الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرجال، فإذا لم يوجد رجل- فيما لو كان الواجب أن يباشر التغسيل رجال- مثلًا: مات رجل بين نساء فماذا نصنع؟ يقول الفقهاء: إنه ييمم فيضرب الإنسان يديه على الأرض، ويمسح بهما وجه الميت وكفيه. وقال بعض العلماء: بل يغسله النساء بدون مباشرة بأن يصب عليه الماء صبًا بدون أن تباشر النساء؛ لأن المحذور هو المباشر ولمس ما لا يجوز لمسه، فإذا زال هذا يصبه فلا بأس به، وإذا قلنا: بأن تغسيل الميت ليس للتعبد بل هو للتنظيف، فهل يشرع التيمم إذا لم يحضر المرأة نساء أو المرأة رجال؟ لا يشرع، لأن التيمم الآن لا يفيد؛ ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الأغسال المستحبة إذا فقد الإنسان الماء فيها أو كان يضره استعماله فإنه لا يتيمم لها؛ لأن الأغسال المستحبة ليست عن جنابة، وإنما هي للتنظيف والتطهير فإذا لم يجد الماء أو كات الماء يضره فإنه لا يتيمم، والله عز وجل إنما ذكر التيمم في الطهارة الواجبة ولم يذكره في الطهارة المستحبة، لكن أكثر الفقهاء يقولون: إنه يشرع التيمم إذا عدم الماء في الأغسال المستحبة التي يتضرر بها.
تكفين الميت وأحكامه:
519 -
وعن عائشة رضي الله عنه قالت: ((كفِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثوابٍ بيضٍ سحوليَّةٍ من كرسفٍ، ليس فيها قميصٌ ولا عمامةٌ)). متَّفقٌ عليه.
((كفن)) أصل التكفين بمعنى: التغطية، والكفن والكفت معناه: التغطية كما قال الله عز وجل: {ألم نجعل الأرض كفاتًا (25) أحياءً وأمواتًا} [المرسلات: 25 - 26]. والكفن سمي بذلك؛ لأنه يغطي الميت.
قالت: ((كفِّن)) من الذي كفنه؟ كفنه من تولى تجهيزه ومنهم عليّ بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب.
تقول: ((في ثلاثة أثواب))، الثوب: هو القطعة من القماش سواء كان مخيطًا أم غير مخيط، وأما المعروف عندنا في اللغة العامية فهو أن الثوب هو المخيط، بل القميص فقط وهذه لغة عرفية خلاف اللغة العربية، ((في ثلاثة أثواب بيض سحولية)) نسبة إلى بلدة في اليمن تسمى ((سحول)).
وقولها: ((من كرسف)) أي: من قطن، فـ ((من)) هنا بيانية كقولهم: خاتم من فضة، خاتم من ذهب.
وقولها: ((ليس فيها قميص)) القميص: هو هذا الثوب المعروف بالأكمام، ((ولا عمامة)) هي: ملبوس الرأس؛ أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في هذه الأثواب الثلاثة، ولم يكفن بقميص ولا عمامة، هذا هو المعنى المتبادر من الحديث، وأما من زعم من أهل العلم: أن المعنى ليس فيها قميص ولا عمامة، أي: أنها ثلاث أثواب زائدة على القميص والعمامة، وأن المشروع أن يكفن الرجل في خمسة أثواب: القميص، والعمامة، وثلاثة أثواب يلف بها فهذا بعيد من اللفظ، والصواب: أن قولها: ((ليس فيها قميص ولا عمامة)) تنفي ما قد يظن أن لباس الميت كلباس الحي حتى يتبين أن الكفن عبارة عن قطعة من خرق يلف بها الميت يدرج بها إدراجًا، قال العلماء: وكيفية ذلك أن توضع اللفائف بعضها فوق بعض بعد أن تطيب بالبخور أو نحوه، ويوضع الميت عليها ثم يردُّ طرف اللفافة العليا الأيمن، ثم يرد عليه الأيسر، ثم يفعل في الثانية التي تحتها كذلك، ثم في الثالثة كذلك، قالوا: وينبغي أن يجعل أكثر الفاضل عند الرأس، ثم يعقد هذه الخرق الثلاث ويحل العقد في القبر، يعقدها لئلا تنتشر مع حمل الميت والمشي به، فإذا وصل إلى القبر فإنها تحلّ.
فيستفاد من هذا الحديث: أن المشروع أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب، وأنه ليس من المشروع أن يكون فيها قميص ولا عمامة.
ويستفاد منه: أن الأفضل في الكفن أن يكون أبيض، وقد دل على ذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على لباس البياض، وهل يدل على أن الأفضل أن يكون الكفن من القطن لقولها:((من كرسف))، أو أن هذا وصف فردي لا اعتبار به؟ يحتمل هذا، وهذا يحتمل أن يقال: إن الأفضل أن تكون من القطن؛ لأن الصوف في الغالب يكون حارًا، فيؤثر في بدن الميت؛ ولأن غيره قد يكون فيه مباهاة ومفاخرة، وأما الحرير فهو حرام.
ويستثنى من هذا الحديث المحرم، فإن المحرم يكفن في ثياب إحرامه في إزاره وردائه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته راحلته:((كفنوه في ثوبيه))، فهذا مستثنى، وإلا فكل ذكر يسن أن يكفن في هذا، وما هو الواجب من هذه الثلاثة الأثواب؟ الواجب ثوب واحد يستر جميع الميت.
ويستفاد من هذا الحديث: أنه لابد أن يكون الكفن شاملًا لجميع البدن، من أين يؤخذ؟ من قولها:((كفن في ثلاثة))، و ((في)) للظرفية، والظرف لابد أن يكون محيطًا بماذا؟ بالمظروف، وعلى هذا فلابد أن يكون الكفن شاملًا لجميع الميت، فإن لم يوجد كفن يشمل جميع الميت
فإنه يكفن أعلى البدن وأسفله، يكفن بإذخر أو أوراق شجر أو ما أشبه ذلك، ما هو الدليل؟ حديث مصعب بن عمير رضي الله عنه فإنه استشهد في أحد وليس له إلا بردة إن غطّوا بها رأسه بدت رجلاه وإن غطوا رجليه بدا رأسه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطوا رأسه، وأن يجعلوا على رجليه شيئًا من الإذخر، يعني: يوضع على الرجلين ثم يربط بحبل لأجل ألا ينتشر، فإن لم يوجد شيء إطلاقًا لا وجدنا ثوبًا ولا إذخرًا ولا شجرًا، فقال بعض العلماء: إنه يطيَّن كيف ذلك؟ يعني: يؤتى بطين ويوضع على جسده، ولكن هذا فيما يظهر ليس بواجب؛ لأن هذا من باب التكلف والتعمق، ثم إن فيه تلويثًا للميت، والمشروع أن يطهر ويغسل وإن كان الإنسان خلق من الطين، لكن هذا يعتبر تلويثًا له، فالصحيح أنه إذا لم يوجد شيء فإنه يدفن على ما هو عليه، وسوف يبعث يوم القيامة عاريًا وإن كفن.
فإن قلت: كيف يتصور ألا يوجد شيئًا؟
الجواب: يتصور بأن يعرض للرجل قطاع الطريق ويسلبونه ثيابه ومتاعه ولا يبقون عليه شيئًا، وهذا واقع في زمن سبق، فقد ذكروا لنا قصة أن جماعة من الذين يذهبون يأتون بالعلف- وهو الحشيش- اعترض لهم قطاع طريق فسلبوا ما معهم حتى الثياب، وجاءوا عراة إلى البلد، لكنهم لما قاربوا البلد جلسوا وأرسلوا واحدًا منهم في الليل وأتى لهم بثياب من أهلهم، فمثل هؤلاء إذا مات منهم ميت وليس حولهم شجر ولا شيء يغطون به الميت فإنه يدفن عاريًا، وأيضًا يستثنى المجاهد في سبيل الله إذا قتل فإنه يدفن في ثيابه مثل المحرم.
520 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((لمَّا توفِّي عبد الله بن أبيٍّ جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطني قميصك أكفِّنه فيه، فأعطاه إيَّاه)). متَّفقٌ عليه.
قوله: ((لمَّا توفي)) كما قال الله تعالى: {- قل يتوفَّكم ملك الموت} [السجدة: 11]. وقال: {حتَّى إذا جاء أحدكم الموت توفَّته رسلنا} [الأنعام: 6]. فهو متوفَّى وليس متوف، ولكن لو أن أحدًا قال: إنه متَّوف بمعنى: أنه متوف أجله وحياته كالذي استوفى حقه من مدينه لكان له وجه، لكن هذا يتوقف على وروده في اللغة العربية.
قال: ((لما توفي عبد الله بن أبي)) - للفائدة- يقال: عبد الله بن أبي بن سلول، وسلول أمه، فكيف ننطق بأبي وكيف ننطق بابن سلول؟ هل نقول: عبد الله بن أبي بن سلول، أو عبد الله بن أبي بن
سلول؟ الأخير، فنقول: عبد الله بن أبي بالتنوين، ابن سلول بالرفع، بخلاف ما لو قلنا:((عبد الله بن محمد بن علي)) إذا كان ((علي)) هو الجد نقول: عبد الله بن محمد بن علي، ولا ننون محمدًا ونكسر ابن، أما عبد الله بن أبيٍّ فإننا ننون أبيًّا ونجعل ابن الثانية تابعة للاسم الأول، وهناك فرق ثالث وهو أننا نضع ألف ابن في ((ابن سلول)) بخلاف ما لو كان هو الجد فإننا لا نضع ألفًا لابن. ومنه ذلك ((عبد الله بن مالكٍ ابن بحينة))؛ لأن بحينة هذه ليست جده، بل هي أم عبد الله، عبد الله بن أبي هذا- والعياذ بالله- رأس المنافقين وهو مشهور بنفاقه، وله ابن اسمه عبد الله من خيار المؤمنين، وكان عبد الله بن أبي الخبيث يتظاهر بالإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل المنافقين معاملة المسلمين أخذًا بظواهرهم؛ لأن الواجب علينا نحن أن نعامل الناس بالظواهر؛ لأن البواطن إلى الله- سبحانه وتعالى، فكما أننا نحن ملزمون بأن نعامل الناس بالظواهر، فكذلك الحكم على الناس في الدنيا بالظواهر، أما في الآخرة فالحكم بما في البواطن لقول الله تعالى:{يوم تبلى السرآئر (9) فما له من قوةٍ ولا ناصرٍ} [الطارق: 9، 10]. {- أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور (9) وحصل ما في الصُّدور} [العاديات: 9، 10]. عبد الله بن أبي ابن سلول لما مات جاء ابنه عبد الله- وهو من خيار المؤمنين- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعطني قميصك أكفنه فيه، قميص النبي صلى الله عليه وسلم يلبسه الرسول- عليه الصلاة والسلام ولا شك أن ما كان الرسول يلبسه فإنه يجوز أن يتبرك به الإنسان كما سبق في حديث زينب، وعلى هذا فإن عبد الله جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعطيه قميصه ليكفنه فيتبرك بذلك، ولكن هل ينفعه هذا؟ لا ينفعه، لكن بناء على الظاهر، أما الحقيقة فإنه لا ينفعه؛ لأن الكافر لا تنفعه شفاعة الشافعين.
يستفاد من هذا الحديث: كرم النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث لا يرد سائلًا سأل ما يجوز.
ويستفاد منه أيضًا: إذا قلنا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى عبد الله بن أبي هذا مكافأة لأبيه حينما أعطى العباس قميصه في أسرى بدر، فيؤخذ منه: مكافأة المعروف بمثله، وهذه الفائدة وإن كان في أخذها من هذا الحديث شيء من الصعوبة، لكن قد دلت عليه الأدلة الأخرى، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:((من صنع إليكم معروفًا فكافئوه))؛ ولهذا لا ينبغي للإنسان إذا أسدى إليه أحد من الناس معروفًا أن يأخذه ويسكت لابد أن يكافئه بالمال وإما بالدعاء إذا كان ككم يكافأ بالدعاء.
ويستفاد منه: أن المنافق يعامل معاملة المسلم وإن كان معروف النفاق، لا سيما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:((لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه))، فكان صلى الله عليه وسلم
لما يرى من المصلحة العظيمة في أن يعامل هؤلاء على ظاهر الحال وإن كان يعلمهم رأى أن يعاملهم معاملة من ينافقون فيه وهم المسلمون.
وفيه دليل على مشروعية الكفن: لقوله: ((يكفنه)).
وفيه دليل على جواز التكفين بالقميص لقوله: ((أعطني قميصك)).
وفيه دليل على جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم لقميصه وإزاره ووضوئه وما أشبه ذلك، وهل هذا ثابت لغيره؟ الصواب: لا، وان غير النبي صلى الله عليه وسلم مهما بلغ من العلم والفضل والكرم لا يتبرك بآثاره.
فإن قلت: ما الدليل على أنه يتبرك بآثاره مع أن العلة هي الصلاح؟
فالجواب: أن صلاح الرسالة والنبوة لا يساويه صلاح آخر هذا من جهة فالقياس ممتنع، ثانيًا: من جهة الأثر أن الصحابة- رضي الله عنهم أنفسهم كانوا يعرفون التفاضل بينهم، وكانوا يقرون أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ومع ذلك كانوا لا يتبركون بآثارهم، فنقول لأي إنسان أراد أن يتبرك بشخص عالٍ أو من يزعم أنه ولي، نقول له: هذا ليس بمشروع؛ لأن ليس من عادة الصحابة ولا من سننهم.
ويستفاد من هذا الحديث: أن المودة بالقرابة لا تعد من المودة في الدين، يؤخذ من أن عبد الله بن أبي ما سأل هذا لأبيه إلا من أجل محبته أن يخفف الله عنه، فإن قلت: هذا يرد عليه قوله تعالى: {لَّا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر ..... } إلى قوله: {عشيرتهم} [المجادلة: 22]. فالجواب: أن المودة والمحبة الطبيعية التي متقضاها القرابة شيء آخر، فالمواد هو: الذي يسعى في طلب المودة أكثر مما تقتضيه الفطرة، ويدلك على هذا قوله تعالى:{قل إن كان ءابآؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب} هذا خبر كان {إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربَّصوا} فإذا قدم محبة هؤلاء على محيبة الله ورسوله فهذا هو الممنوع؛ ولهذا تههدهم الله بقوله: {فتربَّصوا حتَّى يأتي الله بأمره} [التوبة: 24].
وربما نأخذ فائدة: أن تأليف رؤساء الكفر لأجل أن يتألف الإنسان قومه، ثم إن فيه أيضًا تأليفًا لعبد الله بن أبي الابن، وذاك لا ينتفع بالقميص بلا شك.
* * *