الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأناخ ليلة السبت على خسفين، وكان قد تقدم إلى ابن أخيه تقى الدين بمصالحة العدو [273] الذى في ناحية بلد حلب، فصالحهم وتوجه إلى حماة قاصدا خدمة السلطان، ومعه عسكر الموصل، ومقدمهم فخر الدين مسعود بن الزعفرانى، وعسكر ماردين، فلحقوا السلطان بعشترا؛ ثم رحل السلطان من خسفين إلى الأردن، فنزل بثغر الأقحوان، فأقام هناك خمسة أيام، وقد عيّن مواقف الأمراء وشعارهم، وأحاطت عساكره ببحيرة طبرية عند قرية تعرف بالضبّرة (1).
ذكر فتح طبرية
ثم رحل من هناك، ونزل غرب طبرية على سفح (2) الجبل لتعبية الحرب، منتظرا أن الفرنج إذا بلغهم ذلك قصدوه، فلم يتحركوا من منزلتهم، فنزل جريدة على طبرية، وترك الأطلاب بحالها قبالة وجه العدو، وزحف إلى طبرية ففتحها في ساعة من نهار، وامتدت الأيدى إليها بالنهب والأسر والحريق والقتل، وامتنعت عليه القلعة وحدها.
ذكر وقعة حطّين
وهذه الوقعة كانت مفتاح الفتوح الإسلامية، وبها تيسّر فتح بيت المقدس، وكان من حديثها أن الفرنج - لعنهم الله - لما تحققوا باجتماع كلمة المسلمين،
(1) الأصل: " بالصيرة " وقد صححت بعد مراجعة (الروضتين، ج 2 ص 81)، وضبطت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث ذكر أنها موضع بالأردن مقابل لعقبة أفيق، بينه وبين طبرية ثلاثة أميال.
(2)
الأصل: «سطح» ، وما أثبتناه قراءة ترجيحية.
وجاءهم مالا يعهد لهم مثله اجتمعوا وانتحوا، وكان القومص قد باينهم - كما ذكرنا -، فدخل عليه الملك، ورمى نفسه عليه، فدخل معهم ووافقهم، فصففوا راياتهم بصفورية، وحشدوا وجمعوا جموعهم، وجاءتهم الأمداد من سائر بلادهم الساحلية، وجمعت عبرتهم خمسين ألفا، ورفعوا صليب الصلبوت (1)، وهو قطعة من الخشبة التي يدعون أن المسيح عليه السلام صلب عليها.
وانتظر السلطان بروزهم للمصاف فلم يبرحوا من صفورية، فقصد طبريّة - كما ذكرنا -، وفتحها، وامتنعت القلعة، وبها زوجة القومص؛ ولما بلغه افتتاح بلده قامت قيامته، وقال للفرنج:
" لا قعود لنا بعد اليوم، وإذا أخذت طبرية ذهبت منا البلاد بأسرها ".
فوافقوه ورحلوا بجموعهم نحو السلطان ليمنعوه من أخذ قلعة طبرية، ولما بلغ السلطان حركتهم نحوه سر بذلك، لأنه كان مقصوده لقاهم، وإطفاء جمرتهم، إذ علم رحمه الله أنه لا يتيسر له أخذ [274] البلاد إلا بعد ذلك، فترك على طبريّة من يحفظ قلعتها، ولحق العسكر هو ومن معه، والتقى (2) العسكران على سطح جبل طبريّة الغربى منها، وحال الليل بين الفئتين، وباتا على مصاف، شاكين في السلاح إلى صبيحة (3) الجمعة، وهو الرابع والعشرين من ربيع الآخر، فركب العسكران وتصادما، وذلك بأرض تسمى اللوبيا، ولم يزل الحرب بينهم إلى أن حجز الظلام، فبات كل فريق في سلاحه.
(1) تذكر المراجع أن هذا الصليب نقل إلى جزيرة قبرص بعد إجلاء الصليبيين عن الشام، ثم استولى عليه المسلمون عند فتحهم لهذه الجزيرة سنة 1426 م، على أنه بقى بتلك الجزيرة، ورآه هناك أحد الرحالة الأوربيين سنة 1488 م. أنظر:(ZIADA : Mamlouk Conquest of Cyprus، P. 102) .
(2)
الأصل: " والتقا ".
(3)
الأصل: " صبحة " وقد صحت بعد مراجعة (الروضتين، ج 2، ص 81).
وأصبحوا يوم السبت الخامس والعشرين من ربيع الآخر على هيئتهم، وقد حاز المسلمون عنهم ماء البحيرة وراءهم، فلم يبق للفرنج إليه وصول، فاشتد بهم العطش، وفرغ ما معهم من الماء، وأخذتهم سهام المسلمين، وكثر فيهم الجراح، وقوى الحر، وسلبهم العطش القرار، وصاروا كلما حملوا ليتيسر لهم ورود الماء (1) صدّوا وردّوا، واستولى عليهم الأسر والقتل، فأووا إلى جبل حطّين ليعصمهم (2) من البلاء بعد أن انهزم منهم طائفة، وتبعهم طائفة من المسلمين، فلم ينج منهم أحد.
وهرب القومص - لعنه الله - فلم ينجه إلا الهزيمة بحشاشة نفسه متوجها نحو صور (3)، وتبعه جماعة من المسلمين، ولم يدركوه، وكفى الله المسلمين كيده.
وأحاط المسلمون بالباقين الذين اجتمعوا (4) بجبل حطّين، وهى قرية عندها قبر شعيب النبى عليه السلام، وضايقوهم، وأشعلوا حولهم النيران في حلفاء كانت هناك، فارتفع لهبها، واجتمع عليهم حر الهاجرة وحر النار وحر العطش وألم الجراح، وحطوا خيامهم على ظهر التل، فعاجلهم المسلمون عن ضربها، واشتد الطعن والضرب، ودارت عليهم دائرة السوء، وعلموا أنه لا ينجيهم من الموت إلا الإقدام عليه، فحملوا على المسلمين حملات متداركة كادوا يزيلون المسلمين - على كثرتهم - عن مواضعهم، فثبّت الله أقدام المؤمنين ونصرهم، ولم يحمل العدو حملة إلا وقتل منهم وأسر جماعة، فوهنوا
(1) بهذا اللفظ نعود ثانية للمقابلة مع نسخة س وإنما في (ص 10 أ).
(2)
س: " ليمنعهم ".
(3)
س: " صفورية ".
(4)
س: " احتموا ".
وهنا عظيما، ولم يمكنهم نصب خيمة إلا خيمة ملكهم لا غير (1)؛ وملك المسلمون صليبهم الأعظم الذى يسمونه صليب الصلبوت (2)، فأيقنوا بعده بالبوار، واشتجر فيهم القتل والأسر، وبقى الملك [275] على التل في مائة وخمسين فارسا.
لحكى ابن الأثير عن من حكى له عن الملك الأفضل نور الدين على رحمه الله قال:
" كنت إلى جانب أبى في ذلك المصاف، وهو أول مصاف شاهدته، فلما صار ملك الفرنج على التل في تلك الجماعة حملوا حملة منكرة على من بازائهم من المسلمين حتى ألحقوهم بوالدى، قال: فنظرت إليه وقد علته كآبة، واربدّ لونه، وأمسك بلحيته، فتقدم وهو يصيح: " كذب الشيطان "؛ فعاد المسلمون على الفرنج، فرجعوا (3) فصعدوا على التل، فلما رأيت الفرنج قد عادوا والمسلمون يتبعونهم، صحت من فرحى: " هزمناهم، هزمناهم "؛ فعاد الفرنج فحملوا حملة ثانية مثل الأولى، حتى ألحقوا المسلمين بوالدى، وفعل هو مثل ما فعل أولا (4)، وعطف المسلمون عليهم، فألحقوهم بالتل، فصحت أنا: " هزمناهم، [هزمناهم] " (5)، فالتفت إلىّ والدى فقال:
اسكت، ما نهزمهم حتى: تسقط تلك الخيمة - يعنى خيمة الملك -؛ فهو يقول لى [ذلك](6)، وإذا الخيمة قد سقطت، فنزل السلطان، فسجد شكرا لله تعالى، وبكى من [شدة](6) فرحه ".
(1) س (10 أ): " إلا خيمتين: خيمة ملكهم، وخيمة أخرى ".
(2)
انظر ص 189، هامش 1
(3)
س (10 ب): " فرجعوا الفرنج ".
(4)
س: " في النوبة الأولى ".
(5)
ما بين الحاصرتين عن س، وكلمة " هزمناهم " في الأصل وهو (ابن الأثير) مفردة غير مكررة.
(6)
ما بين الحاصرتين عن س (10 ب).
وكان سبب سقوطها أن الفرنج لما حملوا تلك الحملة [الثانية](1) ازدادوا عطشا، وكانوا يرجون الخلاص في تلك الحملات مما هم فيه، فلما لم يجدوا إلى الخلاص طريقا نزلوا عن دوابهم، وجلسوا على الأرض، فصعد (2) المسلمون إليهم، وألقوا خيمة الملك، وأسروهم كلهم.
قال القاضى بهاء الدين بن شداد:
" ولقد حكى لى من أثق به أنه لقى بحوران شخصا واحدا ومعه طنب خيمة، وفيه نيف وثلاثون (3) أسيرا يجرهم وحده لخذلان (4) وقع عليهم، وكان من جملة من وقع في الأسر: الملك كى (5)، وابرنس الكرك أرناط (6)، و [أخو](7) الملك جفرى، وأوك (8) صاحب جبيل، وهنفرى بن هنفرى (9)، وابن صاحب اسكندرونة (10)، وصاحب مرقيّة (11) [وأسر من نجا من القتل من الداويّة
(1) ما بين الحاصرتين عن س (10 ب).
(2)
الأصل وس: " فصعدوا " والتصحيح عن (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 202).
(3)
الأصل وس: " وثلاثين " والتصحيح عن (ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 63).
(4)
الأصل: " بخذلان " والتصحيح عن المرجع السابق.
(5)
الأصل: " سلى " وس: " لى "، وقد صححناه بالمتن إلى الرسم الذى اعتادت الكتب العربية المعاصرة أن تكتبه به، وهو:(Guy of Lusignan،King of Jerusalem) .
(6)
هو (Reynald of Chatillon) صاحب الكرك.
(7)
زيد ما بين الحاصرتين عن: (الروضتين، ج 2، ص 78) وهى زيادة ضرورية يستقيم بها المعنى، واسم هذا الأخ عند
(RUNCIMAN : Op .Cit .Vol .2. P. 459) - (Constble Ancalric) .
(8)
في الأصل: " أولى "، وفى س:" اودك "، وقد صححت بعد مراجعة (الروضتين، ج 2 ص 78) واسم صاحب جبيل: (Hugh II Embriaco،Lord of Jebail)
انظر: (RUNOIMAN : Op .Sit .Vol .2; P. 462 - 463) .
(9)
هو (Humphrey IV Lord of Toron) : انظر (المرجع السابق، ص 459 و 468).
(10)
س (10 ب): " اسكندرية " وهو خطأ.
(11)
ضبطت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث ذكر أنها قلعة بساحل الشام قرب حمص.
ومقدمها، ومن الاسبتارية معظمها، ومن البارونية من أخطأه البوار، فأصابه وساءه الإسار] (1)
قال عماد الدين الكاتب:
" فمن شاهد القتلى ذلك اليوم قال ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى قال ما هناك قتيل ".
ومذ ملك الفرنج البلاد الساحلية واستولوا عليها لم يقع للمسلمين معهم يوم كيوم حطّين، فرحم الله الملك الناصر صلاح الدين وقدّس روحه، فلم يؤيد الإسلام بعد الصحابة - رضى الله عنهم - برجل مثله ومثل [276] نور الدين محمود بن زنكى - رحمة الله عليهما -، فهما جددا الإسلام بعد دروسه، وشيّدا بنيان التوحيد بعد طموسه، ثم أيّد الله الإسلام بعدهما بالملك الظاهر ركن الدين، (2) وكان أمره أعجب إذ جاء بعد أن استولى التتر على معظم البلاد الإسلامية، وأيس (3) الناس أن لا انتعاش للملة، فبدّد شمل التتار، وحفظ البلاد الإسلامية (3)، وملك من الفرنج أكثر الحصون الساحلية
ولم ينج في الكسرة (4) من ألوف الفرنج إلا أحاد، وامتلأت الأرض بالأسرى والقتلى، ثم أمر السلطان فضرب له دهليز (5) سرادقه، فنزل وصلى لله تعالى فيه صلاة الشكر على هذه النعمة، التي درج الملوك قبله على تمنى مثلها وماتوا بحسرتها،
(1) في س: " وصاحب اسكندرية، والبارونية، هولاى نجوا من القتل في الوقعة " وفى الأصل: " وأسرت الداوية والاسبتارية والبارونية من نجا من القتل " وهى عبارة مضطربة، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 78) وهو المرجع الذى ينقل عنه المؤلف هنا ملخصا.
(2)
يقصد الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى.
(3)
هذه الجملة ساقطة من س.
(4)
س (11 أ): «الكرة» .
(5)
الدهليز هنا معناها الخيمة التي ترافق السلطان في الحرب، وهى خيمة كبيرة ينزل بها السلطان في الأوقات التي تتخلل المعركة.