الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجب الاستماع، لكن ينبغي تأدبًا وتحسبًا للفائدة أن ينصت، أما كونه تأدبًا فلأن بعض الناس إذا كان يتكلم ورأى أن أحدًا يتكلم تجده ينفعل في نفسه ويضيع منه ما كان يريد أن يتكلم به، وهذا أمرٌ كما أن لا ترضاه أنت لنفسك لو كنت أنت الخطيب فلا ينبغي أن ترضاه لغيرك، ثانيًا: تحسبًا للفائدة ربما يأتي هذا المتكلم بفائدة ما كانت تجول في ذهنك ولا كنت على علم بها فلا تحقرن شيئًا من العلم، ربما كما قال الرسول- عليه الصلاة والسلام:"رُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه". وهذا أمر يقع كثيرًا.
بقي لنا في خطبة الاستسقاء وفي خطبة العيدين، وفي خطبة الكسوف، هل حكمها حكم الجمعة؟ أما خطبة العدين فإن الفقهاء يقولون: إنها مثل خطبة الجمعة، لكنهم مع ذلك يقولون حضورها ليس بواجب، إلا أن من حضر فلينصت، ومر علينا أن ظاهر الأحاديث أنه لا يجب الإنصات إلا في خطبة الجمعة، وبيّنا الفر بينها وبين خطبة الجمعة، خطبة الجمعة أمر بالحضور إليها، وقُدمت على الصلاة لأهميتها، وخطبة العيد ما أمر بالحضور إليها، ولم تُقدم أيضًا بل كانت مؤخرة، حتى إن الناس إذا انتهوا من الصلاة وأرادوا الانصراف ينصرفون، والقول بأنه لا يجب حضورها مع القول بوجوب الاستماع فيه شيء من الإشكال، لأن ما لا يجب حضوره لا ينبغي أن يجب استماعه ما دام لي أن أقوم وأنصرف، نعم لو قيل بأنه إذا تكلم في أثناء خطبة العيد على وجه يشوش فهذا لا يجوز ولا سيما في وقتنا الآن لو تحدث رجلان فسينصرف الناس إليهم وينسون الخطيب، مثل هذا قد يقال: إنه ممنوع، لأنه يشوش، ويوجب أن ينصرف الناس إليه.
حكم تحية المسجد والإمام يخطب:
432 -
وعن جابر رضي الله عنه قال: "دخل رجلٌ يوم الجمعة والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: صلَّيت؟ قال: لا، قال: قم فصلِّ ركعتين". متفق عليه.
هنا "رجل" نكرة مبهم، ولكن ورد تسميته في صحيح مسلم أن اسمه:"سليك الغطفاني" من غطفان، ولكن إبهام الراوي له أثر، لكن إبهام من وقعت عليه القصة الغالب أنه لا أثر له؛ لأن المقصود المعنى؛ يعني: معنى القضية وما حصل فيها، أما أن يكون الرجل المبهم فلانًا، أو فلانًا فهذا ليس بذات أهمية.
وقوله: "والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب" هذه الجملة في محل نصب حال، وقوله:"يخطب" يعني: في الجمعة، كما جاء ذلك مفسرًا في أحاديث أخر، فقال:"صليت" هذه الجملة ظاهرها الخبر،
لكنها جملة إنشائية استفهامية؛ لأن المعنى: "أصليت؟ " وإذا حذف حرف الاستفهام فالذي يقدر الهمزة لأنها الأصل، فهنا لا ندري هل التقدير "هل صليت؟ " أو نقول: التقدير "أصليت؟ ".
وقوله: "قال: لا" يعني: لم أصل، و "لا" هذه جواب أو من أحرف الجواب يجاب بها المثبت، لماذا؟ لنفيه تقول: هل قام زيد؟ فيكون الجواب: "لا" إذا أجيب ب"نعم" فهو يراد به إثبات المثبت، لكن لو تسأل عن منفي فتقول: ألم يقم زيد؟ فلا تقول: "لا" ولا تقل: "نعم"، بل إنما تقول:"بلى".
قال: "قم فصل ركعتين"، "قم" فعل أمر من القيام، و "فصل ركعتين" أيضًا فعل أمر، وقوله:"ركعتين" لم يبين هل ركعتين ثقيلتان أو خفيفتان، لكنه ثبت في صحيح مسلم أنه أمره بأن يتجوز فيهما، يعني: يخففهما من أجل أن يتفرغ لاستماع الخطبة.
فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: أنه لا يؤنب من دخل والإمام يخطب، الدليل لذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أنبه، فإن قلت: ما الجواب عما ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين دخل عثمان وهو يخطب فلامه على تأخره فقال: ما زدت على أن توضأت ثم أتيت، فقال: والوضوء أيضًا وقد قال النبي- عليه الصلاة والسلام: "إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل" فما هو الجواب؟ أن يقال: لكل مقام مقال، ولكل رجل مرتبة، فتأخر عثمان رضي الله عنه ليس كتأخر هذا الرجل الذي قد يكون من المسافرين، قد يكون من الأعراب، أو من عامة الناس، لكن هذا عثمان رضي الله عنه هو الذي كان بعد عمر هو ثالث رجل في هذه الأمة.
جواب آخر: أيضًا أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلام لا شك أنه أكثر حلمًا من عمر، وعمر معروف بالشدة، فلا يبعد أن يقال إن هذا من شدة عمر رضي الله عنه، ولكن الجواب الأول أسد وأولى.
ويستفاد من هذا الحديث: جواز تكلم الخطيب مع غيره، من أين تؤخذ؟ من كلام الرسول صلى الله عليه وسلام مع هذا الرجل قال:"صليت؟ "، فلو قال قائل: هذا من خصائص الرسول- عليه الصلاة والسلام؛ فالجواب: أن القول بأن هذا من الخصائص في هذه المسألة، وفي غيرها من المسائل لا يجوز إلا بدليل، وإلا فالأصل التأسي به، ويدلكم على هذا قوله تعالى:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الاحزاب: 21]. وقوله: {فلما قضى زيد منها وطرًا زوجنكها} [الاحزاب: 37]. التعليل: {لكى لا يكون على المؤمنين حرج في أزوج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا} [الاحزاب: 37]. فالحكم خاص والتعليل هنا عام، فقوله:{لكى لا يكون على المؤمنين} عامة، فدل هذا على أن الحكم في حق الرسول- عليه الصلاة والسلام حكم في حق الأمة ويدلكم
لذلك أيضًا أن الله عز وجل لما أراد أن يخص نبيه بالحكم قال: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين} [الاحزاب: 50]. وبهذا نعرف أن أي شخص يدعي دعوى الخصوصية في أي شيء مما جاءت به السنة، فإن قوله مردود عليه إلا بدليل؛ لأن الآيتين في سورة الأحزاب واضحتان؛ لأن الحكم الوارد في حق الرسول- عليه الصلاة والسلام حكم له وللأمة إلا بدليل على الخصوصية.
فإذا قال قائل: من حيث المعنى والتعليل ما الفرق بين الخطيب وغيره؟
لأن الخطيب إذا تكلم قطع خطبته ولم يبق على خطبته بخلاف غيره فإن الخطيب سوف يستمر ويواصل وحينئذٍ يفوت المتكلم ما يفوته من الخطبة بحسب كلامه.
ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي أن ينكر على فاعل المنكر ما دام المقام يقتضي التفضيل؛ وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صليت؟ " ما أنكر عليه الجلوس، بل سأله هل صلى أم لا، فمن هذا الحديث نأخذ قاعدة مهمة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي ألا نتسرع ولا نتعجل في الأمور المحتملة حتى نستفصل؛ لأنك إذا أنكرت شيئًا وهو ليس بمنكر تنسب إلى التسرع ثم تخجل، ثم هذا الرجل الذي أنت تعينه يوبخك ويخجلك، فلو رأيت مع شخص امرأة تمشي معه هل تنكر عليه بأن تقول: يا رجل كيف تمشي مع امرأة، هذا حرام
…
أتقول ذلك، أو تستفصل؟ تستفصل.
ويُستفاد من هذا الحديث: أنه يجوز أن يخاطب المعظم بقول: "لا" وأن هذا ليس من سوء الأدب؛ لأن الرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم أمام الناس: "لا" لو أنك قلت: "لا" للمعظم عندنا الآن قالوا: هذا سوء أدب الذي ينبغي لك أن تقول: "سلامًا" هذا هو الواقع الآن، لو تقول مثلًا لأبيك:"لا"، أو لأمك:"لا"، فهذا عاق، ويجب أن يقول:"سلامًا"، ولكن هذا يرد عليه؛ لأن هذا الجواب من صحابي للرسول صلى الله عليه وسلم أمام الناس، ولو كان هناك أي شيء في عدم الأدب لكان هذا الصحابي يتحرز منه، أو لكان الرسول يبينه، أو لانتقده الصحابة.
ويستفاد من هذا الحديث أيضًا: أن من دخل والإمام يخطب فإنه لا يجلس حتى يُصلي ركعتين، من أين يؤخذ؟ من قوله:"قم فصلِّ ركعتين".
ويُستفاد من هذا الحديث: وجوب القيام في صلاة النفل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "قُم"، والأصل في الأمر الوجوب، فإن قال قائل: هذا صحيح، لكن هناك ما يدل على أن هذا الأمر ليس للوجوب لا في هذه القضية بعينها، ولكن لأن هناك نصوصًا أخرى تدل على عدم
وجوب القيام في النفل مثل ثبوت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة على راحلته بدون ضرورة، ولو كان القيام ركنًا أو واجبًا لنزل كما ينزل للفريضة، كذلك أيضًا ما ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام:"صلاة القاعدة على النصف من صلاة القائم". فهذا أيضًا يدل على عدم الوجوب، وأن المسألة على سبيل الاستحباب، وكذلك ما ثبت من كون الرسول عليه الصلاة والسلام في آخر حياته يصلي صلاة الليل قاعدًا مع أنه يستطيع أن يقوم لكنه كان يصلى قاعدًا؛ لأنه يشق عليه بعض الشيء، إذن نقول كلمة:"قم" لا يستفاد منها الوجوب، لا لذاتها ولكن بأدلة أخرى تدل على أن الأمر ليس للوجوب.
ويستفاد من هذا الحديث: وجوب صلاة ركعتين لمن دخل المسجد، من أين تؤخذ؟ من قوله:"فصل ركعتين"، فهو أمر والأصل في الأمر الوجوب، ولاسيما أن هذا الوجوب قد عرف بكون استماع الخطبة واجبًا، ولا يتشاغل عن الواجب إلا بواجب، يدل هذا على أن تحية المسجد واجبة إذا كان الرجل لو تشاغل عن الواجب إلا بواجب، يدل هذا على أن تحية المسجد واجبة إذا كان الرجل لو تشاغل عن الخطبة لكلامه إذا أنكر كلامًا على غيره فإنه تلغى جمعنه، فهذا دليل على أنه يجب الاستماع وعدم التشاغل في الخطبة، فلما أمر بأن يصلي ركعتين دل ذلك على الوجوب، وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم، ولكن بعض أهل العلم يقولون: إن الأمر ليس للوجوب؛ لأن هناك ما يصرفه، فما هو الصارف؟ أكثر ما يتعلق به من يرى أن تحية المسجد ليست واجبة، وأن صلاة الكسوف ليست بواجبة أكثر ما يتعلقون به حديث الأعرابي:"هل علي غيرها؟ " قال: "لا، إلا أن تطوع". فنقول: الصلوات الخمس متعلقة بأسبابها؛ ولهذا لو نذر أن يصلي وجب عليه الوفاء بالنذر بالإجماع مع أنها ليست من الصلوات الخمس، وهي صلاة، ولكن إن وجد صارف يصرف عن الوجوب غير هذا فنعم، وإلا هذا فلا يسقط الأمر عن الوجوب في مثل هذا الحديث، وفي حديث صلاة الكسوف، ثم إننا نقول: كثير من الذين يقولون بعدم الوجوب في صلاة الكسوف، وفي مثل هذا يقولون بوجوب صلاة العيد إما عينًا، وإما كفاية، فمع ذلك فهي لم تذكر في الحديث، وكثير منهم يقولون بوجوب ركعتي الطواف خلف المقام، ومع ذلك ليست مذكورة في الحديث لكن لها سبب.
وعلى هذا فنقول: هذا الحديث يدل على الوجوب فإن وجد صارف غير هذا الحديث الذي أشرنا إليه أخذنا به، وإلا فالأصل الوجوب، لاسيما وأنه معضود بكون هذا الرجل يؤمر بأن يصلي مع تشاغله عن الخطبة، قال بعض أهل العلم: إن الصارف له عن الوجوب هو قصة
الثلاثة الذين دخلوا المسجد فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع أصحابه في حلقة، فدخل رجل الحلقة، وجلس واحد خلفها، وانصرف واحد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام حدثهم عن هؤلاء النفر الثلاثة:"أما أحدها فآوى فآواه الله"، من هو؟ الذي جلس في الحلقة، "وأمَّا الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه"، قالوا: فهذان رجلان جاءا فجلسا ولم يأمرهما النبي عليه الصلاة والسلام بالصلاة. وقالوا أيضًا في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه حينما جاء بعد أن تاب الله عليه، والنبي عليه الصلاة والسلام جالس مع أصحابه حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بأن يصلي ركعتين، فدل هذا على عدم وجوبهما، وأظنكم إذا تأملتم هذين الدليلين وجدتم أنهما قد يعجزان عن مقاومة القول بالوجوب، كيف ذلك؟
أما قصة الثلاثة فهي قضية عين يجوز أن هؤلاء صلوا والرسول لم يقل لهم؛ لأنهم صلوا وقد يكونون على غير وضوء، ولكن فيه بعض الشيء، وقصة الرجل الذي جعل يتخطى الصفوف فقال له النبي عليه الصلاة والسلام:"اجلس فقد آيت". هل تصلح صارفًا؟ لا؛ لماذا؟ قد يكون صلى وجاء يتخطى الرقاب، إذن معنى ذلك أننا نصل إلى أن القول بوجوب تحية المسجد قول قوي جدًا، وأن الذي يدعها مخاطر ومعرض نفسه للإثم؛ لن جميع الأدلة التي قيل إنها صارفة عن الوجوب فيها شيء من النظر والمرء يحتاط لنفسه.
وقوله: "فصل ركعتين" هل يؤخذ منه أنه لو صلى ركعة واحدة كما لو دخل الرجل فأوتر بواحدة ثم جلس هل يكون آثما؟ أما من كان ظاهريًا فسيقول: هو آثم، يعني إذا قلنا بالوجوب فسيقول: إنه لم يأت بتحية المسجد؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "ركعتين"، وهذه ركعة، وأما من قال: إن هذا بناء على الأغلب، وأن القيد الأغلبي لا يعتبر له مفهوم؛ فسيقول: إن من صلى صلاة شرعية فإنه يحصل بها المقصود، فإذا دخلت فأوترت حصل بذلك المقصود، وهذا عندي هو الأقرب، فيكون الحديث - حديث أبي قتادة -:"إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" مبني على الأغلب، وما كان مبنيًا على الأغلب فإنه عند أهل العلم لا مفهوم له، وقد دل على ذلك القرآن أن ما كان مبنيًا على الأغلب فلا مفهوم له، دل عليه في آيتين مرتا علينا، قال الله تعالى في جملة المحرمات في النكاح:{وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن} [النساء: 22]، فعندنا قيدان: قيد في الربائب، وقيد في النساء أمهات الربائب، الربائب بماذا قيدهن الله؟ بـ {التي في حجوركم} ،