الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدعاء بعد التشهد وأحكامه:
304 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال". متفق عليه.
- وفي روايةٍ لمسلم: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير".
هذا الحديث أمر فيه النبي- عليه الصلاة والسلام إذا تشهدوا أن يتعوذوا بالله من أربع، ولكن هذا في التشهد الأخير كما تقيده رواية مسلم، لأن التشهد الأول ينبغي تخفيفه وعدم الإطالة فيه، لكن في التشهد الأخير تدعو بما شئت، ولكنك لا تختار دعاءً خيرًا مما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو الاستعاذة من هؤلاء الأربع.
وقوله- عليه الصلاة والسلام "فليستعذ" اللام فيها للأمر، والأصل في الأمر الوجوب، ولهذا ذهب طائفة من أهل العلم أنه يجب على الإنسان أن يستعيذ بالله من هذه الأربع في كل صلاة، حتى إن بعضهم قال: إن وجوبها أوكد من وجوب الصلاة على النبي التي ذهب كثير من أهل العلم أنها ركن، وأمر طاوس- وهو أحد التابعين- ابنه لما لم يتعوذ من هذه الأربع أن يعيد الصلاة، وهذا يدل على أنه يراها واجبة أو ركن، وعلى هذا فلا ينبغي للإنسان أن يخل بها لسببين: الأول: أمر النبي- عليه الصلاة والسلام، السبب الثاني: ما تشتمل عليه هذه الأمور العظيمة من وقاية.
قوله: "اللهم إن أعوذ بك من عذاب جهنم" وجهنم هي النار- نعوذ بالله منها- وسميت جهنم، لأنه مجهمة مظلمة- والعياذ بالله- ما فيها خير ولا نور، وقعرها بعيد، حتى إن الرسول- عليه الصلاة والسلام كان مع أصحابه ذات يومٍ فسمع وجبة؛ يعني: صوت شيءٍ وقع، فقال:"أتدرون ما هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين سنةٍ يهوي فيها الآن في قعرها"- والعياذ بالله-، وعذاب جهنم لا يتصور وليس له نظير، ولا يمكن أن يبلغه الخيال- والعياذ بالله-، لأنه عذاب دائم مستمر {لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون} [الزخرف: 75]. حتى إنهم يقولون: {يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف: 77]، يتمنون الهلاك، ولكنه لا يحصل لهم، حتى إنهم يقولون لخزنة جهنم:{ادعوا ربكم يخفف عنا يومًا من العذاب} [غافر: 49]. هؤلاء الكفار قالوا: "يخفف"، ولم يقولوا: يرفع عنا يومًا، أو دائمًا، فلم يسألوا التخفيف
الذي يكون دائمًا، لأن ذلك غير حاصل، وهم أيضًا آيسون من هذا، ولهذا ما سألوا الدفع ولو ساعةً من نهار، لأنهم قد علموا أن ذلك لا يمكن، وأيضًا هم ليس عندهم من الجرأة ما يدعون الله. قالوا لخزنة جهنم:{ادعوا ربكم} ، أما هم- والعياذ بالله- فإنهم أذل في نفوسهم من أن يدعو الله عز وجل، ولعل هذا- والله اعلم- بعد أن يقول لهم الرب عز وجل:{اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108]. هذا العذاب لا يتصور، يموتون من العطش فإذا استغاثوا- بعد أن يلحق بهم العطش ما يلحق- يغاثوا بماءٍ كالمهل يشوي الوجوه. "المهل": الرصاص المذاب- والعياذ بالله- أو أشد من ذلك، يشوي الوجوه قبل أن يصل إليها، ثم إذا شربوه- والعياذ بالله- يقول الله عز وجل:{وسقوا ماءً حميمًا فقطع أمعاءهم} [محمد: 15]. {كالمهل يغلي في البطون* كغلي الحميم} [الدخان: 45 - 46]، هذا غيثهم والعياذ بالله، ومع ذلك تحترق جلودهم، وكلما نضجت جلودهم يقول الله عز وجل:{بدلناهم جلودًا غيرها} [النساء: 56]. لا لتخفيف الألم عنها ولا لكي تبرأ، ولكن {ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزًا حكيمًا} [النساء: 56]. وتأمل مثل قوله: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم} [النساء: 56]. تدل على التكرار وأن ذلك دائمًا متكرر- والعياذ بالله-.
هذا العذاب العظيم الذي ما نحيط بوصفه فضلًا عن تصور حقيقته، هذا العذاب العظيم جدير بكل مؤمنٍ أن يسأل الله عز وجل أن يعيذه منه في كل صلاةٍ ما أعظمها من فائدةٍ أن يعيذك الله من هذا العذاب، ولهذا كان القول بوجوب الاستعاذة من هذه الأربع قولًا قويًا جدًا.
أما قوله: "ومن عذاب القبر" ففيه إثبات عذاب القبر، وأنه كائن لا محالة وهو كذلك، وقد دل عليه الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة، أما الكتاب فإن الله تعالى يقول في آل فرعون:{النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]. وفي قراءة: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} ، وفي قوله:{غدوًا وعشيًا} {ويوم تقوم الساعة} دليل على أن هذا العرض يكون قبل قيام الساعة، وكذلك قوله تعالى:{ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم} [الأنعام: 93 [. وكأنهم يشحون بأنفسهم أن تخرج فتتفرق في الجسم فينزعونها نزعًا شديدًا كما ينزع السفود من الصوف المبلول- والعياذ بالله- {أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون} [الأنعام: 93]. {اليوم} "أل" هذه للعهد الحضوري كما هو معروف في علم النحو {عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون} [الأنعام: 93]. وكقوله تعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق} [الأنفال: 50]. الشاهد قوله: {يضربون وجوههم وأدبارهم} هذه آيات عظيمة تدل على ثبوت عذاب القبر.
أما الأحاديث فكثيرة جدًا بحيث تكاد تبلغ حد التواتر، فمنها حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن
النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير". يعني: ما يعذبان في أمرٍ شاقٍ عليهما، ولذلك جاء في روايةٍ في الصحيح:"بلى إنه كبير"، فهما يعذبان في أمرٍ كبير، أي: في أمرٍ عظيم شاق عليهما تركه، ولكنه كبير بهذه الذنوب، "أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول" يعني: لا يبالي إذا أصاب البول ثوبه أو بدنه ولا يهتم بذلك حتى يتطهر، "وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" ينم بين الناس فيفسد بين الناس- العياذ بالله-، ولذلك قال النبي- عليه الصلاة والسلام:"لا يدخل الجنة نمام".
استنبط بعض العلماء من حديث ابن عباسٍ مسألةً مهمةً فقال: إذا كان الإنسان يعذب في قبره، لأنه لا يستنزه من البول الذي يشترط لصحة الصلاة الاستنزاه منه، فما بالك بالذي يترك الصلاة، لأن هذا الذي أخل بالاستنزاه من البول ترك شرطًا من شروط الصلاة فقط، فكيف بالذي يدع الصلاة بالكلية؟ ! فأنا لا أشك في أن الذي يدع الصلاة بالكلية كافر، بل هو أكفر من اليهود والنصارى، بمعنى انه: لو كان في بيتٍ من بيوتنا يهود ونصارى ما رضينا بذلك، لكن الذين لا يصلون لا مع الجماعة ولا في بيوتهم يكون أكفر من اليهود والنصارى، لأنهم مرتدون، لا تحل ذبائحهم، ولا تحل لنا نساؤهم، ولا يدفنون مع المسلمين، ولا يغسلون، ولا يدخلون مكة وحرمها، لأنهم مرتدون لا يجوز أن يبقوا لحظةً في الدنايا إلا بعدما يستتابون ثلاثة أيامٍ على القول بالاستتابة ثم إذا لم يصلوا يقتلون، ولا يقتلون حدًا، لأن الحد يطهر المحدود، ويوجب أن يكون المحدود مسلمًا يدفن مع المسلمين ويصلى عليه، لكنهم يقتلون كفرًا، فيخرج بهم إلى أماكن يرمثون فيها رمثًا؛ لأنهم ليس لهم حرمة، إذا حشروا يوم القيامة يحشرون مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، فأنا لا أشك في أن من ترك الصلاة تركًا مطلقًا أنه كافر خارج عن الإسلام- والعياذ بالله- والأدلة عندنا في ذلك من الكتاب والسنة وأقوال السلف ظاهرة، وقد سقناها عدة مرات، حتى إن عبد الله بن شقيق- وهو من التابعين- كان يقول:"كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة". وهذا نقل للإجماع، وقد نقل غيره من علماء المسلمين أيضًا الإجماع على أن الصحابة مجمعون على كفر تارك الصلاة.
ولهذا أنا أعجب من بعض الناس الذين يستنكرون هذا القول، ويقولون: أن الإمام أحمد
انفرد به، والحقيقة: أن استنكارهم إياه لعدم التأمل الجيد في الأدلة، ولو تأملوا الأدلة تأملًا جيدًا لوجدوا أن الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والنظر الصحيح كلها متطابقة على أن تارك الصلاة كافرًا كفرًا مخرجًا عن الملة، وأما انفراد الإمام أحمد رحمه الله بذلك فيعتبر من مناقبه، ومن دلالة فهمه لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقول الصحابة، وتعظيمه للآثار الواردة، فنحن لا نقدح في أحدٍ من أهل العلم الذي يقولون بخلاف ذلك؛ لأن هذه مسألة اجتهادية، ولكننا نعيب على من عاب على من يقول ذلك كأنه يلزم أو يشير بكلامه إلى الإمام أحمد رحمه الله لانفراده بذلك.
ولكنه لا شك أن من تأمل الكتاب والسنة وأقوال السلف والمعاني الصحيحة خاليًا من الاعتقاد والتمذهب لا شك أنه يتبين له، أن القول الراجح المتعين به هو القول بكفر تارك الصلاة كفرًا مطلقًا مخرجًا عن الملة- والعياذ بالله- ومما ينبغي لكل مستدلٍ أن يستدل قبل أن يعتقد حتى يكون اعتقاده مبنيًا على استدلالٍ سواءً كان هذا الاعتقاد في الأمور العلمية أو في الأمور الحكمية يعني: حتى الحكم لا تحكم على شيءٍ إلا بعد أن تبنيه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما إذا اعتقدت ثم أردت أن تبني الأدلة على الاعتقاد فهذا خطر عظيم، ولذلك تجد بعض الناس يتعصب للذي يعتقد ثم يريد أن يستدل، تجده أحيانًا يحاول أن يرد الأدلة إلى ما كان يعتقد إما بتأويلٍ أو بتعميمٍ أو بتخصيصٍ حسب ما بكون موافقًا لما يذهب إليه، وهذه مسألة خطيرة جدًا بالنسبة لطالب العلم، والذي أدعوكم جميعًا إليه هوأان يكون اعتقادكم المبني سواء كان هذا الاعتقاد مبنيًا على أمورٍ علميةٍ كالاعتقاد في أسماء الله وصفاته وأخباره، أو على أمورٍ حكمية أن يكون ذبك مبنيًا على الدليل بأن تستدل أولًا ثم تحكم ثانيًا بقدر المستطاع، قد لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى الحق بالدليل، إما لأنه ليس عنده الأدلة الكافية للاستدلال؛ أنه ما عنده علم، وإما أن المسألة تأتيه في حالةٍ لا يتمكن من البحث والاستدلال والمناقشة، فيكون في هذه الحال مضطرًا إلى التقليد، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"إن التقليد بمنزلة أكل الميتة". إذا لم تجد طعامًا فكله لا يحل إلى للضرورة، لأن الله يقول:{فاسألوا أهل الذكر} بشرطٍ وهو {إن كنتم لا تعلمون} ، أما من أمكنه أن يعلم فإنه لا يجوز له أن يقلد، لكن كما قلت لكم قد لا يستطيع الإنسان ولا يتمكن له أن يصل إلى الدليل، إما لكون
المسألة فورية ولا يتمكن، وإما لكونه غير أهلٍ للبحث والنظر في أدلة أهل العلم، وحينئذٍ يكون فرضه التقليد وقد اتقى الله ما استطاع.
لكن مع ذلك طالب العلم- أقول لنفسي ولكم- حتى لو اضطر في بعض الأحيان إلى التقليد لعدم التمكن من الاستدلال فلا يدع المسألة، بل يبحث ويجتهد حتى يفتح الله تعالى عليه، ثم إما أن يكون الأمر اتضح له بأنه على صواب أو أنه على خطأ، فإن كان على صوابٍ فليحمد الله وليستمر، وإن كان على خطأ فليستعتب وليرجع إلى الصواب.
305 -
وعن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه أنه يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "علمني دعاءً أدعو به في صلاتي. قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم". متفق عليه.
أولًا: اعرف أهمية هذا الدعاء وقدره لمن سال، ولمن سئل: فالسائل: أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه، وهو أحب الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب في هجرته، إذن لابد أن يكون لهذا الدعاء، شأن كبير، والمسئول: النبي- عليه الصلاة والسلام، فسوف يعلم الصديق رضي الله عنه أجمع دعاءٍ وأنفعه. وقوله:"علمني دعاءً أدعو به في صلاتي" في هذا دليل على طلب العلم حتى من الكبراء، وأن الإنسان لا ينبغي له أن يأنف من طلب العلم، أو يقول: أنا عندي علم فلا تعلون، هذا أبو بكرٍ رضي الله عنه أعلم الصحابة ومع ذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ان يعلمه دعاء.
وفي قوله: "علمني دعاءً أدعو به في صلاتي" دليل على أن الدعاء في الصلاة من أفضل ما يكون، فإن الصلاة فيها السجود الذي قال فيه النبي- عليه الصلاة والسلام:"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، وأمرنا أن نجتهد فيه بالدعاء، وقوله:"في صلاتي" لم يبين الموضع، فهل يكون في السجود أو بين السجدتين، أو بعد التشهد؟ ظاهر صنيع المؤلف رحمه الله أنه يكون بعد التشهد، لأنه ذكره في أدعية التشهد، ولكن الحقيقة أنه- أعني: الحديث- ليس فيه دليل على ذلك، فأنت لو دعوت الله في حال السجود أو بعد التشهد فكله حسن وحسب ما تيسر لك.
قال النبي- عليه الصلاة والسلام: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" هذا جمع بين الاعتراف والسؤال والثناء، فجمع كل أنواع ما يدعى به، لأن دعاء الله عز وجل إما أن يكون بالاعتراف وذكر الحال، أو بالثناء المجرد، أو بهذا وبهذا جميعًا، فهنا دعاء وثناء وذكر حال، أما الاعتراف وذكر الحال ففي قوله:"اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا" هذا اعتراف من الإنسان بأنه ظالم لنفسه
ظلمًا كثيرًا، وفي رواية:"ظلمًا كثيرًا"، والفرق بينهما: أن الكبر باعتبار الكيفية والكثرة باعتبار الكمية، وأكثر الروايات على:"كثيرًا".
وقوله: "ظلمت نفسي" لماذا قال: "ظلمت نفسي" والإنسان لا يظلم نفسه وإنما يظلم غيره؟ نقول: لأن نفسك أمانة عندك، يجب عليك أن ترعاها حق رعايتها، فلهذا إذا نقصتها شيئًا مما يجب لها فإنك تكون ظالمًا لها، وبماذا يكون ظلم النفس؟ ظلم النفس يدور على شيئين: إما تفريط في واجب، أو انتهاك لمحرم هذا ظلم النفس، فمن فرط في واجباته فقط ظلم نفسه، ومن انتهك محارم الله فقد ظلم نفسه، ولهذا قال عز وجل:{ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} [الطلاق: 1].
وقوله: "ولا يغفر الذنوب لا أنت" هذا الثناء ثناء على الله بأنه لا أحد يغفر الذنوب إلا الله كما قال تعالى في سورة آل عمران: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} [آل عمران: 135]. لو اجتمع الخلق كله على أن يغفروا لك زلةً من الزلات في حق الله عز وجل فإن ذلك لا يمكن، أما الذنوب التي بينك وبين الخلق فيمكن أن يغفروا لك كما قال الله تعالى:{قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} [الجاثية: 14]. وقال تعالى: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} ] التغابن: 14]. لكن في حق الله تعالى لا يمكن لأحدٍ أن يغفر لك ذنبًا وإنما الذي يغفره الله عز وجل.
وقوله: "ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر ليه مغفرةً من عندك" هذا الدعاء "فاغفر لي" وقد سبق لنا مرارًا وتكرارًا أن المغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه؛ لأنها مأخوذة من المغفر الذي يغطى به الرأس عند الحرب، والمغفر يغطي الرأس ويقيه السهام ففيه ستر ووقاية، وقوله:"فاغفر لي مغفرةً من عندك" نكرها "مغفرة" لأن التنكير يدل على التعظيم، ثم زادها تعظيمًا بقوله:"من عندك" فأضافها إلى الله عز وجل لن المغفرة من الكريم تكون أعظم وأكبر.
وقوله: "وارحمني" عطف على "فاغفر لي" وذلك أن الإنسان محتاج إلى معونة الله تعالى في شيئين: غفران لذنوبٍ مضت، ورحمة يسلم بها من ذنوبٍ مستقبلة، والمغفرة للذنوب الماضية والرحمة للعصمة من الذنوب في المستقبل وجه آخر، قد يقال: المغفرة بها زوال المكروب، والرحمة بها حصول المطلوب، لأن الله عز وجل يذكر نعمه على عباده ويجعلها من آثار رحمته، وكله صحيح، فأنت إذا سالت الله المغفرة والرحمة، تسأل الله مغفرة ما سلف والرحمة في العصمة مما يستقبل، أو تسأل الله مغفرة الذنوب التي بها زوال المكروب والرحمة التي بها حصول المطلوب.
ثم قال: "إنك أنت الغفور الرحيم" هذا كالتعليل للدعاء، لأنه سال شيئين هما المغفرة والرحمة، ثم أتى بعدهما باثنين من أسماء الله يتضمنان ذلك ومهما "إنك أنت الغفور الرحيم"، و"أنت" هنا يقول أهل النحو: إنها ضمير فصل، وضمير الفصل له ثلاث فوائد: التوكيد، والثاني: الحصر، والثالث: التمييز بين الخبر والصفة، ولهذا سمي فصلً يفصل. فأنت إذا قلت:"زيد الفاضل" يحتمل ان تكون "الفاضل" صفة لزيد والخبر ما بعد خبر، ولكن إذا قلت:"زيد هو الفاضل" يتعين أن تكون "الفاضل" خبرًا، ولهذا سمي ضمير فصل، والصحيح من أقوال المعربين: أنه حرف لا محل لله من الإعراب كما قال تعالى: {لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم} [الشعراء: 40]. الغالبون أم الغالبين؟ {الغالبين} بالياء، فدل هذا على أنها لا محل لها من الإعراب، هذا الدعاء الذي علمه النبي- عليه الصلاة والسلام الصديق رضي الله عنه ينبغي للإنسان أن يدعو به في صلاته إما بعد التشهد لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود:"ثم ليتخير من الدعاء ما شاء"، ولا شك أن ما عينه النبي- عليه الصلاة والسلام وأرشد إليه خير مما نعينه نحن؛ لن الأدعية الواردة انفع وأجمع من الدعية المستحدثة، وإن كان الإنسان له أن يدعو بما شاء ما لم يكن إثمًا، لكن الحفاظ على الأدعية الواردة أحسن، وإما أن يقال: محله السجود لقول النبي- عليه الصلاة والسلام: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" وأي دعاءٍ دعوت به سواء هذا أو هذا فإنه لا بأس به.
هذا الدعاء قلنا: غنه تضمن ثلاثة أمور يتوسل بها إلى الله في الدعاء: أولًا: الاعتراف والثناء والطلب، وقد يكون الدعاء مجرد إخبار بالحال واعتراف لقول موسى:{رب إني لما أنزلت إلي من خيرٍ فقير} [القصص: 24]. أخبر عن نفسه فقط، والله عز وجل إذا أخبره عبده بحاله فمعناه: أنه يسأل أن يزيل تلك الحال إلى حالٍ خير منها، وقد يكون الدعاء دعاءً مجردًا فقط مثل قول الإنسان في صلاته:"رب اغفر لي وارحمني" بين السجدتين ما تقدمه ثناء، بل هو دعاء محض، وقد يكون الدعاء ثناءً محضًا؛ يعني: تثني على الله عز وجل، "اللهم أنت الكريم العظيم الرحيم" وما أشبه ذلك. فهذا أيضًا من الدعاء، ولهذا قال الرسول- عليه الصلاة والسلام: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له
…
" إلخ، هذا الحديث الذي علمه الرسول- عليه الصلاة والسلام أبا بكرٍ جامع للأصناف الثلاثة.
* * *