الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كل الأحاديث التي فيها لا تخلو من مقال وضعف، لكن فيها حديث المغيرة وهو لا بأس به، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الراكب خلف الجنازة والماشي حيث يشاء منها". فجعل الماشي مخيرًا يكون أمامها، خلفها، عن اليمين، عن الشمال، أما الراكب فيكون في الخلف؛ لماذا؟ لئلا يعيق الناس عن المشي؛ لأن الدابة ربما تحزن، وربما تهون المشي فيعيق الناس، ثم لو قلنا له: ينبغي لك أن تتقدم وكان في مؤخر الناس لزم من هذا أن يؤذيهم بالعبور من عندهم، فلهذا صار المشروع أن يكون خلفها.
والظاهر لي في هذه المسألة: أن الأمر فيها واسع، يكون الإنسان أمامها، يكون خلفها يكون عن يمينها، يكون عن شمالها، أما الذي يريد أن يحمل فأمره ظاهر لابد أن يكون قريبًا منها من أي اتجاه، لكن الكلام على من يمشي أمامها قد يقال: إن هذا فعل وقضية عين، رأوا أن الأنسب في تلك القضية بعينها وما دام حديث المغيرة لفظه يقول: الماشي حيث شاء منها فإن اللفظ له مدلول عام، فيكون أولى بالإتباع.
فنقول: من أراد أن يمشي أمامها فعل، أو خلفها فعل، أو عن يمينها فعل، أو عن شمالها فعل، لكن أحيانًا يكون الإنسان لا يستطيع أن يمشي أمامها فهنا يمشي خلفها؛ لأنه يتعب، وأحيانًا يرى الإنسان أنهم يسرعون فيه إسراعًا كثيرًا فيجب أن يمشي أمامهم لأجل أن يخفف من هذا الإسراع لا سيما إذا كان له كلمة بحيث يقول: لا تشقوا على الناس أو ما أشبه ذلك، فما دام الأمر موسعًا فلينظر الإنسان إلى المصلحة ويتبعها.
النهي عن اتباع النساء للجنازة:
545 -
وعن أمِّ عطيَّة رضي الله عنها قالت: "نهينا عن اتِّباع الجنائز، ولم يعزم علينا". متَّفقٌ عليه.
أم عطية من نساء الأنصار، وكانت رضي الله عنها ممن يغسل الأموات من النساء، ولها أحاديث كثيرة، تقول:"نهينا عن كذا" فإنه يحمل على أن الناهي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي له الأمر والنهي في عهد الصحابة- رضي الله عنهم، ولا سيما إذا كانت المسألة من الأمور الشرعية التي لا تصدر إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأهل العلم يقولون: إن الصحابي إذا قال: "أمرنا" أو "نهينا" فإنه يحمل على الرفع، حتى لو جاء أحد من الناس، وقال: هذا ليس صريحًا في الرفع.
نقول: هنا ليس بصريح لكنه ظاهر فيه، والاعتماد على الظاهر وغلبة الظن في الأحكام الشرعية أمر جاء به الشرع، وعلى هذا فنقول: إننا نحمله على الظاهر، فما هو الظاهر الذي حملناه عليه؟ قلنا: إن الأمر والنهي في عهد الصحابة لمن؟ للرسول صلى الله عليه وسلم، لا سيما في الأمور التعبدية الشرعية.
قولها: "نهينا عن اتباع الجنائز" هذه المسألة غير زيارة القبور، اتباع الجنائز: يعني: أن تخرج المرأة مع الجنازة، واتباع المرأة للجنائز على نوعين:
النوع الأول: أن تتبع الجنازة إلّى المصلى وتصلي عليها وتنصرف، فيكون القصد هو الصلاة على الميت.
والثاني: أن تشيع الجنازة وتتبعها إلى المقبرة، وتدخل المقبرة فهذا أشد من الأول من حيث النهي؛ لأن هذا يستلزم زيارة المرأة المقبرة، وزيارة المرأة للمقبرة على الصحيح محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور.
ولكن قد يقول قائل: إذا خرجت مع الجنازة لا لقصد الزيارة فهل تدخل في اللعن؟ سبق لنا أنه إذا كانت المرأة لم تقصد الزيارة فإنها لا تدخل في اللعن، وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها ماذا تدعو به لأصحاب القبور.
وقولها رضي الله عنها: "ولم يعزم علينا" استفدنا منه أمرين:
الأمر الأول: أنها رضي الله عنها فهمت أن هذا النهي ليس على سبيل العزيمة، وعلى هذا فيكون للكراهة فقط.
والأمر الثاني الذي استفدناه من هذا التعبير: أن المنهيات نوعان: عزيمة وغير عزيمة، وعلى هذا فليس كل نهي للتحريم على الإطلاق، وإنما يكون النهي أحيانًا للتحريم وأحيانًا للكراهة، وهذا هو الذي مشي عليه أهل العلم، إلا أنهم قالوا: إن الأصل في النهي التحريم، لكنهم لم يقولوا: إن النهي لا يأتي للكراهة أبدًا، بل قد يكون للكراهة وقد يون للتحريم، وهذا التقسيم الذي أشارت إليه أم عطية يدل على ذلك عزيمة وغير عزيمة، فإن كان عزيمة وجب اجتناب المنهي عنه وإن لم يكن عزيمة لم يجب، لكنه يطلق عليه أنه مكروه أو أنه منهي عنه.
وقولها: "ولم يعزم علينا" يدل على أن اتباع الجنائز للنساء ليس محرمًا، يؤخذ من قولها:"ولم يعزم"، والراوي أدرى بما روى، ولا يمكن أن تقول:"نهينا ولم يعزم" إلا وعندها من القرائن ما يفيدها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد بالنهي العزيمة.
ولهذا تنازع بعض أهل العلم في قولها: "ولم يعزم علينا"، وقال: إن هذا منها وفهم لها، وفهمها لا يكون حجة على ما يقتضيه النهي، فما دامت أثبتت النهي فإننا نحن نأخذ بما أثبتت، أما قولها:"ولم يعزم" فهذا مبني على فهمها، وفهمها قد يكون صوابًا وقد يكون خطأ كغيرها، على أنه في بعض الروايات:"نهينا عن إتباع الجنائز"، ولم تذكر:"ولم يعزم علينا"، قالوا: وهذا هو المحفوظ "نهينا عن إتباع الجنائز"
وعلى كل حال: فهذا الحديث محل تردد ونظر: هل نأخذ بقولها: "ولم يعزم علينا" لأنها راوية الحديث وأعلم بمدلوله، ولابد أن عندها من القرائن ما أخرج النهي من العزيمة، وهي صحابية ثقة عارفة بمدلول اللسان العربي وعارفة بالأحكام الشرعية؟ هذا احتمال أن نقول: إن النهي وكونه عزيمة أو غير عزيمة الأصل فيه أنه عزيمة هذا الأصل، وعلى هذا فيكون النهي للتحريم، أما أن يقال: إن قولها: "لم يعزم علينا" بالنهي وأنه بعد أن نهينا، يعني: رخص لنا، فهذا يأباه اللفظ غاية الإباء، ولا يدل على أن المرأة يباح لها أن تتبع الجنازة، وما استدلوا به من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في جنازة وكان معه امرأة فصاح بها عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"دعها"، فهذا الحديث إن صح فإنه يكون قبل النهي؛ لأن النهي ناقل عن الأصل، وإذا تعارض حديثان فإنه يرجح ما كان ناقلًا عن الأصل؛ لأن الأول مبتن عليه وهو الأصل، فإذا جاءنا ما ينقل عنه دل هذا على أنه حكم متجدد والأول على أصل البراءة.
يستفاد من هذا الحديث: أولًا: نهي النساء عن إتباع الجنازة لقولها: "نهينا عن إتباع الجنائز".
ومن فوائده: أن هذا أصل من الأصول التي يعرف بها أن الشارع يفرق في الأحكام بين الرجال والنساء، وأن التفريق بين الرجال والنساء في الأحكام له أصل في الشرع، هذه المرأة تنهى عن إتباع الجنائز، والرجل يؤمر بإتباع الجنائز، بل جعله الرسول صلى الله عليه وسلم من حقوق المسلم على المسلم.
وهذا يتفرع عليه فائدة: وهي حكمة الشارع في التشريع حيث ينزل كل أحد في التشريع بما يليق به، فلما كانت المرأة ليست أهلًا للتشييع- لما يخشى من تشييعها من الفتنة ومن عدم الصبر حتى تبكي وتنوح- نهاها الشارع، وأما الرجل فلقوته وجلده وصبره أمره الشارع بأن يتبع الجنازة.
ومن فوائد الحديث: أن النهي ينقسم إلى: عزيمة وغير عزيمة؛ لقولها: "نهينا ولم يعزم علينا".
ومن فوائده: أن النهي عند الإطلاق عزيمة، ولو كان عند الإطلاق ليس عزيمة لم يحتج إلى قولها:"ولم يعزم علينا" وهو كذلك.
ومن فوائد الحديث: أن الصحابي قد يعدل عن اللفظ الصريح لنكتة، وهو قولها:"نهينا" دون أن تقول: نهانا.
فإن قال ذلك تابعي، قال: نهينا، أو أمر الناس، أو ما أشبه ذلك، فقيل: إنه موقوف، وقيل: إنه مرفوع مرسل، وعلى كلا التقديرين لا حجة فيه لأنه إن كان موقوفًا فهو من قول الصحابي أو فعله، وإن كان مرفوعًا مرسلًا ففيه ضعف من أجل الانقطاع- سقوط الصحابي-.
حكم القيام للجنازة:
546 -
وعن أبي سعيدٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع". متفقٌ عليه.
قوله: "إذا رأيتم فقوموا" الجملة شرطية، ولكن أداة الشرط فيها غير جازمة، وجواب الشرط.
قوله: "فقوموا""إذا رأيتم" يعني: رؤية عين، "فقوموا" وإن لم تحاذكم بمجرد ما ترونها فقوموا، إلى متى؟ ما بين في هذا الحديث، ولكنه بين في حديث آخر حتى تجاوز الإنسان، ثم إذا قام فإن شاء تبع وإن شاء لم يتبع، ولهذا قال بعدها:"فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع"، "من تبعها" يعني: من قام وتبعها لما مرت به فلا يجلس حتى توضع على الأرض مدة، فإن وضعت في اللحد مباشرة فحتى توضع في اللحد، والحكمة من ذلك: تنبيه النفس على هذا الأمر الذي هو مآل كل حي وهو الموت، ولهذا علله النبي صلى الله عليه وسلم بأن الموت فزع، فلا ينبغي أن تمر بك الجنازة وأنت قاعد على حديثك كأن شيئًا لم يكن، كما يرمي إليه أهل الكفر الذين يريدون أن ننسى الاتعاظ بالموت، حتى قال بعض الناس: إن أصل هذا الحفل بالسيارات والأبهة وما أشبه ذلك إن أصله كان من الغرب يريدون بذلك أن يشتغل الناس عن ذكر الموت بهذه الحال، وكذلك أيضًا لها علة أخرى وهي أنها نفس، والنفس مخلوقة لله عز وجل، وقد كانت الآن منفصلة عن بدنها فكان لها نوع من الاحترام أو الإكرام، وورد أيضًا أن معها ملكًا.
وكل هذه الأشياء لا ينافي بعضها بعضًا؛ إذ يجوز تعدد العلل لمعلول واحد كما يثبت الشيء بعدة طرق، الحد يثبت بشهادة الشاهدين وبإقرار المشهود عليه وبوجود الشيء عنده، لو ادعيت على شخص أنه سرق مني كذا، أو كذا أو أنه جحد لي كذا وكذا ووجدناه عنده وأقر به هو وأتيت بشاهدين بكم طريق كان إثباته؟ ثلاث طرق، فتعدد الأدلة جائز؛ لأنه يزيد الشيء
تقوية، فهذه العلل التي جاءت بها الأحاديث في الأمر بالقيام للجنازة لا ينافي بعضها بعضًا، والمهم: أنك تقوم إذا رأيت الجنازة.
وقوله: "فقوموا"، هل هذا الأمر للوجوب؟ الأصل في الأمر الوجوب، فيقتضي أنه يجب علينا أن نقوم إذا رأينا الجنازة، لكن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام ثم قعد، وهذا يدل على أن الأمر ليس للوجوب، ولكن هذا الحديث "قام ثم قعد" لا يدل على أن الحكم نسخت مشروعيته؛ لأن من شرط النسخ عدم إمكان الجمع بين الدليلين، فإن أمكن الجمع وجب، ولا يجوز أن نلجأ إلى النسخ؛ لأن النسخ معناه: إبطال دلالة أحد الدليلين، وهذا لا يجوز إلا بأمر لابد لنا منه.
وقوله: "ومن تبعها فلا يجلس حتى توضع"، لما في ذلك من الاحترام للميت؛ ولأن الميت إذا تبع كان إمامًا، والإمام لا يتخلف الإنسان عنه كالإمام في الصلاة نتابعه، كذلك هذه الجنازة التي نمشي بها، نحن تبعناها فلا نجلس؛ لأن هذا ينافي المتابعة، وينافي أن تكون الجنازة إمامًا لمتبعيها؛ ولهذا قال العلماء: إنه يكره الجلوس لمن تبعها حتى توضع في الأرض للدفن، وأما إذا وضعت لسبب آخر كما لو وضعوها في الأرض لإصلاحها، مثلًا مالت إلى جانب من النعش فإنهم لا يجلسون وإنما يصلحونها، ثم يحملونها ويمشون، لكن إذا وضعت في الأرض للدفن فحينئذ يجوز الجلوس؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس حين انتهى إلى قبر رجل من الأنصار، ولما يلحد جلس صلى الله عليه وسلم وجلس حوله أصحابه كأن على رءوسهم الطير، وفي يده مخصرة ينكت بها الأرض فحدثهم عن حال الإنسان عند الموت وبعده وعند دفنه حديثًا يعتبر موعظة، فهذا يدل على أنها لو وضعت على الأرض للدفن لانتهى النهي.
وقوله: "لا يجلس حتى توضع""حتى" هنا للغاية، الفرق بين حتى الغائية وحتى التعليلية: أنه إذا كان يحل محلها "اللام" فهي تعليلية، وإن كان يحل محلها "إلى" فهي غائية، وكلاهما ينصب الفعل المضارع، قوله تعالى:{قالوا لن نَّبرح عليه عاكفين حتَّى يرجع إلينا موسى} [طه: 91]. "حتى" هنا غائية، {فقاتلوا الَّتي تبغي حتَّى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات: 9]. تصلح أن تكون غائية وتصلح أن تكون تعليلية يعني: قاتلوها إلى أن ترجع، أو قاتلوها لأجل الرجوع.
يستفاد من هذا الحديث: مشروعية القيام للجنازة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به، ولولا أنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قام وقعد لقلنا: إن الأمر للوجوب، واعلموا أن كلمة "مشروعية" صالحة للوجوب وللاستحباب؛ ولهذا إذا قالوا: يشرع كذا؛ فلا نقول: إنه سنة أو واجب؛ لأنه صالح لهما جميعًا، إذ إن السنة مشروعة، وكذلك الواجب مشروع، إذن نقول: مشروعية القيام للجنازة إذا رؤيت.