الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال العماد:
" فجاءت كالفتح بالفلك المواخر، وجاءت كأنها أمواج تلاطم أمواجا، وأفواج تزاحم أفواجا، تدب على البحر عقاربها، وتخب كقطع الليل سحائبها، والحاجب لؤلؤ مقدمها ومقدامها، وضرغام غايتها وهمامها، فطفق يكسر ويكسب، ويسل ويسلب، ويقطع الطريق على سفن العدو ومراكبه، ويقف له في جزاير البحر على مذاهبه ".
[273]
ذكر فتح بيت المقدس
وحين خلا سر السلطان من فتح عسقلان وما حولها، ووصل الأسطول، سار متوجها إلى البيت المقدس وبه البترك المعظم (1)، وهو عندهم أعظم شأنا من ملكهم، وبه أيضا بليان (2) بن بارزان - صاحب الرملة -، ومرتبته عندهم تقارب مرتبة الملك، وبه أيضا من خلص من فرسانهم من حطين [وغيرها](3) وقد جمعوا وحشدوا، واجتمع أهل عسقلان ونواحيها إليهم [وهم](3) يرون أن الموت أيسر عليهم من أن يملك المسلمون عليهم البيت المقدس، إذ هو بيت معبودهم، ومحل تجسد (4) ناسوتهم، - كما زعموا - بلاهوتهم، وفيه قمامة التي يدعونها القيامة، ومحل ضلالتهم، وقبلة جهالتهم، وفيها زعموا أن المسيح [عليه السلام](3) دفن بعد الصلب، وقام بعد ثلاث (5)
(1) الأصل: «الأعظم» والتصحيح عن س (17 ب) و (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 206) وهو المرجع المنقول عنه هنا.
(2)
هو بليان الثانى الإبلينى (Balain II of Ibelin) والاسم في ابن الأثير: «باليان بن بيرزان» .
(3)
ما بين الحاصرتين عن س.
(4)
هذا اللفظ ساقط من س.
(5)
في س (17 ب): «ذلك» .
من القبر، وصعد إلى السماء، فهم يعتقدون أن بذل الأنفس والأموال والأولاد بعض ما يجب عليهم في حفظه والذبّ عنه، فحصنوه في تلك الأيام بكل ممكن، ونصبوا المنجنيق على السور ليمنعوا ممن يريد النزول عليه والدنو منه.
ولما قرب السلطان منه تقدم الأمير جمال الدين شروين بن حسن الزرزارى في جماعة من أصحابه، غير محتاط ولا حذر، فلقيه جماعة من الفرنج قد خرجوا من القدس ليكونوا يزكا (1)، فقتلوه وقتلوا جماعة ممن معه، فأهم المسلمين فقده، وفجعوا بقتله.
وسار السلطان في عساكر المسلمين حتى نزل على القدس يوم الأحد خامس عشر رجب، ونزل بالجانب الغربى، وكان مشحونا بالمقاتلة من الخيالة والرجالة، لقد تحاذر [كذا] أهل الخبرة عدة من كان فيه من المقاتلة، بما يزيد على ستين ألفا ما عدا النساء والصبيان.
وبقى السلطان خمسة أيام يطوف حول البلد، لينظر من أين يقاتله، لأنه في غاية الحصانة والامتناع، فلم يجد عليه موضع قتال إلا من جهة الشمال نحو [باب عمود أو كنيسة صهيون](2)، فانتقل إلى هذه الناحية يوم الجمعة لعشر بقين من رجب، ونصب عليها المنجنيقات، وأصبح العدو وقد فرغ من نصبها، ورمى بها؛ ونصب العدو على سور البلد منجنيقات ورموا بها، وتقاتل الفريقان أشد قتال رآه الناس، وكل [288] منهم يراه فرضا واجبا في دينه، لا يحتاج فيه إلى باعث سلطانى، بل كانوا يمنعون فلا يمتنعون ويزجرون فلا ينزجرون.
وكانت خيالة (3) الفرنج يخرجون كل يوم إلى ظاهر البلد فيقاتلون ويبارزون، فيقتل من الفريقين جماعة، فممن استشهد من المسلمين على القدس الأمير
(1) راجع ما فات هنا ص 38، هامش 3
(2)
الأصل وس: «باب عمودا» والتصحيح عن (ابن الأثير، ج 11، ص 207).
(3)
كذا في الأصل وفى ابن الأثير، وفى س:«رجالة» .
عز الدين عيسى بن شهاب الدين بن مالك العقيلى، الذى كان أبوه صاحب قلعة جعبر، وكان يصطلى القتال بنفسه كل يوم، فلما رأى المسلمون مصرعه عظم عليهم، وحملوا حملة رجل واحد، فأزالوا الفرنج عن مواقفهم، وأدخلوهم بلدهم، ووصل المسلمون إلى الخندق، فجاوزوه والتصقوا بالسور فنقبوه، وزحف الرماة يرمونهم، والمجانيق توالى الرمى، ليكشف العدو عن السور، ليتمكن المسلمون من النقب، فلما نقبوه حشوه [بالأخشاب](1)
ولما رأى الفرنج شدة قتال المسلمين، وتحكم المنجنيقات في السور، وتمكن النقابين من النقب، وأنهم قد أشرفوا على الهلاك، اجتمعوا يتشاورون فيما يأتون ويذرون (2)، فاتفق رأيهم على طلب الأمان، وتسليم القدس للسلطان، فأرسلوا جماعة من كبرائهم في طلب الأمان وتسليم القدس للسلطان، وامتنع السلطان من إجابتهم للأمان وقال:
" لا أفعل إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه [من المسلمين] (3) سنة إحدى وتسعين وأربعمائة من القتل والسبى، وجزاء السيئة بمثلها (4) ".
فلما رجع الرسل خائبين محرومين أرسل باليان بن بارزان يطلب الأمان لنفسه، ليحضر عند السلطان في هذا الأمر وتحريره، فأجيب إلى ذلك، وحضر ورغب في الأمان، وسأل فيه فلم يجبه إلى ذلك، فاستعطفه فلم يعطف عليه، واسترحمه فلم يرحمه، فقال له:
(1) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (18 ا)، والنص في ابن الأثير:«حشوه بما جرت به العادة» ، والنص عند العماد (الروضتين، ج 2، ص 94): «والتصقوا بالسور فنقبوه، وعلقوه وحشوه وأحرقوه» .
(2)
س: «ويدبرون» .
(3)
ما بين الحاصرتين عن س.
(4)
س: «وجزاء السيئة سيئة مثلها» وما هنا يتفق ونص (ابن الأثير، ج 11، ص 207) وهو الأصل المنقول عنه هنا.
" أيها الملك: اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير لا يعلمهم (1) إلا الله تعالى، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان ظنا منهم أنك تجيبهم إليه، كما أجبت غيرهم، وهم يكرهون الموت، ويرغبون في الحياة، فإذا رأينا الموت لابد منه فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا، ونحرق ما نملكه من أموالنا وأمتعتنا، ولا نترككم تغنمون منا دينارا ولا درهما، ولا تأسرون رجلا ولا امرأة، فإذا فرغنا من ذلك كله أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى، وغيرهما من المواضع الشريفة، [289] ثم نقتل من عندنا من أسرى المسلمين، وهم خمسة (2) آلاف أسير، ولا نترك لنا دابة ولا حيوانا إلا قتلناه، ثم خرجنا إليكم، وقاتلنا قتال من يريد أن يحمى دمه ونفسه، وحينئذ لا يقتل الرجل حتى يقتل أمثاله، ونموت عزاء ونظفر كراما (3) ".
فاستشار السلطان أصحابه، فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان، وأن لا يخرجوا وبحملوا على ما لا ندرى عاقبة الأمر فيه، وعن أي شىء ينجلى الأمر، وقالوا:
" نحسب أنهم أسارى بأيدينا، فنبيعهم نفوسهم بما يستقر بيننا وبينهم ".
فأجاب السلطان إلى بذل الأمان للفرنج، واشترط: أن يزن كل رجل عشرة دنانير، يستوى فيها الغنى والفقير، وتزن المرأة خمسة دنانير، ويزن الطفل من الذكور والإناث دينارين، فمن أدّى ذلك إلى أربعين يوما نجا، ومن انقضت الأربعون يوما ولم يؤد ما عليه فقد صار مملوكا.
فبذل الملك باليان بن بارزان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار، فأجيب إلى ذلك.
(1) س: «لا يعلم عددهم» .
(2)
س: «ستة» وما هنا يتفق والأصل المنقول عنه وهو (ابن الأثير: الكامل، ج 11 ص 208). وأنظر أيضا العماد (الروضتين، ج 2، ص 95).
(3)
س: «ونموت أعزاء كراما ولا نموت أذلاء لئاما» ، والنص هنا يتفق ونص ابن الأثير.
وسلمت المدينة يوم الجمعة لثلاث بقين من رجب من هذه السنة - أعنى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة -
وكان ذلك اليوم مشهودا، ورفعت الأعلام الإسلامية على الأسوار، ورتب السلطان على كل باب من أبواب البلد أمينا من الأمراء، ليأخذوا من أهله ما استقر عليهم، فاستعملوا الخيانة، ولم يؤدوا الأمانة، واقتسم الأمناء الأموال، وتفرقت أيدى [سبا](1)، ولو أديت فيها الأمانة، لملأت الخزائن، فإنه كان فيه ستون ألفا، ما بين فارس وراجل، سوى ما يتبعهم من النساء والولدان والأطفال، وأطلق باليان بن بارزان ثمانية عشر ألف [رجل](2)، ووزن عنهم ثلاثين ألف دينار، وبقى بعد هذا كله من لم يكن معه ما يعطى وأخذ أسيرا ستة عشر (3) ألف آدمى ما بين رجل وامرأة وصبى، وهذا بالضبط اليقين.
ثم إن كل واحد من الأمراء وأصحاب الأطراف ادعى أن جماعة من رعية إقطاعه مقيمون بالقدس، فكان يطلقهم ويأخذ منهم القطيعة، كمظفر الدين بن زين الدين، ادعى أن جماعة من أهل الرّها بالقدس، وعدتهم ألف نفس؛ وكذا صاحب البيرة، ادعى أن فيه جماعة من أهل بلده من الأرمن، وعدتهم خمسمائه نفس.
وكان جماعة من الأمراء يلبسون الفرنج زىّ الجند [290] من المسلمين ويخرجونهم ويأخذون منهم قطيعة قرروها، واستوهب جماعة من السلطان عددا من الفرنج، فوهبهم لهم، فأخذوا قطيعتهم.
(1) ما بين الحاصرتين عن س وابن الأثير.
(2)
ما بين الحاصرتين عن (ابن الأثير، ج 11، ص 208)، والنص في س:«وأطلق باليان بن بارزان ثلاثة الاف رجل ووزن عنهم سنين ألف دينار» .
(3)
س (19 ا): «ستة الاف» وما هنا يتفق والأصل المنقول عنه وهو ابن الأثير.
وكان في القدس بعض نساء ملوك الروم وقد ترهبت وأقامت به، ومعها من الحشم والعبيد والجوارى خلق كثير، ولها من الأموال والجواهر النقيسة شىء عظيم، فطلبت الأمان لنفسها ولمن معها، فأمنها وسيرها.
وكذلك خرجت زوجة الملك المأسور [كى](1) وهى ابنة الملك أمارى، وكانت مقيمة بالقدس مع مالها من الخدم والخول (2) والجوارى، فاستأذنت السلطان في الاجتماع بزوجها، وكان مقيما في برج نابلس، موكلابه، فأذن لها في ذلك، فتوجهت إليه وأقامت عنده (3).
وأتت أيضا امرأة الابرنس أرناط - صاحب الكرك - الذى قتله السلطان بيده يوم حطّين، فشفعت في ولد لها مأسور، فقال لها السلطان:" إن سلمت الكرك أطلقته "؛ فسارت إلى الكرك، فلم يسمع منها الفرنج الذين فيه، ولم يسلموه، فلم يطلق ولدها، لكنه أطلق مالها ومن يتبعها.
وخرج البطرك الكبير الذى للفرنج، ومعه من أموال البيع - منها الصخرة والأقصى وقمامة - مالا يعلمه إلا الله تعالى، وكان له من المال مثل ذلك، فلم يعرض له السلطان، فقيل له:" خذ ما معه لتقوى به المسلمين " فقال:
" لا أغدر به "؛ ولم يأخذ منه غير عشرة (4) دنانير، وسيّر الجميع ومعهم من يحميهم إلى مدينة صور.
(1) ما بين الحاصرتين عن س، والعماد (الروضتين، ج 2، ص 96).
(2)
س: «الخيول» وما هنا يتفق والنص المنقول عنه وهو العماد (المرجع السابق).
(3)
في س (19 ب) بعد هذا اللفظ: «إلى أن خلصا جميعا» .
(4)
س: «عشرين دينارا» ، وما هنا يتفق ونص (ابن الأثير، ج 11، ص 208).
وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير (1) من ذهب، فلما دخل المسلمون البلد يوم الجمعة تسلق جماعة منهم إلى أعلا القبة ليقتلعوا الصليب، فحين صعدوا نظر المسلمون إليهم والأفرنج لينظروا ماذا يصنعون، فلما قلعوه وسقط، صاح الناس كلهم صوتا واحدا، من البلد ومن ظاهره، المسلمون والفرنج، أما المسلمون فكبّروا فرحا، وأما الفرنج فصاحوا توجعا وتفجعا، فسمع الناس صيحة كادت الأرض تميد بهم لعظمها وشدتها، ولم يتأت صلاة الجمعة يوم الفتح، وضاق الوقت [291] لأدائها.
وكان المسجد الأقصى - لاسيما (2) محرابه - مشغولا بالخنازير والخبث، وما أحدثوه من الأبنية؛ فإن الداويّة بنوا غربى الأقصى أبنية ليسكنوها، وعملوا فيها ما يحتاجون إليه من هرى (3) ومستراح، وغير ذلك، وأدخلوا بعض الأقصى في أبنيتهم، وبنوا في وجه المحراب جدارا، وتركوه هريا للغلة، وقيل اتخذوه مستراحا عنادا للإسلام وبغيا، فأمر السلطان بإزالة ما أحدثوه من البنيان، وكشف الجدار الساتر للمحراب، وتنظيفه وما حوله من الأقذار والنجاسات، ونصب المنبر لإقامة الخطبة الإسلامية، ونقض ما أحدثوه بين (4) السوارى، وبسط صحن الجامع بالبسط النفيسة بدل الحصر والبوارى، وتعليق القناديل وإقامة شعار الدين.
(1) هو صليب الصلبوت، وقد وصفه العماد (الروضتين، ج 2، ص 78) بقوله: «وهم يزعمون أنه من الخشبة التي يزعمون أنه صلب عليها معبودهم، وقد غلفوه بالذهب الأحمر وكللوه بالدر والجوهر. . . الخ» ، أنظر أيضا ما فات هنا ص 189 هامش 1
(2)
هذا اللفظ ساقط من س.
(3)
الهرى، والجمع «اهراء» و «هرى» البيت الكبير الضخم تخزن فيه الغلال أو طعام السلطان أنظر:(اللسان) و (المقريزى، إغاثة الأمة، نشر زيادة والشيال، ص 28).
(4)
الأصل: «ما أحدثوا من السوارى» وس (20 ا): «وخفض ما أحدثوا من السوارى» والتصحيح عن الأصل المنقول عنه هنا وهو العماد (الروضتين، ج 2، ص 108).