الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبب للإرث، فالأب يرث من أبنه والابن يرث من أبيه، لكن قد يوجد مانع كاختلاف الدين ولا يثبت الإرث، فالقتل سبب للخلود في النار لكن يوجد مانع يمنع من ذلك، وهذا أقرب الأقوال فيما أظن.
وعلى كل حال: فإن قاتل النفس- قاتل نفسه- كقاتل غيره من جهة الوعيد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، كيف لو قتل نفسه بغير مشاقص؟ العلة واحدة فتكون كلمة "بمشاقص" وصفًا طرديًا، وقد علم في باب القياس أن الوصف الطردي لا مفهوم له، الطردي الذي ليس له معنى مناسب كما في حديث:"خيرت بريرة على زوجها حين عتقت وكان عبدًا أسود"، كلمة أسود وصف طردي، لو كان عبدًا غير أسود يثبت التخيير.
وهناك وجه سابع: وهو أن الخلود إذا لم يقرن بالتأييد فهو المكث الطويل، وليس المكث الدائم.
حكم الصلاة على القبر:
529 -
وعن أبى هريرة رضي الله عنه - في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد-: فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: مات، فقال: أفلا كنتم أذنتموني؟ فكأنهم صغروا أمرها، فقال: دلوني على قبرها، فدلوه، فصلى عليها".متفق عليه.
- وزاد مسلم، ثم قال:"إن هذه القبول مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم"
وقد اختلفت الأحاديث: هل هي امرأة أو رجل؟ ففي بعضها أنها امرأة، وفي بعضها أنه رجل، وفي بعضها أنه إنسان كان يقم المسجد، والاختلاف في هذا قريب.
فمن أهل العلم من ذهب إلى تعدد القصة وأنه رجل يقم وامرأة تقم، ولا مانع ولكن هذا ضعيف، وبضعفه اتحاد المخرج وكون القصة سياقها يدل على الوحدة.
ومنهم من قال: إن القصة واحدة، لكن الرواة اختلفوا في اسم هذا الرجل، وهذا الاختلاف لا يعد اختلافًا ضارًا في الحديث، لأنه لا يخل بالمقصود منه، قال أهل العلم: والاضطراب في مثل ذلك لا يعد ضعفًا في الحديث، لأن المقصود واللب ليس في تعيين الرجل، إنما المقصود واللب هذه القصة بقطع النظر عن القائل أو الفاعل، ونظير ذلك اختلاف الرواة في حديث ثمن جمل جابر، ونظيره أيضًا، اختلافهم في حديث فضالة بن عبيد في قصة القلادة،
والاختلاف في ثمنها، كل هذا الخلاف يقول فيه أهل العلم: إنه لا يوجب ضعف الحديث ولا الحكم عليه بالاضطراب، كذلك هنا الاختلاف في تعيين الذي يقم المسجد هذا لا يضر، الكلام على أن هذا قصة واقعة حصلت على هذا الوجه، أما على من حصلت فالأمر يسير لا يضر.
قوله: "تقم" أي: تنقيه من القمامة، والقمامة هي: الأذى كالعيدان والخرق وما أشبه ذلك.
وقوله: "المسجد""أل" هنا: للعهد الذهني، لأنه هو المفهوم عند الإطلاق، إذن ما هو المسجد؟ هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه أتفقد هذه المرأة التي كانت تقم المسجد، فسأل عنها أين هي؟ فقالوا: ماتت، فقال:"أفلا كنتم آذنتموني؟ ""أفلا" الاستفهام هنا: يحتمل أن يكون للتوبيخ والإنكار، لأنهم لا يخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بها، ويحتمل أنه للتعظيم، أي: تعظيم هذه المرأة وتكريمها، وقوله:"أفلا" الفاء هنا: عاطفة، والمعطوف عليه محذوف يقدر بما يناسب المقام، وقيل: إن المعطوف عليه هو ما سبق، ولكن ها قد يمتنع هذا الوجه؛ لماذا؟ لأن النبي (صلى الله علي وسلم) لم يسبق له كلام على هذه الجملة، بخلاف ما يوجد في القرآن من نحو:{أفلم يسيروا} [يوسف 109]{أو لم يسيروا} [غافر: 21]{أثم إذا وقع أمنتم به} [يوسف: 51] ،
إذن قوله: "أفلا" نقول: إن الهمزة للاستفهام، والفاء للعطف، والمعطوف عليه محذوف، ويقدر بما يناسب المقام، فكيف نقدر؟ نقول: احتقرتم هذه فلا كنتم آذنتموني.
وقوله "آذنتموني" أي: أعلمتموني، لأن الأذان بمعني: الإعلام، ومنه قوله تعالى: {وأذن من الله ورسوله
…
} [التوبة: 3].
قال: "فكأنهم صغروا أمرها" يعني: رأوا أمرها صغيرًا بحيث لا تحتاج إلى أن يخبر عنها النبي (صلى الله عليه ولسم) وفي سياق آخر: أنه كانت في ليلة ظلماء، فخافوا أن يشقوا على النبي صلى الله عليه وسلم إذا اخبروه، وعلى هذا تكون العلة مركبة من شيئين، أحدهما: أنهم رأوا أنها امرأة صغيرة ليست ذات أهمية بحيث يخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني: أنها كانت ظلمة فخافوا أن يكون ذلك مشقة على النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون العلة إذن مركبة من شيئين: تصغير أمر المرأة وخوف المشقة على النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دلوني على قبرها" وهذا أمر وهو واجب التنفيذ على الذين خوطبوا به، لأنهم لو عصوا الرول، وقالوا: لا صار الأمر عظيمًا، وهناك فرق بين من يواجه بالخطاب ومن لا يواجه، فدلوه أو فدلوه؟ الأول، متى تكون الثاني؟ إذا كانت معتلة بالألف صارت فدلوه، أما إذا كان آخرها اللام فإنه يقال: دلوه، فهي إذن فعلها ماض على وزن فعل، أما دلى فهي على وزن فعل فهي رباعية، قال تعالى:{فدلها بغرور} [الأعراف: 22].
"فدلوه فصلى عليها" وهي في قبرها، وزاد مسلم:"إن هذه القبور""القبور" هذه بدل من اسم الإشارة، و"مملوءة" خبر، و"ظلمة" تمييز، تميز نوع المملوء مثل:{فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به} [آل عمران: 91].
"وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم"، "وينورها" أي: يجعل فيها نورًا، "بصلاتي عليهم" أي: بدعائي لهم، وليست الصلاة عليهم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما صلى على قبر واحد لا على القبور كلها، فتحمل الصلاة هنا على الدعاء كما حملنا الصلاة على الأموات على الدعاء في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد في آخر حياته.
هذا الحديث قصته واضحة وهي أن امرأة كانت - جزاها الله خيرًا- تنظف المسجد وتزيل قماماته، ففقدها النبي صلى الله عليه وسلم وسأل عنها، فأخبروه أنها ماتت، فكأنه بين علو شأنها أو وبخهم حين لم يعلموه بموتها، أما هم فلم يؤذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم صغروا شأنها وخافوا أيضًا من المشقة على النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الليلة كانت ظلماء، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يدلوه على قبرها فدلوه، فخرج فصلى عليها عليه الصلاة والسلام وأخبر أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهل هذه القبور سبب بإنارتها لهم.
أما ما يستفاد من الحديث فهو عدة مسائل كثيرة، منها: مشروعية تنظيف المساجد بإزالة القمامة عنها، وجهه: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، أو فعل المرأة؟ الأول، وقد سبق لنا أن فعل الإنسان الشيء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر إقراراً، لكن من الرسول إن علم به ومن الله إن لم يعلم به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد مر علينا في كتاب المساجد- في حديث عائشة رضي الله عنها أن الرسول (صلى الله عليه ولسم) أمر ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب، وعلى هذا فالمشروع تنظيف المساجد من الأذى وتطيبيها، يعني: تحسينها وتزيينها ووضع الطيب فيها؛ لأنها أماكن عبادة.
يتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي أن يجعل في المساجد ما يريح المصلين مثل: التكييف أو المراوح، أو الأنوار إذا كان الناس يحتاجون إليها في الليل وما أشبه ذلك؛ لأن تطييب المسجد مما يريح المصلين فإن طيب الرائحة وإزالة الأذى لا شك أنه سبب لإراحة المصلين.
ومن فوائد الحديث: أن جواز خدمة المرأة للمسجد، يؤخذ من إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولكن كما نعلم جميعًا أن الأشياء المباحة إذا كان يخشي منها شر صارت محذورة حسب ما يترتب عليها من الشر، فأنت لا تأخذ بالجواز مطلقًا، لو أن امرأة شابه جميلة قالت: إنها تريد أن تقم المسجد وتأتي في الليل وتقمه، نقول: لا، لأن هذه يخشي عليها من الفتنة، لكن الأصل الجواز والإباحة.
ويستفاد من الحديث: تفقد النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وذلك من قوله: "فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم،
وربما يؤخذ منه محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لتنظيف المسجد، لأنه سال عنها حين فقد هذا القمم من هذه المرأة.
ويستفاد من الحديث: جواز الصلاة على القبر، يؤخذ من قوله:"فصلى عليها" إذن فالصالة على القبر مشروعة سواء كان ذلك من أهل البلد أو من إنسان قادم بعد أن مات الميت ودفن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج وهو مع أهل البلد، ولكن هل يشترط في جواز ذلك ألا يكون الإنسان عالمًا بموتها؟ بمعنى: هل يشترط أن يكون الإنسان متمكنًا من الصلاة على الميت قبل دفنه أولا يشترط؟ لنفرض مثلاً: إن أحدًا علم بموته فلان، ولكنه قال غدًا أخرج أصلى عليه عند القبر، أما الآن فأنا مشغول، قد نقول في ذلك: إنه لا يشرع، لأن المشروع أن تصلى على الميت حاضرًا، فإذا لم يكن صل على قبره، فإلى متى الصلاة على القبر؟ حدها بعض أهل العلم بشهر، فإذا انتهي الشهر فإنه لا تشرع الصلاة عليه، وعللوا ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر إلى شره، استدلوا لذلك بهذا الحديث قالوا: وهذا دليل على التحليل، ولكننا لا نسلم لهذا القول، لماذا لا نسلم؟ لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على القبر إلى شهر إنما وقعت اتفاقًا لا قصدًا وما وقع اتفاقًا لا يصح أن يكون حدًا، هذه قاعدة: كل شيء وقع اتفاقًا فإنه لا يصح أن يكون حدًا إلا أن يكون هناك دليل على منع هذا الشيء فإنه يخصص ذلك الدليل على المنع بهذه القضية المعينة، يعني: لو كان هناك دليل على أنه لا يصلي على القبر كنهي مثلاً، ثم وجدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على قبر إلى شهر ماذا نقول؟ نقول: نبقي العموم على عمومه ونخصه بهذه الصورة المعينة فقط، لكن ليس هناك دليل يقول: لا تصلوا على القبور إلى مدة كذا، أو لا تصلوا على القبور أبدًا، وعلى هذا فما وقع اتفاقًا لا يصح أن يكون حدًا، ومن ذلك تحديد بعض أهل العلم الإقامة التي ينقطع بها أحكام السفر بأربعة أيام استدلالاً بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم إلى مكة في اليوم الرابع في حجة الوداع وكان يقصر الصلاة، قالوا: فما زاد على الأربعة لا يجوز قصر الصلاة فيه، فيقال لهم: لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم أعطانا حكمًا عامًا: إن الإقامة في البلد تنقطع بها أحكام السفر لكنا جعلنا الأربعة أيام حدًا، فلما لم يرد ذلك وقد وقعت القضية اتفاقًا فإنها لا تصح أن تكون حدًا.
إذن إذا قلنا: إنه لا يحد بشهر فبكم؟ أي وقت تحدده ستطالب بالدليل، بعضهم قال: إنه يصلى إلى سنه، وبعضهم قال: يصلى إلى الأبد، وبعضهم قال: إلى أن يبلى، وما الذي يعلمنا ببلاه؟ الأراضي تختلف، والناس أيضًا قد يكرم الله بعض الناس بعدم بلاء أجسادهم، لكن
الأنبياء محقق أن الأرض لا تأكل أجسادهم، وقد ذكر لنا بعض الثقات أنهم كانوا يحفرون للسور هنا في غنيزة فمروا على جانب من مقبرة قديمة، فلما حفروا عثروا على قبر فوجودا فيه ميتًا قد بليت أكفانه ولكن جسمه باق كله، حتى إنهم يقولون: شعر لحيته باق؛ ووجدوا منه رائحة ليس لها نظير، فتوقفوا وجاءوا إلى قاضي البلد وأخبروه، فقال: أدفنوه على ما هو عليه ونحو الجدار، فمن الناس من لا تأكله الأرض والتقييد بالبلي فيه نظر؛ لأننا لا نصلى على جسده، ولكن نصلى على روحه، ولهذا لو أن الرجل احترق نهائيًا أو أكلته السباع فإنا نصلى عليه، لكن ذكر بعض أهل العلم كلامًا، يقولون: إذا كان هذا المقبور مات وأنت أهل للصلاة على الميت فصل عليه، وإن مات قبل أن تكون أهلاً للصلاة عليه فلا تصل عليه، لأنه حين موته وأنت من أهل الصلاة فهي مشروعة في حقك، مثلاً: لو كان هذا الميت له عشرون سنه وعمرك تسع عشرة سنة لم يشرع لك الصلاة عليه؛ لأنه مات وأنت لم تخلص، أو لك أربع سنين لا تصل عليه؛ لأنه مات قبل أن تكون من أهل الصالة عليه، ولهذا لا يشرع لنا نحن الآن أن نصلى على النبي صلى الله عليه وسلم على قبره صلاة الميت ولا على قبر أبى بكر ولا عثمان ولا غيرهم من الصحابة، لأنهم ماتوا قبل أن نخلق، وهذا القول هو أحسن الأقوال عندي.
ومن فوائد الحديث: جواز الإخبار بموت الميت؛ لقوله: "أفلا كنتم آذنتموني؟ "، وعلى هذا فيحمل النهي عن النعي على ما كان معروفًا في الجاهلية من أنهم إذا مات الميت خرجوا بالأسواق وقالوا: مات فلان، مات فلان، تشييدًا لذكره وإشهارًا له فهذا هو المنهي، ومن ذلك ما يفعله الناس الآن، وسنتكلم عليه في الفوائد.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي لمن عمل عملاً عامًا في مصلحة عامة أن يشاد بذكره وأن يحترم ويعظم، وجهه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "هلا كنتم آذنتموني"، وأنه أمرهم أن يدلوه على قبرها حتى صلى عليها.
ومن فوائد الحديث: أن من يصلى على القبر يجعل القبر بينه وبين القبلة لا عن يمينه ولا عن شماله ولا خلف ظهره، يؤخذ من قوله:"فصلى عليها" والمعروف أن الصلاة على الميت يكون الميت هو الذي بينك وبين القبلة.
ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب لا ما وقع ولا ما لم يقع يؤخذ من قوله: "أفلا كنتم أذنتموني" و"دلوني على قبرها" فالرسول لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله به.
وهل من فوائد الحديث: أن من صلى على الميت لا يعيد الصلاة عليه مرة أخرى؟ يحتمل أن الذين حضروا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبق أن صلوا، ويحتمل ألا يكونوا قد صلوا، لكن الظاهر- والله أعلم- أنهم لو صلوا لنقلوا ذلك، وعلى هذا فلا يشرع لمن صلى أن يعيد الصلاة
على الميت مرة أخرى وقال بعض العلماء: بل يعيدها مطلقًا، وقال آخرون: بل يعيدها لسبب، والسبب مثل: أن يصلى عليها جماعة لم يصلوا عليها من قبل فيصلى معهم، وهذا القول اختيار شيح الإسلام ابن تيمية وهو الصحيح، وقد يستدل له بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة"، يمكن أن يستدل بهذا.
ويستفاد من الحديث: جواز إعادة الصلاة على الميت لمن لم يصل عليه، لأن الرسول صلى عليها مع أن الصحابة كانوا قد صلوا عليها من قبل.
ومن فوائد الحديث أيضًا: أن القبور قد تكون ظلمة حتى بالنسبة لقوم صالحين، يؤخذ من أن أهل البقيع كلهم من الصحابة ومع ذلك قال: (إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة" فلا تغتر بالعمل، فإن العمل ليس هو كل شيء، فهؤلاء الصحابة خير القرون قد تكون قبورهم مملوءة ظلمة، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: أن الدعاء للأموات ينفعهم لقوله: "وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم" أي: بدعائي لهم.
ومن ذلك أن يقول الإنسان: اللهم أفسح لهم في قبورهم ونورها عليهم وما أشبه ذلك، فهذا ما ينبغي للإنسان أن يدعو به سواء دعا به حين زيارة المقبرة أو في بيته، أو يدعو في صلاته أن الله يفسح لأموات المسلمين في قبورهم وينور لهم فيها.
وهل يؤخذ من الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب؟ نقول: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم بما حدث على ظهر الأرض من موت المرأة وقبرها فكيف يعلم بما في باطن الأرض؟ ! ولكنا نحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بهذا.
ومن فوائد الحديث: جواز ذكر المكروه النازل في قوم إذا كان على سبيل العموم، كيف ذلك؟ لأنه معلوم أن كون القبور مملوءة ظلمة هذا فيه كراهة، لكن الرسول قالها على سبيل العموم.
ومن فوائد الحديث أيضًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يجلب الخير لأحد، ولكنه سبب من الأسباب، يؤخذ من قوله:"فإن الله ينورها" فأضاف التنوير إلى الله سبحانه وتعالى:
ومن فوائد الحديث: إثبات الأسباب يؤخذ من قوله: "بصلاتي عليهم".
فالحديث هذا فيه فوائد كثيرة في الحقيقة، وربما لو تأمل الإنسان وجد فوائد أخرى، لكن من الفوائد ما يكون ظاهرًا، ومنها ما يكون قريبًا، ومنها ما يكون بعيدًا، ولكن مهما أمكن من الاستدلال بالسنة أو بالقرآن فإنه أولى من الاستدلال بالنظر والقياس، لكن بشرط أن يكون اللفظ محتملاً لذلك، أما أن تحمل اللفظ ما لا يحتمل فهذا لا يجوز.
وممكن أن يستفاد من الحديث: أنه ينبغي لمن كان في المقبرة أن يذكر ما فيه الترغيب والترهيب لقوله: "إن هذه القبور مملوءة ظلمه" لأن الرسول قالها بعد أن صلى على المرأة، وله شاهد: وهو أن الرسول خرج في جنازة رجل فلما وصلوا إلى القبر ولم يتم اللحد جلس النبي صلى الله عليه وسلم وجلس الناس حوله فحدثهم عن حالة الموت، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة"، وهو حقيقة، فإن الإنسان يمشي بين هؤلاء كانوا أمس على ظهرها كما هو عليها اليوم، بل كانوا أقوى منه وأغنى منه وأعلم منه، وهم الآن مرتهنون بأعمالهم، فلا شك أنها عبرة لكن لمن اعتبر، فالقرآن مثلاً عبرة كما قال الله: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة
…
} [يونس: 57]. لكن مع ذلك يتلى على قوم فيزيدهم رجسًا إلى رجسهم - والعياذ بالله- لا ينتفعون به، فالمقابر التي نمر بها كل يوم -إلا ما شاء الله- نجد أكثر الناس غافلين، كأنهم يمرون إلا على أحجار منصوبة على أرض، كأن هؤلاء القوم ما كانوا على الدنيا وهم أكثر منهم ترفًا وتنعمًا وقوة في البدن وفي العقل، ومع ذلك أصبحوا الآن جثثًا في القبور لا يستطيعون زيادة في حسناتهم ولا نقص سيئة من سيئاتهم، فالموعظة في هذا المكان لا شك أنها مناسبة، لكن كوننا يقوم واحد من الناس ويخطب ويعظ هذا ليس بصواب، إنما لو جلس الرجل وجلس حوله أحد وأخذ يذكرهم كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لكان هذا جيدًا ونافعًا، وأما أن نجعل المقبرة وتشييع الجنائز منابر للخطابة فهذا خلاف المشروع.
ممكن أن يؤخذ منه أيضًا: أن من مات في البلد لا يصلى عليه صلاة الغائب.
وربما يستفاد من الحديث: أن الذي يضع الأذى في المساجد أن يهان؛ يعني: ضد الإكرام.
النهي عن النعي:
530 -
وعن حذيفة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهي عن النعي"، رواه أحمد، والترمذي وحسنه.
قوله: "كان" الجملة خبر "إن" ،"ينهي" الجملة خبر كان، و"كان" إذا كان خبرها مضارعًا فإنها تدل على الاستمرار غالبًا لا دائمًا، وقوله:"ينهي" النهي: طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة معينة وهي المضارع المقرون بلا الناهية، هذا هو النهي، وإنما قلنا: طلب الكف ليخرج بذلك الأمر؛ لأن الأمر طلب الفعل، وليخرج بذلك الاستفهام لأنه طلب الإخبار بشيء،
وقولنا: "على وجه الاستعلاء" خرج به الدعاء، فلا يسمي نهيًا مثل قوله تعالى:{بنا لا تؤاخذنا} هذا دعاء، لأنه ليس على سبيل الاستجداء، وخرج به الالتماس أيضًا وهو: أن توجه هذه الصيغة إلى من كان يماثلك أو يساويك فلا يسمي أمرًا، لأنه ليس على سبيل الاستعلاء، وقولنا:"بصيغة معينة" هي: المضارع المقرون بلا الناهية، خرج بذلك كلمة أترك أو دع، هذه طلب كف لكن ليس بصيغة المضارع المقرون بلا الناهية فلا يسمي نهيًا، وإنما يسمي أمرًا بالترك والأمر بالترك ليس نهيًا، لأن النهي له صيغة معينة وهي المضارع المقرون بلا الناهية، وقولنا:"على وجه الاستعلاء" ولا نقول: من عال على من دونه: لأنه قد يأتي إ، سان هو دونك لكن يكون له فرصة يستعلى عليك كما لو أمسك اللص سلطانًا وهو يمشي وحدة فقال له اللص: أحضر لي الأرض هذه وأخرج منها كذا وكذا، أيهما أعلى؟ السلطان أعلى في الواقع، لكن هذا اللص استعلى يعني: أنه تكلف العلو وإلا فهو ليس من شيمته ولا من حاله.
إذن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال: لا تفعلوا كذا فهو على سبيل الاستعلاء، لا أنه عليه الصلاة والسلام متكبر مترفع عن الخلق، لكن أمره فوق أمورنا، وهو مبلغ عن الله سبحانه وتعالى.
وقوله: "ينهي عن النعي" هل هذه الصيغة كما لو قال الراوي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تنعوا موتاكم؟ الصحيح أنها كقول الراوي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنعوا موتاكم" وأمن من قال: إن هذا قد يكون فهمًا من الصحابي، وأن الرسول ما نهي لكن كره النعي فليس صريحًا في النهي، فإن هذا ليس بصواب، ذلك لأن الصحابة أدرى بصيغ الألفاظ لأنهم عرب فصحاء؛ ولأن الصحابة أورع من أن يقولوا: نهي أو ينهي وهم لم يتأكد لهم ذلك، إذن فقول الصحابي:"كان ينهي" مساو لقوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا كذا، ولا فرق لما ذكرت لكم.
وقوله: "عن النعي"، النعي: هو الإعلام بموت الشخص، وكلمة "أل" هل هي لبيان الحقيقة أو للعهد؟ إن قلنا: لبيان الحقيقة وقعنا في مشكلة، وإن قلنا: للعهد زال عنا الإشكال، كيف ذلك؟ إذا قلنا: إنها لبيان الحقيقة صار النهي واردًا على النعي من حيث هو نعي صلى الله عليه وسلم النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وإذا قلنا: إن "أل" للعهد زال الإشكال، فما هو العهد هنا؟ عهد ذهني؛ يعني: عن النعي المعهود المعروف في الجاهلية كانوا إذا مات الميت خرجوا في الأسواق يقولون: مات لان، ويكيلون له من المدح والثناء ما لا يكون أهلاً له، لكنهم يطوفون في الأسواق وعلى الإحياء يعلمون الناس بموته، هذا هو الذي نهى عنه الرسول (صلى الله عليه ولسم)، وبناء على ذلك فليس في الحديث شيء مشكل، فيكون النعي الذي نهي عنه الرسول صلى الله عليه وسلم هو النعي المعروف في الجاهلية.
يستفاد من هذا الحديث: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النعي، وهل هو للكراهة أو للتحريم؟ الأصل في النهي: التحريم، كما أن الأصل في الأمر: الوجوب، هذا هو الذي عليه كثير من أهل الأصول، واستدلوا بأدلة منها: قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) [النساء: 59]. ومنها: قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة
…
} [النور: 63].
قال الإمام أحمد: الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قوله شيء من الزيغ فيهلك، وهذا خطي لاسيما إذا رد الإنسان قوله الله ورسوله كراهية له، فإنه قد يخرج به ذلك إلى الكفر، فالمهم أن أكثر الفقهاء أو الأصوليين يقولون: إن الأصل في النهي التحريم، والأصل في الأمر الوجوب، وعلى هذا فإذا وردت نصوص من الكتاب أو السنة فيها أوامر تقول: هي واجبة أفعل، وإن لم تفعل فأنت آثم، ما لم يوجد دليل يدل على أن هذا الأمر ليس للوجوب، وسواء كان الدليل بلفظ متصل أو بلفظ منفصل أو بفعل، المهم: أن يأتي دليل، وكذلك نقول في النهي.
وقال بعض الأصوليين: إن الأصل في الأمر الاستحباب، والأصل في النهي الكراهة، وعللوا ذلك بأنه لما أمر به الشارع صار مطلوبًا فثبتت المشروعية، والتأثيم بالترك يحتاج إلى دليل، والأصل براءة الذمة وعدم الإثم، فإذن إذا لم يرد دليل على أن هذا الأمر للوجوب إما بعزم من الشارع أو بتوبيخ على تركه أو ما أشبه ذلك فإن هذا الشيء المأمور به يكون مستحبًا لا واجبًا، وكذلك قالوا في النهي، ولا شك أن الأمر فيه إشكال سواء قلنا بأن الأصل الوجوب، أو قلنا بأن الأصل الاستحباب في الأمر، والأصل التحريم في النهي أو الكراهة، لا بد أن يمر بك شيء قد تعجز عن الجواب عنه، إن قلت بالوجوب ورد عليه أوامر كثيرة كلها للاستحباب، وإن قلت للندب ورد عليك أوامر كثيرة كلها للوجوب، وحينئذ لا بد من أن يكون الإنسان فاحصًا وفاهمًا لمورد الشريعة ومصادرها ومعاقلها حتى يتمكن له أن هذا الأمر للوجوب أو للاستحباب، وهذا النهي للكراهة أو للتحريم، والمسألة صعبة؛ ولهذا نجد العلماء يقوم بينهم معارك من الخلاف نحو هذا الأمر، تجد هذا يقول: هذا واجب؛ لأن الرسول أمر به والأصل في الأمر الوجوب، ثم يقول الثاني: هذا مستحب؛ لأن الأصل عدم التأثيم وبراءة الذمة، ولكننا نقول- لصفة التعبد أو بمقتضى العبادة لله عز وجل: إذا أمرك بأمر فافعله: إن كان للوجوب أثبت