الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
((بعرق الجبين)) الباء هذه للملابسة والمصاحبة؛ أي: يموت وجبينه في عرق، ما معنى هذا؟ قيل: معناها أن المؤمن يشدد عليه النزع حتى يعرق جبينه.
وقيل: معناه أن المؤمن يعمل ويكدح، ويتطوع لله عز وجل حتى يأتيه الموت وهو لا يزال في عناء العمل ومشقته، فهذان قولان والحديث يحتملهما، وهما لا يتعارضان، وقد بيّنا مرارًا أن النص إذا كان يحتمل المعنيين ولا معارضة بينهما فإنه يحمل عليهما، فإن تعارضا طلب المرجح.
وعلى هذا فنقول: إن الحديث له معنيان، وربما يكون له معنى ثالث أيضًا وهو أن المؤمن يموت وهو في حياء وخجل من الله عز وجل والعادة أن الإنسان إذا صار عنده خجل وحياء تعرق جبينه، والكافر- والعياذ بالله- قلبه قاس ليس عنده خجل ولا حياء من الله- سبحانه وتعالى.
تلقين المحتضر الشهادة:
510 -
وعن أبي سعيدٍ ولأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقِّنوا موتاكم لا إله إلَّا الله)). رواه مسلمٌ والأربعة.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((لقنوا موتاكم)) معنى التلقين: أن الإنسان يقول الشيء ليتبعه غيره كما يلقن المدرس الطفل الصغير القراءة مثلًا، يقرأ ثم ذاك يتبعه، فالمعنى: قولوا: ((لا إله إلا الله)) من أجل أن يتبعوكم، وقوله:((موتاكم)) كلمة ((موتاكم)) يراد بها هنا: الذين هم في سياق الموت فهو باعتبار ما سيكون، والوصف قد يطلق على ما يتلوه إذا كان عاقبًا له مثل:{فإذا قرأت القرآن} [النحل: 98]. هل المعنى: إذا أنهيت قراءته، أو إذا أردت أن تقرأ بحيث تكون القراءة تالية لهذا؟ هذا هو المراد، فالوصف قد يوصف به من لم يتلبس به إذا كان قريبًا من ذلك، والموت يطلق على من أخذه سبب الموت كما في الحديث الذي نتلوه كل وقت هو:((أعود بك من فتنة المحيا والممات)).
وقوله: ((لا إله إلا الله)) هذه الجملة هي كلمة التوحيد، فما معنى ((لا إله إلا الله) أي: لا معبود حق يستحق أن يعبد إلا الله عز وجل، وليس معناها: أنه لا توجد آلهة سوى الله؛ لأن هناك آلهة كثيرة تعبد من دون الله سماها الله تعالى آلهة فقال: {فلا تدع مع الله إلاهًا آخر} [الشعراء: 213].
وقال: {فما أغنت عنهم ءالهتهم التي يدعون من دون الله من شيءٍ} [هود: 101].
وعلى هذا يتبين لنا أن النفي الموجود في ((لا إله إلا الله، أو النفي الموجود في قول الرسل لقومهم:{ما لكم من إله غيره} [الأعراف: 65]. أن المراد: من إله حق مستحق لذلك؛ فإنه لا أحد يستحق هذا إلا الله عز وجل.
وقوله: ((لا إله إلا الله)) اختلف العلماء لماذا لم يقل: ((لا إله إلا الله محمد رسول الله))؟ فقيل: لأن من أقر بالتوحيد فإنه مقر بالرسالة؛ لأن ألوهية الله عز وجل تقتضي لكمالها أن يكون محمد رسول الله، وقيل: إن المعنى: لقنوهم لا إله إلا الله محمد رسول الله، فحذف الثانية استغناء عنها بالأولى، ولكن ظاهر الحديث أنه لا حذف فيه، وأن من شهد أن لا إله حق إلا الله فإن هذه الشهادة تتضمن الإقرار بأن محمدًا رسول الله، ولهذا في حديث أسامة الذي لحق بالرجل المشرك فلما أدركه قال الرجل: لا إله إلا الله، فقتله أسامة رضي الله عنه، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال له:((قتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله)) قال: يا رسول الله، إنما قالها تعوذًا- يعني: يستعيذ من القتل- فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يكررها: ((قتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ )) حتى قال أسامة: تمنيت أن لم أكن أسلمت بعد، فهذا يدل على أن ((لا إله إلا الله)) إذا قالها الإنسان فهو مؤمن ثم يطالب بعد ذلك بلوازمها.
وقوله: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)) عرفنا معنى التلقين، وهذا الأمر ليس على سبيل الوجوب، وإنما على سبيل الاستحباب، إذ لم يعلم أن أحدًا من أهل العلم قال بوجوبه، ثم إن قوله:((موتاكم)) الضمير يعود على المسلمين، فيكون التلقين لمن مات من المسلمين، وأما الكفار فإنهم يؤمرون أمرًا يقال لهم: قولوا لا إله إلا الله، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه أبي طالب وقد حضرته الوفاة:((يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)).
قال أهل العلم: والفرق بين المؤمن والكافر: أن المؤمن لو أنك أمرته أمرًا فلربما اشمأز ونفر وكره ما قلت، وربما يقول: ما نبغي هذا نسأل الله العافية، أما الكافر فإنك إذا أمرته فإن قال ذلك فقد ربح، وإن لم يقل ذلك فهو خاسر من الأصل على كفره.
وقال بعض أهل العلم: بل يفرق بين الرجل الذي نرى أنه قد رجع وضاق صدره عند نزول الموت به وهو مؤمن، فهذا لا نقول: قل، ولكننا نلقنه لا إله إلا الله، نقول عنده هكذا: لا إله إلا الله، أما إذا كان قد انشرح صدره- لأن الناس يختلفون عند الموت- واطمأن فهذا لا بأس أن نقول له: قل لا إله إلا الله، أو اذكر الله أو ما أشبه ذلك؛ لأنه ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاد رجلًا من الأنصار فقال له:((قل لا إله إلا الله))، فعلى هذا القول يكون الأمر عائدًا إلى حال الميت وإلى اجتهاد الحاضر، فإذا لقنته لا إله إلا الله وقال ذلك فاسكت لا تكلمه بشيء؛ لماذا؟ حتى
يكون آخر كلامه لا إله إلا الله، فإن تكلم هو بشيء مثل: أعطوني ماء، أو ما أشبه ذلك فإنك تعيد تلقينه، فإذا لقنته ولم يقل: لا إله إلا الله فأعد التلقين مرة ثانية فإن ذكر الله فاسكت، وإن لم يذكر الله فأعد التلقين مرة ثالثة، فإن ذكر الله فذاك، وإن لم يذكر الله فقد قال العلماء لا يعيد تلقينه بعد الثالثة؛ لئلا يضجر لأنه في حالة لا يشعر بها إلا من أصابته؛ فلأجل ألا يضجر لا تعدها أكثر من ثلاث مرات، وينبغي أن يقال في هذه الحال، أنه ينظر في حال الميت، وربما يكون عندما قلت له مرتين أو ثلاثًا يكون في إغماء أو في شدة شديدة، فإذا أعدت عليه تذكر. فالحاصل في مثل هذه الأمور أن الإنسان الحكيم يعرف كيف يتصرف، ولكل مقام مقال، أحيانًا ربما نرى هذا المحتضر، يتحرك حركات شديدة ويتنهد نهدات عظيمة وربما يتضجر، وربما يقول: يا ويلتاه، وغير ذلك من الأشياء، فهذا لا بأس أن تقول له: اصبر، احتسب، انتظر الفرج من الله عز وجل وما أشبه ذلك، فالذي أراه في هذه المسألة أنها ترجع إلى ما تقتضيه الحال، ويستعمل الإنسان الحكيم ما يراه أصلح.
فيستفاد من هذا الحديث: مشروعية تلقين الميت، يعني: الذي حضره الأجل؛ لقوله: ((لقنوا)).
ويستفاد منه: أن هذا التلقين للموتى المسلمين، لقوله:((موتاكم))، أما غير المسلمين فيؤمرون كما عرفتم.
ويستفاد منه: فضيلة هذه الكلمة ((لا إله إلا الله)) بحيث يلقن بها الإنسان عند مفارقة الدنيا، وقد ورد في الحديث أن:((من كان آخر كلامه لا إله الله دخل الجنة)).
ويستفاد منه: أنه ينبغي أن يكون الناس متعاونين فيما بينهم على نفع بعضهم بعضًا؛ لأن هذا من مصلحة الميت وهي أيضًا من مصلحته، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:((لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم))، وربما إذا رفقت بهذا المحتضر ربما ييسر الله لك من يرفق بك عند احتضارك؛ لأن هذه الحال ستمر بك، فإذا رفقت بإخوانك المسلمين فقد ييسر الله لك إذا وصلت إلى هذه الحال.
* * *