذي يهذمها ويقطعها، والمراد باللذات: لذائذ الدنيا، وإلا فإن الموت بالنسبة للإنسان المؤمن ابتداء لذة لا تشبه لذات الدنيا، لكن لذات الدنيا تنقطع بالموت، وإنما أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكره؛ لأن ذلك يلين القلوب ويزهدها في الدنيا، ويذكرها الحال التي لابد من عبورها، فكما قال كعب بن زهير:[البسيط]
كلُّ أنثى وإن طالت سلامته
…
يومًا على آلةٍ حدباء محمول
هذه الحقيقة الواقعة يجب على الإنسان أن يتذكرها لا لأجل أن يبكي، أو لأجل أن يقول: سأفارق أهلي وبلدي وإخواني وأصحابي، لكن يكثر من ذكرها لأجل الاعتبار والاتعاظ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((زور القبور تذكر الآخرة))، وإذا أكثر الإنسان من ذكر الشيء فإنه لابد أن يستعد له، والاستعداد للموت يكون بالإيمان والعمل الصالح، ولهذا لا ينفع الإنسان أن يقوم فيذكر الناس بالموت وأنهم سينتقلون من دارهم إلى القبور وما أشبه ذلك، حتى يقرن هذا بالحث على العمل الصالح واغتنام الوقت.
يستفاد من الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يعظ نفسه بما يكون واعظًا، ومنه ذكر للموت.
ويستفاد من ذلك: أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من ذكر هاذم اللذات، سواء يذكر بذلك نفسه أو يذكر بذلك غيره.
ومن فوائد الحديث: أن الموت يقطع كل لذة، فإن الإنسان إن كان مؤمنًا انقطعت لذته من الدنيا إلى لذة خير منها، وإن كان كافرًا انقطعت لذته من الدنيا إلى حال لا لذة فيها إطلاقًا، وإنّما فيها الشقاء والبلاء؛ ولهذا ورد في الحديث الصحيح:((أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر))، فالدنيا للمؤمن سجن، وأما الكفر فإن الدنيا جنته؛ لأنه مهما وجد في الدنيا من بؤس فإنه بالنسبة لعذاب القبر وعذاب النار يعتبر جنة، وقد ذكرت لكم ما أثرت عن ابن حجر العسقلاني رحمه الله وكان قاضي القضاة في مصر، وكان إذا حضر إلى مجلس القضاء يحضر على عربة تجرها البغال وفي موكب فمر ذات يوم بيهودي دهّان- زيات- ثيابه ملوَّثة وهو متعبٌ، فأوقف هذا الموكب اليهودي وقال لابن حجر: إن نبيكم يقول: (إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر))، والآن أنت مؤمن وأنت على ما أنت عليه من النعيم والاحترام والتعظيم، وهو- أي: هذا اليهودي- يعتبر في عيش ضيِّق ومسكين، فقال له ابن حجر: ما أنا فيه من النعيم بالنسبة لنعيم الآخرة يعتبر سجنًا، وما أنت عليه من البؤس يعتبر بالنسبة لعذاب الآخرة جنة/ فاتعظ اليهودي، وقال: اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.