الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تدبر القراءة في الصلاة:
281 -
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فما مرت به آية رحمة إلا وقف عندها يسأل ولا آية عذاب إلا تعوذ منها". أخرجه الخمسة، وحسنه الترمذي.
هذا الحديث قد رواه مسلم رحمه الله، وكان ينبغي للمؤلف رحمه الله أن يذكر أن الذي رواه مسلم في صلاة الليل، قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة
…
" ثم ذكر الحديث، وأنه قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران يقرؤها مترسلًا عليه الصلاة والسلام فما مرت به آية رحمه إلا سأل ولا آية وعيد إلا تعوذ ولا آية تسبيح إلا سبح هكذا في مسلم وليت المؤلف ساق رواية مسلم لكان فيها زيادة على ما ساقه الآن وهو أيضًا أصح ممن خرجه فإما أن يكون المؤلف رحمه الله في تلك الساعة لم يستحضر رواية مسلم أو لسبب ما ندريه، على كل حال: الحديث في مسلم يقول: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم" يعني: صلاة الليل، وقد صلى حذيفة وابن عباس وابن مسعود كلهم صلوا مع الرسول صلى الله علي وسلم صلاة الليل لكن في ليال مختلفة وقوله "فما مرت به آية رحمة إلا وقف عندها يسأل" آية رحمة يعني مثلًا: {وقُل رَّبِّ اغْفِرْ وارْحَمْ وأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)} {المؤمنون: 118].
فيقف ويقول: "رب أغفر لي وارحمني"، {واعْفُ عَنَّا واغْفِرْ لَنَا وارْحَمْنَا} [البقرة: 286] هذا دعاء يقول: "آمين"، "ولا آية فيها عذاب إلا تعوذ منها" أي: من العذاب، وليس من الآية، يقول: أعوذ بالله مثل: {والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} فقول: أعوذ بالله ولا آية تسبيح إلا سبح مثل: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} يقول: "سبحان الله"، لكن (ٍسبح اسم ربك العظيم)، و (سبح اسم ربك الأعلى)، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نجعل في ركوعنا:"سبحان ربي العظيم" وفي سجودنا: "سبحان ربي الأعلى"، وهذا لا يمنع أن نسبح حتى عند انتهاء القراءة.
ففي هذا الحديث فوائد منها: جواز الجماعة في النافلة في البيت، والدليل: فعل حذيفة، أو إقرار الرسول؟ إقرار النبي صلى الله علي وسلم، وهل هذا يعني سنة، بمعني: إذا اجتمع جماعة في بيت عزاب، قالوا: سنجعل لأنفسنا صلاة ليل نتهجد فيها جميعًا، أو أن هذا أحيانًا إذا وجد ضيفًا أو ما أشبه ذلك يقوم صاحب البيت معه في صلاة الليل؟ الجواب: الثاني، أما اتخاذ ذلك راتبة فلا، لكن أحيانًا لسبب لا بأس بذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي إذا مرت بالمصلي آية رحمة أن يسأل، أو آية عذاب أن يتعوذ، أو آية تسبيح أن يسبح، دليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله، وكان يقول: "صلوا كما
رأيتموني أصلي"، ولكن هل هذا خاص بالنافلة وبالتهجد؛ لأن السنة فيهما الإطالة أو هو عام؟ نقول: أما في السورة التي وقع فيها ذلك فلا شك في ثبوتها، بمعنى: أن الإنسان إذا قام يتهجد فليسأل عند آية الرحمة، وليتعوذ عند آية الوعيد، وليسبح عند آية التسبيح؛ لأن هذا مطابق للسنة تمامًا، وأما الفريضة فقد يقول قائل: ما ثبت في الفريضة يثبت في النافلة إلا بدليل، وما يثبت في النافلة يثبت في الفريضة وهذا صحيح، لكن قد يعارض هذا الأصل أن الناقلين لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الفريضة لا يذكرون أنه يقف عند آية الرحمة، ولا عند آية الوعيد، ولا عند آية التسبيح فالظاهر من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يفعل ذلك في الفريضة، والفرق بين صلاة الليل والفريضة ظاهر؛ لأن صلاة الليل تستحب فيها الإطالة ولأن الإنسان إما أن يصليها وحده، أو يصليها معه من يكون متابعًا له أطال أم قصر، والفريضة ليست كذلك يصلي معه ناس، وأيضًا قد لا يحبون أن يطيل ووقوفه عند آية الرحمة وآية الوعيد وآية التسبيح قد يكون فيه إطالة عليهم، ولهذا ذهب بعض الفقهاء رحمهم الله إلى أن الوقوف عند آية الوعيد أو الوعد أو التسبيح في التهجد سنة وفي الفريضة مباحة، بمعنى: أننا لا ننهاه ولا نأمره بذلك وهذا هو الظاهر أن الإنسان لو فعله في الفريضة ولاسيما إذا صادف آخر القراءة فلا ينهى عنه، لكن لا نقول: إنه ينبغي أن تفعله بخلاف صلاة الليل.
ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر في القراءة إذا كان إمامًا في صلاة الليل وكذلك في الدعاء والتسبيح لأن حذيفة يسمعه، ولا يمكن أن يسمعه إلا إذا جهر، لكن الجهر ليس رفيعًا.
ومن فوائد هذا الحديث: تمام عبودية النبي صلى الله عليه وسلم حيث يسبح ربه عز وجل إذا مررت به آية تسبيح ولعمر الله إنه للأشد الناس وأقواهم عبادة لله عز وجل.
ومن فوائد هذا الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتقر إلى ربه- تبارك وتعالى كما أن غيره مفتقر إلى الله وأدلة هذا كثيرة جدًا، حتى إن الله أمره وقال:{واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19].
ويتفرع على هذه الفائدة الرد على من قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم يدفع الضرر عمن استغاث به في قبره، وهم بذلك مشركون لو كان النبي صلى الله عليه وسلم حيا لقاتلهم؛ لأنه هذا هو الشرك أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم يغيثهم من الشدة وهو في قبره، لكن الهوى- والعياذ بالله- يعمي ويصم، وما أيسر أن نقول لهؤلاء الجهال المشركين: اقرءوا قول الله تعالى: {قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ولا أَعْلَمُ الغَيْبَ
ولا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ} {الأنعام: 50] اقرءوا قول الله تعالى: {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولا ضَرًا إلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ ولَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ ومَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188] اقرءوا قول الله: {قُلْ إنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًا ولا رَشَدًا (21) قُلْ إنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} {الجن: 21] أنا لا أستطيع أن يجيرني أحد ممن الله لو أراد بي شيئًا {ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)} [الجن: 22]. فإذا قال أحدهم: إني دعوته عند القبر الشريف، وتحت الحجرة الشريفة فزال ما بي من الضرر، نقول: هذا حصل عند الدعاء؛ أي: عند دعائك إياه، لا بدعائك إياه. انتبه للفرق حصل عند دعائك إياه، لا بدعائك إياه: فتنة، فإذا قال: كيف لا بدعائه إياه؟ أنا دعوت واستجاب قلنا: اقرأ قول الله عز وجل: {ومَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] فإذا قال: نعم، الآية صريحة، لكن قال:{مَن لَاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف: 5] والرسول استجاب لي، فنقول: اقرأ قول الله عز وجل: {قُلْ إنِّي لا أَمْلِكُ لكُمْ ضَرًا ولا رَشَدًا} {قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ولا أَعْلَمُ الغَيْبَ ولا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50] وحينئذ لا يستطيع أن يجيب لكن الله قد يفتن الإنسان بتيسير أسباب المعصية له امتحانًا فقد امتحن الله بني إسرائيل في الحيتان يوم السبت بأن حرمت عليهم الحيتان يوم السبت.
إذن لا يمكن الصيد يوم السبت الحرام فماذا فعلوا في هذا اليوم؟ فطال عليهم الأمد فقالوا: مشكل! يوم السبت يأتي الصيد شرعًا أي: أي أن الحيتان تأتي شرعًا طافية يكاد الإنسان يمسكها بيده وفي غير يوم السبت لا يرونها انظر إلى المحنة طال عليهم الأمد قالوا: إذن اصنعوا شباكًا يوم الجمعة فيتساقط فيها الحيتان وخذوا الحيتان يوم الأحد وحينئذ لم تكونوا صدتم يوم السبت فماذا كانت العقوبة؟ أسوأ عقوبة والعياذ بالله قال الله عز وجل: {ولَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ} - قلًا كونيًا - {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]. فكانوا قردة خاسئين، فالصحابة رضي الله عنهم حرم عليهم الصيد حال الإحرام، فسلط الله الصيد وهم محرمون بحيث يمسكون الزاحف، وينالون برماحهم السائر، يعني: الأرانب والظباء يمسكونها مسكًا بأيديهم، والطيور ما تحتاج إلى سهام بالرمح يضرب الرمح فتصيدها، هذا تسهيل أو لا؟ تسهيل لكنه امتحان من الله عز وجل، فماذا صنع صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ تجنبوا ذلك ولم يأخذوا شيئًا رضي الله عنهم.
الرجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، هذه محنة، لكن قال: إني أخاف الله، والله تعالى قد يبتلي الإنسان بتسهيل أسباب المعصية له فيبلغها، فاحذر إذا تيسرت لك أسباب المعصية أن تقع فيها، فإنها فتنة، حتى لو تيسرت لك لحذر أن تقع فيها، تيسر لك الربا، لا تتعامل به، تيسر لك الزنا؛ لا تقربه، وهلم جرًا.
ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ قراءته مترسلًا، لاسيما في التهجد كما جاء ذلك في حديث حذيفة في صحيح مسلم، وهذا أبلغ في التدبر وفي إتيان الحروف حقها في النطق وصفاتها في المخارج، لكن لا على سبيل ما يفعله المتشددون في التجويد المتشدقون فيه بحيث ربما يخرج الحرف حرفين أو أكثر، ورأيت في هذه السنة في حفل تخرج من يقرأ بالتجويد فإذا به يحمر وجهه، وتنتفخ أوداجه، ويهز كل بدنه ويتكلف، وإذا قرأ جملتين أو ثلاثة تعب ووقف - يعني: دقيقة - كل هذا من أجل أن يطبق ما يزعم أن هذا تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية وعيد تعوذ.
هل يفرض الضمير فيقول: "اللهم ارحمني"، "اللهم أعذني من النار" أو يجمعه؟ الثاني، يجمع وينوي عن نفسه وعمن كان مؤتمًا به، ولهذا جاء في الحديث - حديثًا استدل به بعض العلماء - أن الإمام إذا خص نفسه بالدعاء دون المأمومين فقد خانهم، هذا صحيح؛ لو أن الإمام يقول في قنوط الوتر:"اللهم أهدني فيمن هديت"، وهم يقولون: آمين فما الذي بقي لهم؟ ما بقي لهم شيء، فكل الدعاء لنفسه، ويجبرهم على أن يؤمنوا لنفسه وهذه خيانة، ولذلك لو كان معك أحد فأت بضمير الجمع، وانظر إلى الحكمة المبنية على العلم والرحمة كيف جاء في سورة الفاتحة جاءت بصيغة الجمع:{إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (6)} مع أن القارئ إذا كان يصلي وحده ما معه أحد، لكن لعلم الله - ولا نقول على الله إلا ما نظن أنه حق - لعلم الله أن هذه السورة ستتلى، وسيكون خلف القارئ من يؤمن على دعائه فجاءت بصيغة الجمع {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (6)} ، فهذا الإمام ينهى عن ذلك، وأما التأمين على دعائه فليؤمن المأموم ما دام تبعًا له، وهذا يدل على جهل هؤلاء، وهم بمنزلة العوام.
والزيادة في صحيح مسلم: أن ذلك في صلاة الليل، وفيه أيضًا زيادة: أنه لا يمر بآية تسبيح إلا سبح وذكرنا، هل يتعدى ذلك إلى الفرض أو لا يتعدى، وأشرنا إلى القاعدة، أن ما يثبت في النفل يثبت في الفرض إلا بدليل، وقلنا: إن الذين نقلوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم المفروضة لم يذكروا هذا، وانتهينا إلى أنه لا بأس به في الفريضة، وأنه في صلاة الليل مسنون.
* * *
النهي عن القراءة في السجود والركوع:
282 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم". رواه مسلم.
قوله: "ألا" أداة استفتاح وتنبيه وهي هنا أداة تنبيه؛ لأن المؤلف رحمه الله حذف أول الحديث وهو أنه قال صلى الله عليه وسلم: "إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، ألا وإني نهيت"، ولهذا جاءت الواو بعد ألا.
قوله: "ألا وإني نهيت" الواو حرف عطف على ما حذفه المؤلف رحمه الله من أول الحديث "نهيت": الناهي هو الله عز وجل؛ لأنه لا أحد ينهى الرسول عليه الصلاة والسلام إلا الله سبحانه وتعالى، والنهي: طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة مخصوصة، وهي المضارع المقرون بلا الناهية. هذا هو النهي، فإذا قلت:"لا تفعل كذا" هذا نهي، وإذا قلت:"اترك كذا" فهذا ليس بنهي، مع أنه طلب كف، لكنه ليس بالصيغة المعروفة التي هي المضارع المقرون بلا الناهية، وإذا قال زميلك:"لا تفعل كذا" فإنه ليس بنهي اصطلاحًا، لماذا؟ لأن زميلك إذا قال:"لا تفعل" ليس على وجه الاستعلاء، وإذ قال الغلام لسيده:"لا تكلفني يا سيدي" فهذا ليس بنهي؛ لأنه ليس على وجه الاستعلاء، وإنما هو على وجه الرجاء، فالمهم اضبط القيود حتى تعرف النهي، "طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة مخصوصة هي لا الناهية" هذا معناه في اللغة وفي عرف العلماء، لكن قد يرد شيء يدل على النهي بدون أن يكون بهذه الصيغة، مثل نصوص الوعيد تتضمن النهي بلا شك وزيادة، ولكنها ليست بالصيغة المعروفة، الجملة التي معنا "نهيت"، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الصيغة التي جاءت من الله عز وجل موجهة إلى الرسول، فلا نستطيع أن نقول: هو بالصيغة المعروفة، بأن قال الله: لا تقرأ القرآن يا محمد راكعًا ولا ساجدًا، أو أنها بصيغة الوعيد على من قرأه، فمع هذا الاحتمال ننظر للراجح، فما هو الأصل الذي يرجح أحد الاحتمالين؟ أنه بصيغة معروفة:"لا تقرأ القرآن".
قوله: "راكعًا" حال من فاعل "أقرأ""أو ساجدًا"، (أو) للتنويع، ثم لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا، كان من عادته أنه إذا نهى عن شيء ذكر ما يحل محله، قال:"فأما الركوع فعظموا فيه الرب"، لأن الركوع أصلًا للتعظيم، فالانحناء للغير يعني: التعظيم له، فكان من المناسب أن يكون ذكره هو ذكر التعظيم "عظموا فيه الرب"، والأمر بالتعظيم هنا مجمل، لكن بينته السنة
حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا ركع: "سبحان ربي العظيم"، ولما نزلت آية:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} قال: "اجعلوها في ركوعكم".
وقوله: "الرب"، "أل" هنا للعهد الذهني؛ لأنه معلوم بالذهن، وليس للعهد الذكري ولا للعهد الحضوري، أما العهد الذكري فانتفاؤه لأنها لم يسبق لها ذكر، وأما الحضوري فلأنها لم تأت على الوجه المعروف في "أل" الحضورية، وقوله:"وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء"، لكن مع التسبيح الواجب وهو "سبحان ربي الأعلى"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد يقول:"سبحان ربي الأعلى"، ولما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قال:"اجعلوها في سجودكم"، يعني: قولوا في السجود: "سبحان ربي الأعلى"، وإنما كان ذكر السجود بهذه الصيغة "سبحان ربي الأعلى"، لأن وضع الإنسان جبهته وهي أعلى ما في جسمه تدل على النزول، فكان المناسب أن ينزه الله عز وجل عما كان عليه العبد الآن، ويقول: هذا من باب ذكر الشيء بمقابله، فأنت لما نزلت جبهتك أثنيت على الله عز وجل بأنه الأعلى الذي لا يليق به أن يكون نازلًا، "فقمن أن يستجاب لكم" "قمن" لها معنى: حقيق أو حرى المعنى: أنكم إذا دعوتم الله حال السجود فهذا أقرب إلى الإجابة، حري أن يستجاب لكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر "أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، مع أننا لو نظرنا إلى الأمر الحسي لكان السجود أبعد؛ لأن الإنسان كله يكون في الأرض لكنه لما كان نزولًا لله عز وجل كان ذلك أقرب إلى الله.
في هذا الحديث دليل على فوائد منها: أن الشيء المهم ينبغي أن يستعمل الإنسان فيه ما يدل على الانتباه لقوله: "ألا" كل شيء تريد أن تنبه عليه وتعتني به فأت بأداة التنبيه، وانظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" كيف كرر هذه الأداة التي هي للتنبيه والاستفتاح لأهمية الموضوع.
ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم عبد يوجه إليه الأمر والنهي لقوله: "ألا وإني نهيت" ومن فوائده أن الأحكام الثابتة للرسول صلى الله عليه وسلم هي لأمته لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبرنا أنه نهي إلا من أجل أن نتأسى به، واعلم أن الخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما دل الدليل على أنه خاص به فهو خاص به.
والقسم الثاني: ما دل الدليل على أنه للأمة فقط فهو للأمة.
والثالث: ما لم يدل عليه دليل لا هذا ولا هذا فهو له وللأمة لأن الله تعالى قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]
فهنا لما نهي الرسول- عليه الصلاة والسلام هل نقول: إن النهي خاص به أو عام؟ عام؛ لأنه إذا لم يوجد دليل على الخصوصية وجب أن يكون عامًا أي إنسان يقول لك هذا موجه للرسول فقل: نعم، لكنه إذا وجه للرسول فهو موجه لنا؛ لأننا مأمورون بإتباعه.
ومن فوائد هذا الحديث: عظمة القرآن العظيم وجهه: أنه نهى الإنسان المصلي الذي يناجي الله أن يقرأ القرآن في حال الركوع والسجود؛ لأن حالة الركوع والسجود فيها نوع من التواضع من الإنسان، فلا يليق بالقرآن أن يكون تاليه على هذا الحال، أرأيت الآن لو أنك تحدثني وأنت راكب أو تحدثني وأنت ساجد أو تحدثني وأنت قائم أيهما أبلغ في التعظيم؟ وأنت قائم لو حدثني وأنت راكب قلت: هذا الرجل لا يبالي بي ولا يهتم بي، أو واحد مثلًا يحكي كلامًا لشخص يقول: أيها الناس اصبروا فإني سأحدثكم حديثًا عن فلان حضر الناس وجلسوا يتحدثون ماذا يصير هذا؟ غير لائق لهذا قال أهل العلم: لما كان القرآن الكريم عظيم المنزلة كان حقه أن يكون حال ارتفاع الإنسان يعني: وهو قائم.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان لو قرأ القرآن وهو راكع أو ساجد بطلت صلاته لأنه أتى بقول منهي عنه بخصوص الصلاة فكان مفسدًا لها، فلو أن الإنسان ركع وبدأ يتلو قول الله تعالى:{إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]. فصلاته باطلة؛ لأنه أتى بقول منهي عنه فتبطل صلاته، كما لو تكلم في الصلاة بكلام الآدميين المنهي عنه، وإلى هذا ذهب ابن حزم رحمه الله، والظاهر أن الظاهرية مثله، وقالوا: هذا منهي عنه بخصوصه، والإنسان إذا قرأ القرآن في حال الركوع، فإنه عاص لله معصية خاصة بالصلاة فتبطلها، لكن أكثر أهل العلم يقولون: إن الصلاة صحيحة ويجيبون عن هذا بأن النهي ليس لذات القرآن ولكن لمحل القرآن وإلا فإن القرآن مشروع في الصلاة فهو من جنس الأذكار المشروعة فيها، فالنهي ليس لذات القرآن، بل لكونه في هذا المحل، وبعدوا بذلك عن القول بإبطال الصلاة.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان لو دعا في سجوده بآية من كتاب الله مثل أن يقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ} [آل عمران: 147].
فإن ذلك جائز؛ لأنه لم يقرأ القرآن لكن دعا بالقرآن بخلاف ما لو قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]. فهنا ينهى عنه، ولذلك لو أن الجنب دعا بالآية:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ} [آل عمران: 147] لكان هذا جائزًا لأنه دعا بالقرآن والحديث الذي معنا "أن أقرأ القرآن" بأن يتلوه يريد قراءته، وعليه فإذا دعا بما يوافق القرآن فلا حرج عليه في ذلك ولا إثم عليه.
ومن فوائد هذا الحديث: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وحكمته في تعليمه، وهو أنه لما ذكر ما ينهى عنه عوض عنه ما يحل ويؤمر به، كيف هذا؟ أنه لما قال:"نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا وساجدًا" أتى بعوض وهو أن الركوع يعظم فيه الرب، وأن السجود يكثر فيه من الدعاء وهذه الطريقة هي طريقة القرآن الكريم قال الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وقُولُوا انظُرْنَا} [البقرة: 104] فنهى عن الكلمة وأتى بعوضها كذلك السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: ما شاء الله وشئت، ولكن ما شاء الله وحده"، ولما أوتي إليه بتمر جيد قال:"من أين هذا؟ " قالوا: يا رسول الله، نأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة قال:"أوه عين الربا"، وأرشد عليه الصلاة والسلام إلى أن يباع التمر الرديء ويؤخذ القيمة ويشترى بالدراهم تمرًا جيدًا، فلما نهى عن هذه المعاملة أتى بمعاملة بدلها.
وهكذا ينبغي لكم إذا نهيتم الناس عن شيء والناس قد ابتلوا به، أن تذكروا عوضه المباح لئلا توقعوهم في حرج أو لا يمتثلوا ما نهيتم عنه، ثم إذا فعلتم هذا فإنما سرتم على ما سار عليه القرآن وسار عليه النبي صلى الله عليه وسلم أما بعض الناس مثلًا يأتي ويوعظ الناس ويقول: هذا حرام، وهذا حرام ويسكت، والناس محتاجون إليه إذا لم يجدوا بدله فلن يمتثلوا ليس هذا بصواب بل يقول: هذا حرام أن يقول: ولكن هذا حلال لأجل أن يكون للناس متسع.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الركوع محل التعظيم: "عظموا فيه الرب"، الواجب:"سبحان ربي العظيم" كما جاءت به السنة، لكن لو قال:"سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، يجوز أو لا يجوز؟ يجوز؛ لأن هذا من تعظيم الرب، والنبي صلى الله عليه وسلم أطلق، لكنه بين أنه يقول:"سبحان ربي العظيم"، وإذا أتى بما يدل على تعظيم الله فهو جائز لا شك لأنه داخل في العموم.
ومن فوائد هذا الحديث: إثبات اسم الرب لله عز وجل الرب في القرآن الكريم لم يأت إلا مضافًا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، {رَّبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} ، وما أشبه ذلك، لكن السنة
جاءت به معرفًا بـ "أل" في هذا الحديث، وهو كما رأيتم في الصحيحين، وكذلك في السنن:"السواك مطهرة للفم مرضاة للرب". فالرب عند الإطلاق هو الله- سبحانه وتعالى وعلى هذا فيجوز أن تضيفه إلى الأسماء الحسنى لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الله به.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي الاجتهاد في الدعاء حال السجود اجتهد في الدعاء يعني: بالغ فيه ببذل الجهد القلبي والنطقي؛ بمعنى: أن تدعو الله بإخلاص وصدق وافتقار إلى الله عز وجل ما تدعو على أن هذا الشيء معتاد لك كما يوجد منا في كثير من الأحيان يدعو الإنسان على شيء معتاد لا أدع الله بإلحاح وصدق وإخلاص، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على هذا لأن هذا أرجى للإجابة.
ومن فوائد هذا الحديث أن للإنسان أن يدعو بما شاء وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقيد، لم يقل: الدعاء للآخرة، أو لا تدعو للدنيا فادع بما شئت أما الدعاء للآخرة فواضح الدعاء للدنيا يجوز تقول:"اللهم ارزقني بيتًا ملكًا واسعًا" يجوز أن تقول: "اللهم ارزقني سيارة فخمة" يجوز أن تقول: "اللهم ارزقني لباسًا جديدًا"، أي شيء تدعو به جائز إلا أن تدعو بإثم أو قطيعة رحم، وأما قول بعض العلماء لا يجوز الدعاء بشيء من أمور الدنيا فهذا ضعيف إلى من أذهب إذا احتجت شيئًا في دنياي؟ أدعو غير الله؟ ! ثم إني دعوت في الصلاة التي هي أقرب للإجابة فادع الله بما شئت من أمور الدين والدنيا، إنسان عليه درس صعب فجاء في سجوده فقال:"اللهم سهل علي مادة الإنجليزية" جائز أم غير جائز؟ جائز كل دعاء يجوز ما لم يكن إثًمًا أو قطيعة رحم ادع الله به، وجه ذلك: أن نفس الدعاء عبادة، أنا ما خرجت بدعائي عن عبادة الله عز وجل نفس الدعاء عبادة، حتى لو سألت شيئًا من أمور الدنيا فهو عبادة، فكيف نبطل الصلاة بذلك؟ فالقول بأنه لا يجوز الدعاء بشيء من أمور الدنيا قول ضعيف ولاسيما وأن لدينا عموم: لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم التشهد قال: "ثم ليتخير من الدعاء ما شاء".
ومن فوائد هذا الحديث: أن بعض الأحوال تكون أقرب إلى الإجابة من بعض فهنا الدعاء في السجود أقرب إلى الإجابة من الدعاء في الركوع لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه وقال: "إنه أحرى"، فالإنسان له أحوال تكون الإجابة فيها أقرب كذلك هناك أزمان تكون الإجابة أقرب: كثلث الليل الآخر، وبين الأذان والإقامة وما أشبه ذلك كذلك يكون بعض الأمكنة أقرب إلى إجابة الدعاء كالكعبة المشرفة وما أشبه ذلك، المضطر يجاب من أي الأنواع؟ من الأحوال.
إذا قال قائل: أليس قد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزلت سورة النصر