الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما بلغ الملك النصر صلاح الدين مسير الملك الصالح إلى حلب، واستبداد سعد الدين بتدبير أموره، وقبضه على أولاد الداية، عظم ذلك عليه وأنكره، وجعله من أكبر الحجج على قصد الشام، وأظهر أنه يريد بذلك تربية الملك الصالح والقيام بأموره، فكان ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وراسل سعد الدين سيف الدين وصالحه على ما أخذه من البلاد الجزيرية، فحينئذ استشعر شمس الدين بن المقدم ومن معه من الأمراء، وكاتبوا الملك الناصر صلاح الدين واستدعوه ليملكوه البلاد.
ذكر منازلة الفرنج للاسكندرية وعودهم عنها
وفى يوم الأحد لأربع بقين من ذى الحجة سنة تسع وستين وخمسمائة وصل أسطول (1) الفرنج بصقلية، وذلك قبل الظهر من يوم الأحد المذكور، ولم يزل متواصلا متكاملا إلى وقت العصر، وذكر (2) أن السبب في إرسال هذا الأسطول
(1) أسطول - وقد يرسم في المراجع العربية: اصطول أو صطول، والجمع أساطيل؛ كلمة يونانية الأصل (OTOAOU) وتطلق في اللغة العربية على السفن الحربية مجتمعة أو على السفينة الواحدة، ويقال للجندى الذى يعمل في الأسطول:" أسطولى "، أنظر:(KINDERMANN : Schiff، im Arabiachen، P. 1)
(Dozy : Supp .Dict .Arab) و (ابن خلدون: المقدمة: ص 138) و (على مبارك: الخطط التوفيقية، ج 14، ص 82) و (الخفاجى: شفاء الغليل، ص 38 و 119) و (الشيال: معجم السفن العربية).
(2)
مقابل هذا في س جملة مضطربة ونصها: " وذكر وقت إرسال هذا الأسطول من صقلية ما كنا ذكرنا. . إلخ ".
من صقلية ما كنا ذكرنا من مكاتبة المصريين لصاحب صقلية (1) وغيرهم من الفرنج ليقصدوا الديار المصرية، فسيّر صاحب صقلية هذا الأسطول، ولم يعلم أن صلاح الدين قبض على الذين كاتبوه، ولما وصل هذا الأسطول وكان وصوله بغتة فحمى (2) أهل الثغر البر عليهم، ثم أشير عليهم أن يقربوا من السور ففعلوا، فأمكن الأسطول النزول، فاستنزلوا خيلهم من الطرايد (3) وراجلهم
(1) هذه الجملة ذيل للمؤامرة التي اشترك فيها المصريون والفرنج لإعادة الدولة الفاطمية وكان من رؤوس المتآمرين فيها عمارة اليمنى، أنظر (الجزء الأول من هذا الكتاب، ص 243 - 259). وكان صاحب صقلية في هذه السنة هو وليام الثانى (William II) ابن وليام الأول بن روجر الأول (Roger I) وهذا الأخير هو مؤسس مملكة النور مانديين في صقلية سنة 1103 م، والكتب العربية تسمى هذا الحاكم:" غليالم بن رجار متملك صقلية "، ولم يكن غليالم هذا قد علم بفشل المؤامرة والقبض على المتآمرين، فأرسل حملته هذه التي منيت بالفشل. وللالمام بأخبار هذه الحملة وتفاصيلها أنظر:(Camb .Med .Hist .Vol .V،pp .184 - 207) و (LANE - POOLE : Suladin، P. 127)
و (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 55 - 57) و (ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 287) و (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 155 - 156) و (RUNCIMAN : History of the Crusades .vol .I، P. 403) و (الشيال: الاسكندرية، طبوغرافية المدنية وتطوردا، ص 221) و (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 234 - 235).
(2)
الأصل: " حمى " والتصحيح عن نص العماد في (الروضتين، ج 1، ص 234).
(3)
الطريدة - ويقال الطّرّاد أو الطرادة، أو التطريدة - والجمع: طرايد وطرائد، قال (ابن مماتى: قوانين الدواوين، طبعة الدكتور عطية، ص 339،) عند التعريف بها:" هى سفينة برسم حمل الخيل، وأكثر ما يحمل فيها أربعون فرسا "، والنص في المتن هنا يؤكد هذا المعنى بل ويثبت أن الحمولة العادية للطريدة من الخيل تتفق وما ذكره ابن مماتى، وقال (صاحب تاج العروس)" الطراد - ككتان - سفينة صغيرة سريعة السير والجرى، والعامة تقول تطريدة "، وقال:(Dozy Supp .Diet .Arab) هى نوع من المراكب الحربية أكثر شبها باليرميل الهائل من السفينة، وكانت تستعمل في حمل الخيول والفرسان، وأكثر ما يحمل فيها أربعون فرسا؛ وفى تاريخنا هذا - مفرج الكروب - في حوادث سنة 660 هـ ما يثبت أن الطريدة كانت تستعمل أحيانا لركوب الناس، فقد ذكر أن بيبرس أرسل في تلك السنة سفارة إلى ملك التتار بركة خان عن طريق البحر المتوسط والإمبراطورية البيزنطية " وركبهم في الطرايد، وأعطاهم زرادة شهور كثيرة "، وقد استعمل الأوربيون في العصور الوسطى هذا النوع من السفن، واشتقوا اسمه عن العربية نسموه في الأسبانية " Tarida " وفى الإيطالية " Tartana " وفى الفرنسية " Tartane " وفى الإنجليزية. " Tartan " أنظر أيضا (KINDERMANN : op .cit .pp .56 - 59) ؛ ومخطوطتنا (معجم السفن العربية).
من المراكب» وكانت خيلهم ألفا وخمسمائة رأس، وكانت عدتهم ثلاثين ألف مقاتل، ما بين فارس وراجل، وكان عدد الطرايد ستا وثلاثين طريدة تحمل الخيل، وكان معهم مائتا شينى (1) في كل شينى مائة وخمسون راجلا، وكان عدة السفن التي تحمل آلات الخرب والحصار من الأخشاب الكبار وغيرها ست سفن وكان عدة المراكب [الحمّالة](2) برسم حمل الأزواد والرجال أربعين مركبا،
(1) الشينى أو الشانى أو الشينية أو الشونة - والجمع شوانى - السفينة الحربية الكبيرة، وهى أهم القطع الكبيرة التي كان يتكون منها الأسطول في الدول الإسلامية، وقال (الزبيدى: تاج العروس) إنها من أصل مصرى، وذكر (ابن مماتى: قوانين الدواوين، ص 340) إن الشينى كانت تسير " بمائة وأربعين مجدافا، وفيها المقاتلة والجدافون " ويبدو أن هذا النوع من السفن كانت تقام فيه الأبراج والقلاع للدفاع عنه كما كانت ترمى منه النار والنفط على العدو. يبدو هذا واضحا في وصف الشاعر ابن حمديس الصقلى للشوانى، قال يمدح أبا يحيى الحسن بن على بن يحيى: أنشأت شوانى طايرة، وبنيت على ماء مدنا ببروج قتال تحسبها - في شم شواهقها - قننا ترمى ببروج إن ظهرت لعدو مخرقة بطنا وبنفط أبيض تحسبه ما، وبه تذكى السكنا ضمن التوفيق لها ظفرا من هلك عداتك ما ضمنا وبالإضافة إلى المراجع المذكورة في التحشية على لفظ " أسطول " و " طريدة " أنظر أيضا:(البتانونى: رحلة الأندلس، ص 141) و (المقريزى، اتعاظ الحنقا، طبعة الشيال، ص 102 هامش 1). ولا حظ أن المتن هنا يحدد حمولة الشينى في العادة بماثة وخمسين جنديا.
(2)
ما بين الحاصرتين زيادة عن س و (الروضتين)، والحمالة - والجمع حمالات - هى كما عرفها (ابن مماتى: قوانين الدواوين، ص 339 - 340) و (DOZY : Supp .Dict .Arab) ، نوع من السفن المخصصة لنقل مؤونة الجيش وأزواده والصناع والخدم الملحقين بالجيش والأسطول، (Vaisseau de Transport) وفى (صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص 220 - 221) ما يدل على أن «الحمالة» كانت تستعمل في حمل الخيل كذلك، قال:" وفى سنة ثمان وعشرين وثمانماثة (1425 م) عمر السلطان في مصر أربع حمالات كبار برسم شيل الخيول والأثقال، وتسع الناس الكثيرة. . . إلخ "، وجاء في (خليل بن شاهين: زبدة كشف الممالك، ص 139 - 140):" ثم إن العمارة تكملت، وهى خمس قراقير وتسعة عشر غرابا، وست حمالات برسم الخيول. . . إلخ ".
وفيها من الرجال المنفرقة وغلمان الخيّالة وصنّاع المراكب وأبراج الزحف ودباباته (1) ما يتمم خمسين ألف راجل.
ولما تكامل الفرنج نازلين على البر مما بلى البحر والمنارة (2) حملوا على المسلمين حملة أوصلتهم إلى السور (2) وفقد من أهل [174] الإسكندرية في وقت الحملة ما يناهز سبعمائة نفس (3)، وجذفت (4) مراكب الفرنج داخلة إلى الميناء وكان به مراكب مقاتلة ومراكب مسافرة، فسبقهم المسلمون إليها فخسفوها وغرّقوها، وغلبوهم على أخذها، وأحرقوا ما أحرق (5) منها، واتصل القتال إلى المساء (6)، وضرب الفرنج خيامهم بالبر وعدتها ثلاثمائة خيمة، ولما أصبحوا زاحفوا وضايقوا وحاصروا، ونصبوا ست (7) دبابات بكباشها (8)، وثلاثة مجانيق كبار المقادير تضرب بحجارة سود استصحبوها من صقلية، وتعجّب المسلمون من شدة أثرها وعظم حجرها، وأما الدبابات فانها تشبه الأبراج في جفاء (9) أخشابها وارتفاعها واتساعها وكثرة المقاتلة فيها، وزحفوا [بها](10) إلى أن قاربوا السور ولجوّا في القتال عامة النهار.
(1) في الأصل: " ودبابته " وما هنا عن س (61 ب) وهو أصح، ولشرح اللفظ أنظر الجزء الأول من هذا الكتاب: ص 180 - 181.
(2)
للالمام بأخبار المنارة والسور في العصر الإسلامى أنظر: (الشيال: الاسكندرية، طبو غرافية المدينة وتطورها).
(3)
س: " رجل "، وفى (الروضتين) و (السلوك):" سبعة أنفس ".
(4)
س: " وأحدقت ".
(5)
س: " ما أحرقوا ".
(6)
س: " المينا " والمتن هو الصحيح.
(7)
س و (الروضتين): " ثلاث دبابات ".
(8)
الكبش - ويجمع على أكبش وكبوش وكباش - آلة متصلة بالدبابة لها رأس ضخم وقرنان يدفعها الجنود نحو الأسوار لتحطيمها.
(9)
في الأصل: " حقا " وما هنا عن س و (الروضتين، ج 1، ص 235).
(10)
ما بين الحاصرتين عن س.
وكان السلطان الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله نازلا بعسكره على فاقوس، فلما وصل (1) إليه الخبر يوم الثلاثاء ثالث نزول العدو على جناح طائر، استنهض (2) العسكر إلى الثغرين (3): الاسكندرية ودمياط، احترازا عليهما واحتياطا، واستمر القتال، وقدمت الدبابات، وضربت المنجنيقات، وزاحمت السور إلى أن صارت منه بمقدار أماج [البحر، وأهاج الدور](4) وصبر أهل البلدة، ولم يكن عندهم من العسكر إلا قليل.
ورأى الفرنج من شجاعة أهل الإسكندرية وحسن سلاحهم ما راعهم، وتواصلت الأمداد إليهم.
وفى اليوم الثالث (5) فتح المسلمون باب البلد، وخرجوا على غفلة، وركب من كان هناك من الأمراء؛ وخرجوا من الأبواب وكثر الصياح من كل جانب؛ وتكاثروا على الفرنج، فأحرقوا الدبابات المنصوبة، وصدقوا عندها القتال؛ وأنزل الله سبحانه نصره على المسلمين، واتصل القتال إلى العصر من يوم الأربعاء - وهو رابع يوم نزولهم - وقد فشل الفرنج وفتر قتالهم (6)، واحترقت آلات قتالهم، واستمر القتل فيهم؛ ودخل المسلمون إلى البلد لقضاء فريضة الصلاة، وهم على نية المباكرة؛ والعدو على نية الهرب، ثم كبسوهم المسلمون بغتة عند قرب اختلاط الظلام، فهاجموهم [175] في خيامهم، فتسلموها بما فيها وقتلوا من الرجالة ما لا يحصى.
(1) س: «فوصل» .
(2)
س: «فاستنصر» .
(3)
س: «الثغر من» .
(4)
ما بين الحاصرتين زيادة عن (الروضتين، 1، ص 235) وهى زيادة ضرورية لفهم النص.
(5)
س «وفى اليوم الرابع من نزولهم فتح باب البلد، وخرجوا على غفلة من الفرنج» .
(6)
س «وبقين هناك قبالهم» وهذا مسخ للمعنى يدل على أن كاتب نسخة س كان مجرد ناسخ، وأنه كان ينسخ دون فهم في معظم الأحيان.
ولم يسلم من الخيالة إلا من نزع عنه لباسه ورمى نفسه في البحر، وأخذ الباقون أخذا باليد، واقتحم المسلمون البحر على بعض المراكب فخسفوها وأغرقوها؛ وولت بقية المراكب هاربة، وصار العدو - لعنه الله - بين قتيل وأسير وغريق؛ واحتمى ثلاثمائة فارس في رأس جبل (1)، وأخذت خيولهم، ثم قتلوا وأسروا وأخذ المسلمون من الآلات والمتاع والأسلحة ما لا يملك مثله، وأقلع الأسطول عن الثغر يوم الخميس مستهل المحرم سنة سبعين وخمسمائة.
ذكر خروج الكنز (2) بالصعيد ومقتله (3)
هذا الكنز هو رجل من مقدمى المصريين، كان قد انتزح إلى أسوان وأقام بها، فلم يزل يدبر أمره، ويجمع السودان عليه، وأوهمهم أنه يملك البلاد،
(1) في (الروضتين، ج 1، ص 235): «تل» .
(2)
كنز الدولة هذا هو نفس كنز الدولة حاكم أسوان المذكور سابقا (مفرج الكروب، ج 1، ص 229، هامش 1) والذى أرسل إلى صلاح الدين ينبثه بثورة الجنود السودانيين الفاطميين الفارين من الشمال بالصعيد، مما دفع صلاح الدين إلى إرسال جيوشه لإخضاع هؤلاء الثائرين وفتح بلاد النوبة وشمال السودان، والكنوز أصلا بطن من القبيلة العربية «ربيعة» ، استقروا حول أسوان وفى بلاد النوبة، ثم اختلطوا مع النوبيين وتزوجوا منهم، و «كنز الدولة» لقب منحه لأول مرة الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله لحاكم النوبة في عهده أبو المكارم هبة الله بن الشيخ أبى عبد الله محمد بن على عند ما ظفر بالثائر أبى ركوة الفار إلى بلاده وأرسله إلى الحاكم، وكان آخر من لقب منهم بهذا اللقب كنز الدولة هذا المعاصر لصلاح الدين، قال (المقريزى: البيان والإعراب، ص 50):«ولم تزل الإمارة معهم، وكلهم يعرفون بكنز الدولة، حتى كان آخرهم كنز الدولة، فقتله الملك العادل أبو بكر بن أيوب في سابع صفر سنة 570 عندما خالف على السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وجمع لحربه، وقتل أخا أبى الهيجا السمين، ودعا للأمير داود بن العاضد، وكان قتله على مدينة طود بعد حروب شديدة» ، وبنو كنز، أو الكنوز، هم سلالة هؤلاء العرب بعد اختلاطهم مع النوبيين، وكانت لهم السيطرة التامة على الصعيد الأعلى في العصر المملوكى، ولا زالت قبيلة الكنوز تعيش حتى اليوم في المنطقة الواقعة بين أسوان وكروسكو» أنظر أيضا:(المقريزى: اتعاظ الحنقا، مخطوطة سراى، ص 60 ب) و (TRIMINGHAM : Islam in the Sudan، P. 68) و (CASANOVA : Les Derniers Fatimides).
(3)
هذا العنوان غير موجود في س