المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النهي عن البناء على القبور وتجصيصها: - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٢

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌7 - باب صفة الصلاة

- ‌صفة الاستفتاح ومعانيه:

- ‌الاستعاذة ومعناها:

- ‌أوضاع منهي عنها في الصلاة:

- ‌مواضع رفع اليدين وصفته:

- ‌صفة وضع اليدين في القيام:

- ‌حكم قراءة الفاتحة:

- ‌هذه الروايات فيها فوائد:

- ‌أحكام البسملة:

- ‌شروط كون قول الصحابي حجة:

- ‌التأمين وأحكامه:

- ‌متى تسقط الفاتحة:

- ‌كيفية القراءة في الصلاة:

- ‌مقدار القراءة في صلاتي الظهر والعصر:

- ‌قدر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب والعشاء والفجر:

- ‌صفة القراءة في فجر الجمعة:

- ‌هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تدبر القراءة في الصلاة:

- ‌أذكار الركوع والسجود ومعانيها:

- ‌تكبيرات الانتقال وأحكامها:

- ‌أذكار القيام من الركوع ومعانيها:

- ‌هيئة السجود وأحكامه:

- ‌صفة الأصابع في السجود والركوع:

- ‌الجلوس في محل القيام وأحكامه:

- ‌الدعاء بين السجدتين:

- ‌حكم جلسة الاستراحة:

- ‌القنوت وأحكامه:

- ‌دعاء القنوت:

- ‌حكم تقديم اليدين قبل الركبتين للسجود:

- ‌صفة وضع اليدين في التشهد:

- ‌صيغ التشهد ومعانيها:

- ‌صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌الدعاء بعد التشهد وأحكامه:

- ‌صفة التسليم وأحكامه:

- ‌الأذكار دبر الصلوات ومعانيها:

- ‌وجوب تعلم صفة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌صلاة المريض:

- ‌8 - باب سجود السهو وغيره من سجود التلاوة والشكر

- ‌صفة سجود السهو:

- ‌السجود للسهو بعد السلام وحكمه:

- ‌حكم التشهد لسجدتي السهو:

- ‌حكم سجود السهو قبل الكلام:

- ‌السهو مبني على غلبة الظن:

- ‌سقوط سجود السهو:

- ‌حكم سهو الإمام والمأموم:

- ‌سجود التلاوة:

- ‌حكم سجود التلاوة:

- ‌أحكام سجود التلاوة:

- ‌بعض مواضع سجود التلاوة في القرآن:

- ‌حكم سجود القارئ والمستمع والسامع:

- ‌التكبير لسجود التلاوة:

- ‌9 - باب صلاة التطوع

- ‌السنن الرواتب:

- ‌فضل ركعتي الفجر:

- ‌النفل قبل العصر والمغرب:

- ‌التخفيف في ركعتي الفجر والاضطجاع بعدها:

- ‌قيام الليل:

- ‌صلاة الوتر:

- ‌صفات صلاة الوتر:

- ‌الحث على قيام الليل والوتر:

- ‌لا وتران في ليلة:

- ‌ما يقرأ في الوتر:

- ‌صلاة الضحى:

- ‌10 - باب صلاة الجماعة والإمامة

- ‌حكم صلاة الجماعة:

- ‌وجوب الحضور للجماعة في المسجد:

- ‌عدم سقوط الجماعة عن الأعمى:

- ‌صلاة المفترض خلف المتنقل:

- ‌حكم الصلاة قيامًا خلف إمام قاعد:

- ‌مراعاة حال المأمومين في الصلاة:

- ‌إمامة الصغير المميز:

- ‌يقدم في الإمامة الأكثر قرآنًا:

- ‌تسوية الصفوف والمقاربة بينها:

- ‌أفضلية الصف الأول للرجال:

- ‌صلاة المرأة والصغير خلف الإمام:

- ‌حكم صلاة المنفرد خلف الصف:

- ‌المشي إلى الصلاة بالسكينة والوقار:

- ‌استحباب الكثرة في الجماعة:

- ‌حكم إمامة المرأة لأهل دارها:

- ‌الدخول مع الإمام على أي حال أدركه:

- ‌11 - باب صلاة المسافر والمريض

- ‌حقيقة السفر ومعناه:

- ‌قصر الصلاة في السفر وحكمه:

- ‌مسائل مهمَّة:

- ‌الصلوات التي لا تقصر في السفر:

- ‌الفطر في السفر وحكمه:

- ‌عدد الأيام التي يجوز فيها القصر:

- ‌حكم الجمع بين الصلاتين في السفر:

- ‌حالات جمع التقديم والتأخير:

- ‌حالات الجمع بين الصلاتين في الحضر:

- ‌الصلوات التي لا يجمع بينها:

- ‌صلاة المريض وكيفيتها:

- ‌12 - باب صلاة الجمعة

- ‌التحذير من ترك الجمع:

- ‌وقت صلاة الجمعة:

- ‌العدد الذي تنعقد به الجمعة:

- ‌حكم إدراك ركعة من الجمعة:

- ‌حكم الخطبة قائمًا:

- ‌صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌استحباب طول الصلاة وقصر الخطبة:

- ‌قراءة سورة (ق) في الخطبة:

- ‌حكم تحية المسجد والإمام يخطب:

- ‌ما يقرأ في الجمعة والعيدين:

- ‌صلاة النفل بعد الجمعة وأحكامها:

- ‌حكم فصل الفريضة عن النافلة:

- ‌فضل الاغتسال والتطيب يوم الجمعة:

- ‌ساعة الإجابة يوم الجمعة:

- ‌استغفار الخطيب للمؤمنين:

- ‌حكم قراءة آيات من القرآن في الخطبة:

- ‌الذين تسقط عنهم الجمعة:

- ‌13 - باب صلاة الخوف

- ‌شروط صلاة الخوف:

- ‌الصفة الأولى لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الثانية لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الثالثة لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الرابعة لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الخامسة لصلاة الخوف:

- ‌14 - باب صلاة العيدين

- ‌حكم صلاة العيد في اليوم الثاني إذا ترك لعذر:

- ‌من السنة أكل تمرات قبل الخروج لعيد الفطر:

- ‌حكم خروج النساء لصلاة العيد:

- ‌مشروعية الخطبة بعد صلاة العيد:

- ‌صلاة العيد ركعتان بلا نفل:

- ‌صلاة العيد بلا أذان ولا إقامة ولا نفل:

- ‌صلاة العيد في المصلى:

- ‌التكبير في صلاة العيد:

- ‌قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد:

- ‌مخالفة الطريق والتكبير في الطريق:

- ‌15 - باب صلاة الكسوف

- ‌مشروعية صلاة الكسوف والدعاء فيها:

- ‌القراءة في صلاة الكسوف جهرًا:

- ‌صفة صلاة الكسوف:

- ‌الدعاء عند هبوب الريح:

- ‌حكم الصلاة للزلازل:

- ‌16 - باب الاستسقاء

- ‌صفة صلاة الاستسقاء والخطبة لها:

- ‌الدعاء في صلاة الاستسقاء:

- ‌تحويل الرداء في الاستسقاء والجهر بالقراءة:

- ‌مشروعية رفع اليدين في الاستسقاء:

- ‌أقسام التوسل وأحكامه:

- ‌ما يفعل عند هطول المطر:

- ‌الدعاء عند رؤية المطر:

- ‌مشروعية الاستسقاء في الأمم السابقة:

- ‌17 - باب اللباس

- ‌تحريم الزنا والخمر والغناء:

- ‌تحريم لبس الحرير والجلوس عليه:

- ‌مقار ما يباح من الحرير:

- ‌حكم لبس الحرير لعذر أو مرض:

- ‌إباحة الذهب والحرير للنساء والحكمة منها:

- ‌حبُّ الله عز وجل لرؤية أثر نعمته على عبده:

- ‌النهي عن لبس القسيِّ والمعصفر:

- ‌جواز كف الثياب بالحرير وضوابطه:

- ‌كتاب الجنائز

- ‌الترغيب في تذكر الموت:

- ‌كراهة تمني الموت:

- ‌تلقين المحتضر الشهادة:

- ‌حكم قراءة يس عند المحتضر:

- ‌تغميض الميت:

- ‌حكم تسجية الميت:

- ‌حكم تقبيل الميت:

- ‌الإسراع في قضاء دين الميت:

- ‌حكم تحنيط الميت المحرم:

- ‌حكم تجريد الميت عن تغسيله:

- ‌صفة الغسل:

- ‌تكفين الميت وأحكامه:

- ‌استحباب الكفن الأبيض:

- ‌استحباب إحسان الكفن:

- ‌هل يجمع بين الرجال في الدفن، ومن يقدَّم:

- ‌كراهة المغالاة في الكفن:

- ‌حكم الصلاة على المقتول في حد:

- ‌حكم الصلاة على قاتل نفسه:

- ‌حكم الصلاة على القبر:

- ‌الصلاة على الغائب:

- ‌موقف الإمام في الصلاة على المرأة:

- ‌حكم الصلاة على الميت في المساجد:

- ‌عدد التكبير في صلاة الجنازة:

- ‌قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة:

- ‌الدعاء للميت في صلاة الجنازة:

- ‌الدعاء للمسلمين في صلاة الجنازة:

- ‌الإخلاص في الدعاء للميت:

- ‌استحباب الإسراع بالجنازة:

- ‌فضل اتباع الجنائز والصلاة عليها:

- ‌النهي عن اتباع النساء للجنازة:

- ‌كيفية إدخال الميت القبر:

- ‌الميت يتأذى بما يتأذى به الحي:

- ‌اللحد والشق في القبر:

- ‌النهي عن البناء على القبور وتجصيصها:

- ‌حكم تلقين الميت عند القبر:

- ‌زيارة النساء للقبور:

- ‌جواز البكاء على الميت:

- ‌النهي عن الدفن ليلًا:

- ‌استحباب إيناس أهل الميت:

- ‌آداب زيارة القبور:

- ‌النهي عن سب الأموات:

الفصل: ‌النهي عن البناء على القبور وتجصيصها:

وثانيًا: أن التراب إذا كان بأصل الخلقة فإنه منكبس تمامًا، بخلاف ما إذا حفر فإنه يتفرق ويتفتت فلابد أن يرتفع هذا التراب الدفين عن التراب الأصلي، ولكن هل يضاف إليه شيء من تراب آخر؟ الجواب: لا، لأنه ورد النهي عن ذلك أن يضاف إلى القبر شيء من تراب آخر؛ ولأنه لو أضيف شيء لارتفع ارتفاعًا أكثر من المعتاد وصار في ذلك فتح ذريعة لأن تشيد القبور وترفع وتعلى، وقد قال علي رضي الله عنه لأبي الهياج:"ولا قبرًا مشرفًا إلا سوّيته".

‌النهي عن البناء على القبور وتجصيصها:

553 -

ولمسلمٍ عنه رضي الله عنه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصَّص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبني عليه".

قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم" النهي هو: طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة معينة خاصة وهي "لا" المقرونة بالفعل لمضارع، قولنا:"طلب الكف"، خرج به الأمر فليس نهيًا؛ لأن الأمر طلب الفعل، وقولنا:"على وجه الاستعلاء" خرج به الدعاء، وخرج به الالتماس؛ لأن الداعي يدعو لا على أنه أعلى من المدعو، بل على أنه أقل وأدنى مع أن الصيغة صيغة نهي، كقوله تعالى:{ربَّنا لا تؤاخذنا إن نَّسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. وخرج به أيضًا الالتماس وهو: أن يطلب الكف من مساوٍ له، فهذا يسمى عند أهل البلاغة: التماسًا، مثل أن يقول الزميل لزميله:"لا تكتب كذا" هذا يلتمس التماسًا، وخرج بقولنا:"بصيغة معينة هي المضارع المقرون بلا" خرج بذلك ما دل على النهي بصيغته التركيبية أو من حيث المادة، ما دل على النهي بمادته مثل: اجتنب، اترك، كف، هذا طلب ترك، لكن ليس بالصيغة المعينة فلا يكون نهيًا، لكن معناه نهي، إذن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم يعني: قال: "لا تفعلوا كذا".

فإن قلت: هل هذا من باب الصريح المرفوع صريحًا، أو من باب المرفوع حكمًا؟

قلت: هذا من باب المرفوع صريحًا؛ لأنه أضاف النهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما لو قال:"نهينا" أو "نهي الناس" لكان من المرفوع حكمًا.

ولكن قد يقول قائل: لماذا عدل الصحابي عن قوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجصصوا القبور"؟

قلنا: لعل الصحابي اختلطت عليه الصيغة المعينة التي نطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم فنقلها بالمعنى.

فإن قلت: إذا كان كذلك أفلا يمكن أن يكون الصحابي فهم النهي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه؟ هذا احتمال، لكن بعيد؛ لأن الصحابي يعلم اللغة العربية ويعرف ما يراد به النهي وما يراد به الخبر، وما يراد به الأمر، ولا يمكن أن يكون صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الملازمون

ص: 597

له لا يعرفون مدلول كلامه ولا يفرقون بين النهي والخبر أو بين النهي والأمر، هذا شيء مستحيل، فقرينة الحال تمنع ذلك.

قوله: "أن يجصص القبر" أي: أن يوضع فيه الجص أو عليه، سواء كان فيه أو عليه فلا يجصص اللحد، ولا يوضع الجص أيضًا على ظاهر القبر لما في ذلك من الغلو في المسألة الأولى، ومن ذريعة الشرك والكفر في المسألة الثانية؛ لأنه إذا جصص القبر ظاهرًا تطاول الناس في هذا وتسابقوا أيهم أحسن شكلًا، فهذا يقول: أنا أريد أن يكون قبر أبي أحسن القبور التي حوله، والثاني يقول ذلك، حتى يتباهى الناس في القبور ثم يؤدي ذلك إلى الشرك، والشرك كما قلنا سابقًا؛ لذا وضع النبي صلى الله عليه وسلم كل الحواجز التي تحجز الوصول إليه.

كذلك "نهى أن يقعد عليه يعني: إذا كان فيه ميت، وكلمة "عليه" تدل على العلو، وهذا لا يكون إلا بعد الدفن، فالقعود على القبر يعني: بعد دفنه منهي عنه.

الثالث: "أن يبنى عليه" يعني: أن يوضع عليه بناء سواء أكان هذا البناء شامخًا أم قصيرًا جميلًا أم غير جميل عام- "أن يبنى عليه"-، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين النهي عن الغلو في القبور وعن إهانة القبور، ليكون الإنسان سائرًا نحو هذه القبور بين الغلو والإهانة، يكون متوسطًا، ولهذا في القعود عليه إهانة له، وفي تجصيصه والبناء عليه غلو فيه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الطرفين، فالواجب علينا إذن: أن نعامل هذه القبور بما تقتضيه.

قوله: "نهى" يستفاد منه: تحريم تجصيص القبر، يؤخذ ذلك من النهي، والأصل في النهي التحريم حتى يقوم دليل يصرفه عن التحريم، وأيضًا فإن تجصيصه ذريعة للغلو فيه المفضي إلى عبادة من فيه، وما أفضى إليه المحرم أو كان ذريعة له كان محرمًا.

ومن فوائد الحديث: تحريم الجلوس على القبر؛ لقوله: "وأن يقعد عليه"، وهو حرام، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتمضي إلى جلده خير له من أن يجلس على القبر"، وهذا يدل على غلظ التحريم فيه.

ومن فوائد الحديث: النهي عن البناء على القبر لقوله: "وأن يبنى عليه"، فماذا نصنع لو أن الأمر وقع بأن بني على قبر وجصص؟ تجب إزالته حالًا المحرم لا يجوز إقراره، وعلى هذا فيجب على المسلمين أن يهدموا جميع القباب المبنية على القبور، يجب وجوبًا؛ لأنه بناء محرم نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز إحداثه، ولا يجوز إقراره عند القدرة على إزالته.

فإن قلت: لو أن أحدًا بنى على القبر حماية له ادّعى أن يبني عليه حماية له.

ص: 598

نقول: إن حمايته تمكن بدون ذلك، بأن يوضع سور عام على المقبرة، أو إذا كان يخشى أن ينبش فإنه يسوّى بالأرض؛ ولهذا قال العلماء: إذا مات أحد من المسلمين في بلاد الكفر وخيف عليه من النبش فإنه يسوى بالأرض ولا يبرز القبر خوفًا عليه، فإذا كان الإنسان يخاف على صاحب القبر فهذا الخوف يزول بطريق آخر غير البناء عليه، وإلا فإن البناء محرم.

ويستفاد من هذا الحديث: اعتبار الوسائل، وأن الوسائل لها أحكام المقاصد، وهذه القاعدة قاعدة شرعية معتبرة عند أهل العلم ولها أدلة كثيرة منها هذا الحديث، ومنها قوله تعالى:{ولا تسبُّوا الَّذين يدعون من دون الله فيسبُّوا الله عدوا بغير علمٍ} [الأنعام: 108]. لأنه لما كان سب آلهتهم ذريعة إلى سب الله نهى الله عنه، فيستفاد منه: أن الوسائل لها أحكام المقاصد.

فيستفاد من الحديث: سد الشارع كل طريق يوصل إلى الشرك ولو من طريق بعيد، يؤخذ من النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه.

ويستفاد من الحديث: تحريم امتهان القبور؛ لقوله: "وأن يقعد عليه"، ومن امتهانها: أن يبول أو يتغوط عليها أو بينها؛ ولهذا قال أهل العلم: يحرم البول بين القبور وعلى القبور، وكذلك التغوط؛ لأن في ذلك امتهانًا لها وهي قبور محترمة، وهل يؤخذ منه مبدأ حماية المقبرة؟ ربما يؤخذ، وإن كان من الممكن أن يقول قائل: لم تكن المقابر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم محوّطة، فيقال: إن حمايتها ليست منهيًّا عنها وهي وسيلة إلى حفظ هذه القبور من الامتهان؛ لأن القبور إذا لم تكن محوطة ربما ينتهبها الناس، وربما يعتدون على أرضها أيضًا ويلحقونها بأملاكهم.

554 -

وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى على عثمان بن مظعونٍ، وأتى القبر، فحثى عليه ثلاث حثياتٍ وهو قائمٌ". رواه الدَّارقطنيُّ.

عثمان بن مظعون رضي الله عنه من المهاجرين، ومات بعد أن شهد بدرًا في السنة الثانية، قال المؤرخون: وهو أول من مات من المهاجرين في المدينة، وأول من دفن في البقيع من المهاجرين رضي الله عنه، وهاجر إلى الحبشة ورجع منها لما قيل: إن قريشًا أسلموا، وتوفي بالمدينة وشهد النبي صلى الله عليه وسلم جنازته وجعل عليه حجرًا قال:"أدفن إليه من مات من أهله"، وهذا يدل على أن عثمان له منزلة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا حثا على قبره ثلاث حثيات وهو قائم، بيد واحدة أو بيديه جميعًا؟ ورد في بعض الأحاديث أن ذلك بيديه جميعًا. وهذا الحديث ضعيف لكن له

ص: 599

شواهد تدل على أن له أصلًا، وأنه ينبغي لمن حضر الدفن أن يحثو عليه ثلاث مرات من أجل أن يشارك في الدفن؛ لأن دفن الميت فرض كفاية، فإذا شاركتهم ولو بهذا الجزء اليسير كنت مشاركًا في الدفن الذي هو فرض كفاية.

وقوله: "وهو قائم" هـ هذه الصفة طردية، أو صفة مقصودة؟ الطردي: هو الذي حصل اتفاقًا، وإذا قلنا: إنها صفة مقصودة فإنه يكون الذي يحثو قائمًا لا قاعدًا ومن المعلوم أنه عندما يريد أن يحثو لابد أن ينزل يديه وينحني، ولكن هذا لا ينافي أن يكون قائمًا، المهم: أنه يحثو بدون أن يجلس.

استغفار الحي للميت بعد الدفن:

555 -

وعن عثمان رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميِّت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التَّثبيت، فإنَّه الآن يسأل". رواه أبو داود، وصحَّحه الحاكم.

قوله: "كان .... إلخ" يحتمل أن يكون هذا في دفن باشره النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن نقول:"إذا فرغ" يعني: فرغ الناس؛ لأنهم يدفنون بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الشيء بأمره صار كأنه هو الفاعل.

وقوله: "وقف عليه" كيف ذلك وقد مر علينا النهي عن القعود على القبر؟ وقف عليه يعني بجانبه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن توطأ القبور ولكن بجانبه، ولم يحدد في الحديث أين كان الموقف، ولكن الذي يظهر أنه يكون عند رأسه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقف في الصلاة عند رأس الرجل وعند وسط المرأة، لكن الوسط هنا بالنسبة للمرأة قد زال سببه، فيقف عند رأسه ولا يزاحم إذا تيسر وإلا فعند وسطه أو عند قدميه، المهم: أن يقف عنده.

وقال: "استغفروا لأخيكم" أي: اسألوا له المغفرة، وما هي المغفرة؟ ستر الذنب والتجاوز عنه، وما صورة ذلك؟ أن نقول:"اللهم اغفر له" بدليل قوله تعالى: {والَّذين جاءوا من بعدهم يقولون ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الَّذين سبقونا بالإيمان} [الحشر: 10]. وبدليل قوله تعالى: {الَّذين يحملون العرش ومن حوله يسبِّحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للَّذين آمنوا ربَّنا وسعت كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا} ، هذه صيغة دعائهم:{فاغفروا للَّذين تابوا} [غافر: 7]. وعلى هذا فالاستغفار للشخص أن تقول: "اللهم اغفر له"، ولو قلت:"أستغفرك اللهم ربي لفلان" يجوز؛ لأنه طلب المغفرة، لكن الصيغة الأولى أولى.

ص: 600

قال: "واسألوا له التثبيت" يعني: اسألوا أن يثبته الله عز وجل، وعلل هذا الحكم بقوله:"فإنه الآن يسأل"، بعد أن يفرغ من دفنه يسأل، ولم يبيّن النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله، لكنه بين في أحاديث أخرى، وهو أنه:"يأتيه ملكان فيسألانه"، وما هو المسئول عنه؟ يسألانه عن أمور ثلاثة: عن ربه، ودينه، ونبيه.

من فوائد الأحاديث التي مرت علينا: إثبات السؤال في القبر، الدلالة ليست واضحة لكن من أجل شواهدها، ممكن أن نقدم عليها ونقول: إن السؤال لابد أن يكون له نتيجة وإلا لم يكن للسؤال فائدة.

يستفاد من حديث عامر بن ربيعة: أنه ينبغي قصد القبر ليحثو عليه لقوله: "وأتى القبر فحثى".

ومن فوائده: أنه إذا كان يحثو لا يكون قاعدًا، بل يكون قائمًا لئلا ينسب إلى كونه مصابًا بهذه المصيبة كالجاثي على ركبتيه؛ لأن الإنسان إذا أتاه ما يفزعه أو أصيب بمصيبة حثا على ركبتيه، فهذه العادة لكن هذا يحثو وهو قائم ولا يجثو.

ومن فوائده أيضًا: إثبات الصلاة على الميت لقوله: "صلى على عثمان".

ومن فوائده أيضًا: أن الشيء المعلوم المتواتر عند الناس لا يحتاج إلى بيانه في كل نص، فهنا "صلى" قد تقول: كيف الصلاة؟ فيقال: إنها معلومة فلا يحتاج إلى أن يبين في كل نص كيفية هذه الصلاة التي وقعت الآن مجملة، وإلا لكانت النصوص ملء الدنيا كلها.

وأما حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه ففيه: جواز طلب الدعاء لأخيك المسلم لقوله: "استغفروا لأخيكم"، ولكن هل هو مقيد بمثل هذه الحال، أو نقول: يجوز في كل مكان مثل أن تقول: لشخص: فلان أخوك مريض ادع الله له بالشفاء؟ يحتمل أن يكون مقيدًا بمثل هذه الحال؛ لأننا لم نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل مثل هذا السؤال في غير هذا المكان، ويحتمل أن يقال: إنه لما طلب من المسلمين أن يستغفروا له في هذا المكان دلّ هذا على أن الأصل عدم المنع، وأما طلب الإنسان الدعاء لنفسه، بمعنى: أن تطلب من شخص أن يدعو لك فالأولى ألا تفعل؛ لأنه قد يكون داخلًا في قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بايع عليه أصحابه: "ألا يسألوا الناس شيئًا".

ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ينبغي إذا سأل الدعاء من شخص لنفسه أن يقصد بذلك مصلحة الداعي قصدًا أوّليًا لا مصلحة نفسه، هو كيف ذلك؟ لأن أخاك المسلم إذا دعا لك بظهر الغيب قال له الملك: آمين، ولك بمثل؛ ولأنك إذا قصدت هذا فقد قصدت الإحسان إليه لا سؤاله أن يحسن إليك، وبينهما فرق.

ص: 601

وعلى كل حال: فهذه المسألة الأصل عدمها؛ ولهذا ما كان الصحابي كل واحد يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: ادع الله لي إلا لسبب من الأسباب، كما قال عكاشة بن محصن:"ادع الله لي"، فإذا كان لسبب فهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء، وكذلك أيضًا إذا كان لعموم المسلمين، كسؤال النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء بالمطر بالغيث فهذا لا بأس به؛ لأنك لا تسأل الناس لك، ثم إننا لابد أن نلاحظ ألا يسأل الإنسان الدعاء لنفسه على وجه التذلل للمسئول، كما يفعله بعض من يعتقدون الولاية في أناس، فيأتي كأنه عبد ذليل ربما يخضع له كما يخضع لله عز وجل ويقول: يا سيدي، ادع الله لي، فهذا يكون حرامًا من أجل ما يقترن به من الذل للمخلوق كذلك أيضًا نلاحظ عندما نسأل غيرنا ألا يكون في ذلك ضرر على المسئول، بحيث يؤدي ذلك إلى الإعجاب بنفسه، وأنه أهلٌ لأن يطلب منه الدعاء، فيظن أنه من أولياء الله الذين تجاب دعوتهم، كل هذه المسائل تجب ملاحظتها.

والأفضل على كل حال: ألا تسأل مهما كان الذي يقابلك مما يكون في نظرك من صلاحه.

ويستفاد من الحديث: الدعاء عند الفراغ من الدفن مباشرة؛ لقوله: "الآن" و"الآن" معروف أنه: ظرف للوقت الحاضر، ومثل ذلك لو أن أحدًا من الناس توفي وبقي في الثلاجة لمدة أيام فإنه لا يسأل حتى يدفن، فإنه لم يكن دفن كما لو مات في البحر فإنه سوف يدفن في البحر:

قال العلماء: يضع في رجليه شيئًا ثم يلقيه في البحر حتى ينزل، كذلك لو فرض أن رجلًا مات في صحراء ولم يمكن نقله ولا الحفر له ووضع عليه أحجار فإن ذلك بمنزلة الدفن، والمهم: أن الأحياء إن أسلموا الميت ورأوا أنهم قد انتهى عملهم فيه فإن هذا بمنزلة الدفن، يكون السؤال حينئذ.

ومن فوائد الحديث: أن الإنسان في هذه الحال قد يثبت بدعوة إخوانه المسلمين له، يؤخذ من أمره صلى الله عليه وسلم بالاستغفار والتثبيت، وإلا لكان الأمر بذلك لغوًا لا فائدة منه، وفي الحديث دليل على أن الاستغفار والتثبيت، وإلا لكان الأمر بذلك لغوًا لا فائدة منه، وفي الحديث دليل على أن الاستغفار سبب لفتح الله على العبد سواء كان ذلك في عبادة أو في علم؛ لقوله:"استغفروا لأخيكم"، ويشير إلى هذا قوله تعالى: {إنَّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقِّ لتحكم بين النَّاس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا (105) واستغفر الله

} [النساء: 105، 106]. فإن في هذه الآية إشارة إلى أن الاستغفار سبب لإصابة الصواب، ولهذا كان بعض العلماء إذا وردت عليه مسألة صار يستغفر الله، والمناسبة في هذا ظاهرة؛ لأن الذنوب رين على القلوب، والاستغفار سبب لإزالة ذلك وتطهير القلوب منها، فإذا زال الرين حصل البيان، والدليل على أن الذنوب تحول بين المرء وبين رؤية الحق قوله تعالى:{إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأوَّلين (13) كلَّا بل ران على قلوبهم}

ص: 602

[المطففين: 13، 14]. فلم يعفوا الحق- والعياذ بالله- ولم يعرفوا قدر هذا القرآن العظيم؛ لأن قلوبهم قد ران عليها ما كانوا يكسبون، فالذنوب كلها شر، كلها آثام، كلها بلاء، يحصل فيها من العقوبات العامة والخاصة ما هو ظاهر، ولو لم يكن من ذلك إلا قوله تعالى:{ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي النَّاس} [الروم: 41]. ومن أراد أن يعرف آثار الذنوب وعقوباتها فليقرأ كتاب ابن القيم المعروف بـ"الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي"، فإنه ذكر في أول هذا الكتاب عقوبات عظيمة للذنوب وآثارها في المجتمع وفي الشخص نفسه.

يستفاد من هذا الحديث: إثبات الأخوة بين المسلمين لقوله: "استغفروا لأخيكم"، وهو كذلك، وأقوى رابطة بين بني آدم هي الرابطة الإيمانية والأخوة الإسلامية هذه أقوى رابطة، أقوى حتى من النسب، أقوى من كل شيء، انظر إلى قوله تعالى:{الأخلاء يومئذ} يوم القيامة {بعضهم لبعضٍ عدوٌّ} كل خليل عدو لخليله {إلَّا المتَّقين} [الزخرف: 67]. فالتقوى هي الجامع التي تجمع بين الرجلين في الدنيا وفي الآخرة، خليلك في الدنيا هو خليلك في الآخرة إذا كانت الخلة لله وسببها التقوى.

ويستفاد من هذا الحديث: أن الدعاء في هذه الحال يكون في حال القيام لقوله: "وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم".

بقي أن يقول قائل: هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل؟ هل يستغفر ويدعو بالتثبيت؟ الظاهر: أنه كان يقول ويفعل، ولكنه يقول لينبه الناس إلى أن يقولوا، ويكون حينئذٍ قولنا:"الآن" امتثالًا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم لا لمجرد التأسي، لو كان يقول هكذا ويسمع الناس ويقتدون به صار اقتداء به لمجرد التأسي، لكن إذا قال: افعلوا؛ صار فعلنا لها امتثالًا للأمر، وهذا أقوى من مجرد التأسي.

ومن فوائد الحديث: أن فيه آية للرسول صلى الله عليه وسلم، كيف ذلك؟ لقوله:"فإنه الآن يسأل"؛ لأن هذا من أمر الغيب، ما تعلم ماذا يكون للميت بعد موته إلا عن طريق الوحي أو شيئًا يطلع الله تعالى عليه العباد للعبرة والعظة أو للكرامة وما أشبه ذلك، وإلا فالأصل أن هذا أمر مغيب لا يعلم إلا عن طريق الوحي، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم يؤكد لنا ذلك بقوله:"فإنه الآن يسأل" لا شك أنه دليل على أنه نبي الله حقًا ورسوله حقًا لعلمه بما لا نعلمه.

ويستفاد منه أيضًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك لغيره نفعًا ولا ضرًّا، وإلا لما سأل ولما دعا كما هو ظاهر الحديث؛ لأنه سأل ودعا، وهذا أمر معلوم يجب علينا أن نؤمن به أي: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك لنا ولا لنفسه نفعًا ولا ضرًّا؛ لأن الله أمره أن يبلغ هذا لأمته: {قل لَّا أقول لكم عندي خزائن الله} [الأنعام: 50]. {قل لَّا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا إلَّا ما شاء الله} [العراف: 188]. {قل إنِّي لا أملك لكم ضرًّا ولا رشدًا} [الجن: 21]. فيجب علينا أن نؤمن بهذا؛ لأن الله أمر رسوله أن يبلغه.

ص: 603