الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1)
سجل بقلم القاضى الفاضل صادر عن الخليفة العاضد بتولية أسد الدين شيركوه الوزارة بعد قتل شاور
عن (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 10، ص 80 - 90) و (الحنبلى: مخطوطة شفاء القلوب في مناقب بنى أيوب: ص 8 أ - 10 أ) وكتب القاضى الفاضل عن أسد الدين شيركوه بالوزارة عن العاضد الفاطمى، والوزارة يومئذ قائمة مقام السلطنة، وهذه نسخته:
" من عبد الله ووليّه، عبد الله أبى محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين:
إلى السيد، الأجل، الملك، المنصور، سلطان الجيوش، ولىّ الأمة، فخر الدولة، أسد الدين، كافل قضاة المسلمين، وهادى دعاة المؤمنين، أبى الحرث شيركوه العاضدى، عضّد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته وأعلى كلمته.
[81]
سلام عليك: فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلى على سيدنا محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين؛ صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديين، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فالحمد لله القاهر فوق عباده، الظاهر على من جاهر بعناده، القادر الذى يعجز الخلق عن دفع ما أودع ضمائر الغيوب من مراده، القوى على تقريب ما عزبت (1) الهمم باستبعاده، الملى بحسن الجزاء لمن جاهد في الله حق جهاده، مؤتى الملك من يشاء بما أسلفه من ذخائر رشاده، ونازعه ممن يشاء بما اقترفه من كبائر فساده، منجد أمير المؤمنين بمن أمضى في نصرته العزائم، واستقبله الأعداء بوجوه الندم وظهور الهزائم، وفعلت له المهابة ما لا تصنع الهمم، وخلعت آثاره على
(1) كذا في الأصل، ولعلها «ما اعترفت» .
الدنيا ما تخلعه الأنوار على الظلم؛ وعدمت نظراؤه بما وجد من محاسنه التي فاق بها ملوك العرب والعجم، وانتقم الله به ممن ظلم نفسه وإن ظنّ الناس أنه ظلم، وذاد عن موارد أمير المؤمنين من هو [منه] أولى بها ويأبى الله سبحانه وتعالى إلا إمضاء ما حتم، ورام إخفاء فضائله وهل يشتهر طيب المسك إلا إذا اكتتم، مؤيد أمير المؤمنين بإمام أقرّ الله به عينهم، وقضى على يده من نصرة الدين دينهم:
والحمد لله الذى خصّ جدّنا محمدا بشرف الاصطفاء والاجتباء، وأنهضه من الرسالة بأثقل الأعباء، وذخر له من شرف المقام المحمود أشرف الأنصباء، وأقام به القسطاس، وطهّر به من الأدناس؛ وأيّده بالصابرين في البأساء والضراء وحين الباس، [82] وألبس شريعته من مكارم الأفعال والأقوال أحسن لباس، وجعل النور ساريا منه في عقبه لا ينقصه كثرة الاقتباس:{" ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النّاسِ "} (2).
والحمد لله الذى اختار أمير المؤمنين لأن يقوم في أمته مقامه، وهدى بمراشد نوره إلى طرق دار المقامه، وأوضح به منار الحق وأعلامه؛ وجعله شهيد عصره، وحجة أمره، وباب رزقه، وسبيل حقه، وشفيع أوليائه، والمستجار من الخطوب بلوائه، والمضمونة لذويه العقبى، والمسئول له الأجر في القربى، والمفترض الطاعة على كل مكلّف، والغاية التي لا يقصر عنها بولائه إلا من تأخّر في مضمار النجاة وتخلّف، والمشفوع الذكر بالصلاة والتسليم، والهادى إلى الحق وإلى طريق مستقيم، لا يقبل عمل إلا بخفارة ولائه، ولا يضلّ من استضاء بأنجم هدايته اللامعه، ولا دين إلا به ولا دنيا إلا معه،
(1) السورة 8 (الأنفال)، الآية 63 (م).
(2)
سورة 12 (يوسف)، الآية 38 (ك)
ليتضح النهج القاصد، ولتقوم الحجة على الجاحد؛ وليكون لشيعته إلى الجنة نعم الشافع والرائد، وليأتى الله به بنيان الأعداء من القواعد، وليبيّن لهم الذى اختلفوا فيه وليعلموا أنما هو إله واحد.
يحمده أمير المؤمنين على ما حباه من التأييد الذى ظهر فبهر، وانتشر فعمّ نفعه البشر، والإظهار الذى اشترك فيه جنود السماء والأرض، والإظفار الذى عقد الله منه عقدا لا تدخل عليه أحكام النقض، والانتصار الذى أبان الله به معنى قوله:
{" وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ "} (1).
ويسأله أن يصلى على سيدنا محمد الأمين، المبعوث رسولا في الأميين، الهادى إلى دار الخلود، المستقل بيانه استقلال عواثر الجدود، والمعدود أفضل نعمة على أهل الوجود، والصافية بشريعته مشارع النعمة، والواضحة به الحنيفية البيضاء [83] لئلا يكون أمر الخلق عليهم غمّة؛ وعلى أبينا أخيه وابن عمه أمير المؤمنين على بن أبى طالب ناصر شريعته وقسيمه في النسب والسبب، ويد الحق التي حكم لها في كل طلب بالغلب؛ وعلى الأئمة من ذريتهما وسائط الحكم، ومصابيح الظلم، ومفاتيح النعم؛ والمخفقين دعوى من باهاهم وفاخر، والباذلين جهدهم في جهاد من اتخذ مع الله إلها آخر، وسلّم وردّد، ووالى وجدّد.
وإن أمير المؤمنين لما فوّضه الله تعالى إليه من إيالة الخليقة، ومنحه من كرم السجيّة وكرم الخليقة، وبسطه من يده على أهل الخلاف، وأنجزه من موعوده الذى ليس له إخلال ولا إخلاف، وأوضحه من براهين إمامته للبصائر، وحفظ به على الإسلام من طليعة المبادئ وساقة المصاير، وأورثه من المقام الذى لا ينبغى إلا له في عصره، واستخدم فيه السيوف والصروف من تأدية فرائض
(1) السوره، (البقره)، الآية 251 (م).
نصره، وأظهر له من المعجزات التي لا يخلو منها زمن، وظاهر له من الكرامات، التي زادت على أمنية كل متمن، وأتمنه عليه من أسرار النبوة التي رآه الله تعالى لها أشرف مودع وعليها أكرم مؤتمن؛ وأجرى عليه دولته من تذليل الصعاب وتسهيل الطلاب، وتفليل أحزاب الشرك إذا اجتمعوا كما اجتمع على جده - صلى الله عليهم وسلم - أهل الأحزاب، يواصل شكر هذه النعم التوام، ويعرف بعوارفها الفرادى والتؤام، ويقدم بين يدى كل عمل رغبة إليه في إيضاح المراشد، ونية لا تضل عنها الهداية ولا سيما وهو الناشد، ويستخيره عالما أنه يقدّم إليه أسباب الخير، ويناجيه فيطلعه الإلهام على ما يحلى السير ويجلى الغير؛ ويأخذ بيد الله حقّه إذا اغتصبت حقوقه، ويستنجد بالله إذا استبيح خلافه واستجيز عقوقه؛ ويفزع إلى الله تعالى إذا قرع الضائر، ويثق بوعد الله تعالى إذا استهلكت الشّبه البصائر؛ فما اعترض ليل كربة إلا انصدع [84] له عن فجر وضّاح، ولا اننقض عقد غادر إلا عاجله الله سبحانه بأمر فضّاح؛ ولا انقطعت سبل نصرة إلا وصلها الله تعالى بمن يرسله ولا انصدعت عصا ألفة إلا تدارك الله تعالى بمن يجردّه تجريد الصّفاح.
وإذا عدّد أمير المؤمنين هذه النعم الجسيمة، والمنح الكريمة؛ واللطائف العظيمة، والعوارف العميمة، والآيات المعلومة، والكفايات المحتومة، والعادات المنظومة، كنت أيها السيد الأجل - أدام الله قدرتك، وأعلى كلمتك - أعظم نعم الله تعالى أثرا، وأعلاها خطرا، وأقضاها للامة وطرا؛ وأحقها بأن تسمى نعمة، وأجدرها بأن تعدّ رحمة، وأسماها أن تكشف غمّة، وأنضاها في سبيل الله سبحانه عزمه؛ وأمضاها على الأعداء حدّا، وأبداها في الجهاد جدّا، وأعداها على الأعداء يدا، وأحسنها فعلا لليوم وأرجاها غدا؛ وأفرجها للازمة وقد كادت الأمة تصير سدى، وأحق الأولياء بأن يدعى للأولياء سيدا، وأبقاهم فعلة لا ينصرم فعلها الذى بدا أبدا.
فليهنئك أنك حزب الله الغالب، وشهاب الدين الثاقب، وسيف الله القاضب، وظلّ أمير المؤمنين الممدود، ومورد نعمته المورود، والمقدّم في نفسه وما نؤخره إلا لأجل معدود؛ نصرته حين تناصر أهل الضلال، وهاجرت إليه هاجرا برد الزّلال وبرد الظّلال؛ وخضت بحار الأهوال، وفى يدك أمواج البصال؛ وها في جيدك اليوم عقد جواهر منه ونظم لآل، بل قد بلغت السماء وزينت منك بنجوم نهار لا نجوم ليال؛ وكشّفت الغماء وهى مطبقة، ورفعت نواظر أهل الإيمان وهى مطرقة؛ وعقصت أعنّة الطغيان وهى مطلقه، وأعدت بحنكتك على الدولة العلويّة بهجة شبابها المونقه، وأنقذت الإسلام وهو على شفى جرف هار، ونفذت حين لا تنفذ [85] السهام عن الأوتار؛ وسمعت دعوته على بعد الدار، وأبصرت حقّ الله ببصيرتك وكم من أناس لا يرونه بأبصار؛ وأجليت طاغية الكفر وسواك اجتذبه، وصدقت الله سبحانه حين داهنه من لا بصيرة له وكذّبه، وأقدمت على الصليب وجمراته متوقدة، وقاتلت أولياء الشيطان وغمراته متمردة.
وما يومك في نصرة الدولة بواحد، ولا أمسك مجحود وإن رغم أنف الجاحد، بل أوجبت الحقّ بهجرة بعد هجرة، وأجبت دعوة الدين قائما بها في غمرة بعد غمرة، وافترعت صهوة هذا المحل الذى رقّاك إليه أمير المؤمنين باستحقاقك، وأمات الله العاجزين بما في صدورهم من حسرات لحاقك، وكنت البعيد القريب نصحه، المحجوب النافذ بحجته المذعورة أعداء أمير المؤمنين [به] إن فوّق سهمه أو أشرع رمحه، وما ضرّك أن سخطك أعداء أمير المؤمنين وأمير المؤمنين قد ارتضاك، ولا أن منعك المعاند حقّك وقد قضى لك واقتضاك، وما كان في محاجزتك عن حظك من خدمة أمير المؤمنين الذى أنت به منه أولى، ومدافعتك عن حقك في قرب مقامه الذى لا يستطيع طولا، إلا مغالبة الله فيك والله غالب على أمره، ومباعدتك وقد قربك الله من سر أمير المؤمنين وإن بعدت من جهره.
استشرفتك الصدور، وتطلعت إليك عيون الجمهور، واستوجبت عقيلة النعم بما قدمت من المهور، ونصرت الإيمان بأهله، وأظهرت الدين بمظاهرتك على الدين كلّه، وناهضت الكفرة بالباع الأشد، والرأى الأسد، ونادتهم سيوفك - ولا قرار على زأر من الأسد - وأدال الله بك ممن قدم على ما قدّم، وندم فما أغنى عنه الندم، حين لجّ في جهالته، وتمادى في ضلالته، واستمر على استطالته، وتوالت منه عثرات ما أتبعها باستقالته، فكم اجتاح للدولة رجالا، وضيّق من أرزاقهم مجالا، وسلب من خزائنها ذخائر وأسلحة وأموالا، ونقلها من أيدى أوليائها إلى أعداء الله تبارك وتعالى، واتسعت هفواته من التعديد [86] وما العهد منها ببعيد.
وقد نسخ الله تعالى بك حوادثها فوجب أن تنسخ أحاديثها، وأتى الأئمة منك بمن هو وليّها، والأمة بمن هو مغيثها، ودعاك إمام عصرك بقلبه ولسانه وخطه - على بعد الدار -، وتحقق أنك تتصرف معه حيث تصرّف وتدور معه حيت دار، واختارك على ثقة من أنّ الله تعالى يحمده فيك عواقب الاختيار، ورأى لك إقدامك ورقاب الشرك صاغرة، وقدومك وأفواه المخاوف فاغرة، وكرّتك في طاعته وأبى الله تعالى أن تكون خاسره، وسطابك حين تمالى بك المشركون، وتمثّل لرسلهم بقوله سبحانه:{" اِخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ "} (1) وأنفت عزته هجنة الهدنة، وقال لأوليائه:{" وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ "} (2) وازدرى بخنازيرهم انتظارا لوصولك بأسود الإسلام، وصبر على علم أنّك تلبى نداءه بألسنة الأعلام قبل ألسنة الأقلام، فكنت حيث رجا وأفضل، ووجدت بحيث رعى وأعجل، وقدمت فكتب الله لك العلو، وكبت بك العدوّ، وجمع على التوفيق لك طرفى الرواح والغدوّ، ولم يلبس الكافر لسهامك جنّة إلا الفرار وكان {" كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ "} (3)
(1) السورة 23 (المؤمنون)، الآية 108 (ك).
(2)
السورة 8 الأنفال (، الآية 39 (ك).
(3)
السورة 14 (ابراهيم) الآية 26 (ك).
فلله درّك حين قاتلت بخبرك قبل عسكرك، ونصرت بأثيرك قبل عشيرك، وأكرم بك من قادم خطواته مبروره، وسطواته للأعداء مبيرة، وكلّ يوم من أيامه يعد سيره، وإنك لمبعوث إلى بلاد أمير المؤمنين بعث السحاب المسخّر، ومقدّم في النيّة وإن كنت في الزمان المؤخر، وطالع بفئة الإسلام غير بعيد أن يفئ الله عليها بلاد الكفار، ورجال جهاد عددناهم عندنا من المصطفين الأخيار، وأبناء جلاد يشترون الجنة بعزائم كالنار، وغرر نصر سكون العدو بعدها غرور ونومه غرار.
ولما جرى من جرى ذكره على عادته في إيحاشك والإيحاش منك بكواذب الظنون، ورام رجعتك عن الحضرة وقد قرّت بك الدار وقرت بك العيون، وكان [87] كما قال الله تعالى في كتابه المكنون:{" لَقَدِ اِبْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ "} (1)، هنالك غضبت نفوس الإسلام ففتكت به أيديها، وكشفت له عن غطاء العواقب التي كانت منه مباديها، وأخذه من أخذه أليم شديد، وعدل فيه من قال {" وَما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ "} (2)، {" إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ "} (3).
ولما نشرت لواء الإسلام وطواه، وعضدت الحقّ وأضعف قواه، وجنيت عقبى ما نويت وجنى عقبى ما نواه، وأبيت إلا إمضاء العزم في الشرك وما أمضاه، {" أَفَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ "} (4)، ودفعت الخطب الأشق، وطلعت أنوار النصر مشرقة بك وهل تطلع الأنوار إلا من الشرق؟ وقال لسان
(1) السورة 9 (التوبة) الآية 48 (م).
(2)
السورة 41 (فصلت)، الآية 46 (ك).
(3)
السورة 50 (ق)، الآية 37 (ك).
(4)
السورة 45 (الجاثية)، الآية 23 (ك).
الحق {" فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ "} (1)، قضى الله تعالى إلى أمير المؤمنين عدّة قدّمها ثم قضاها، وولاّه كما ولّى جدّه صلى الله عليه وسلم قبلة يرضاها، وانتصر له بك انتصاره لأهل البيت بسلمانه وعمّاره، وأنطق أمير المؤمنين باصطفائك اليوم وبالأمس كنت عقد إضماره.
وقلدّك أمير المؤمنين أمر وزارته، وتدبير مملكته وحياطة ما وراء سرير خلافته، وصيانة ما اشتملت عليه دعوة إمامته، وكفالة قضاة المسلمين، وهداية دعاة المؤمنين، وتدبير ما عدقه الله بأمير المؤمنين من أمور أوليائه أجمعين، وجنوده وعساكره المؤيّدين، المقيمين منهم والقادمين، وكافة رعايا الحضرة بعيدها ودانيها، وسائر أعمال الدول باديها وخافيها، وما يفتحه الله تعالى على يديك من البلاد، وما تستعيده من حقوقه التي اغتصبها الأضداد، وألقى إليك المقاليد بهذا التقليد، وقرّب عليك كلّ غرض بعيد، وناط بك العقد والحل، والولاية والعزل، والمنع [88] والبذل، والرفع والخفض، والبسط والقبض، والإبرام والنقض، والتنبيه والغض، والإنعام والانتقام، وما توجب السياسة امضاءه من الأحكام، تقليدا لا يزال به عقد فخرك نظيما، وفضل الله عليك وفيك عظيما، {" ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً "} (2).
فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين من هذه الرتبة التي تنأخر دونها الأقدام، والغاية التي لا غاية بعدها إلا ما يمليك الله به من الدوام، فلقد تناولتها بيد في الطاعة غير قصيرة، ومساع في خدمة أمير المؤمنين أيامها على الكافرين غير يسيره، وبذلت لها ما مهّد سبلها، ووصلتها بما وصل بك حبلها، وجمعت من أدواتها ما جمع لك شملها، وقال لك لسان الحق {" وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها "} (3).
(1) السورة 6 الأنعام)، الآية 81 (ك).
(2)
السورة 4 (النساء، الآية 70 (م).
(3)
السورة 48 (الفتح)، الآية 26 (م).
وتقوى الله سبحانه: فهى وإن كانت لك عاده، وسبيل لاحب إلى السعادة، فإنها أولى الوصايا بأن تتيمن باستفتاحها، وأحقّ القضايا بأن تبتدئ الأمور بصلاحها، فاجعل تقوى الله أمامك، وعامل بها ربّك وإمامك، واستنجح بها عواقبك ومباديك، وقاتل بها أضدادك وأعاديك، قال الله سبحانه في كتابه المكنون:{" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ "} (1).
والعساكر المنصورة: فهم الذين غذوا بولاء أمير المؤمنين ونعمه، وربّوا في حجور فضله وكرمه، واجتاحهم من لم يحسن لهم النظر، واستباحهم بأيدى من أضرّ لما أصر، وطالما شهدوا المواقف ففرّجوها، واصطلوا المخاوف وتولجوها، وقارعوا [89] الكفّار مسارعين للأعنّه، مقدمين مع الأسنّة، مجرين إلى غايتين: إما إلى النصر وإما إلى الجنة، ودبّروا الولايات فسددوا، وتقلدوا الأعمال فيما تقلدوا.
واعتمد أحمرهم وأسودهم، وأقربهم وأبعدهم، وفارسهم وراجلهم، ورامحهم ونابلهم بتوفير الإقطاع وإدرار النفقات، وتصفية موارد العيش المونقات.
وأحسن لهم السياسة التي تجعل أيديهم على الطاعة متفقة، وعزائمهم في مناضلة أعداء الدين مستبقه، وأجرهم على العادات في تقليد الولايات، واستكفهم لما هم أهله من مهمات التصرفات، وميّز أكابرهم تمييز الناظر بالحقائق، واستنهضهم في الجهاد فهذا المضمار وأنت السابق، وقم في الله تعالى أنت ومن معك فقد رفعت الموانع والعوائق، ليقذف الله بالحق الذى نصرته على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
والشرع الشريف: فأنت كافل قضاته، وهادى دعاته، وهو منار الله تعالى الأرفع، ويده التي تمنع الظلم وتدفع، فقم في حفظ نظامه، وتنفيذ أحكامه، وإقامة حدوده، وإمضاء عقوده، وتشييد أساس الدعوة وبنائها، وتمييز
(1) السورة 59 (الحشر)، الآية 18 (م).
آخذى عهودها وأبنائها، قيام من يعول في الأمانة على أهل الديانة، ويستمسك بحقوق الله تعالى الحقيقة بالرعاية والصيانة.
والأموال: فهى سلاح العظائم، ومواد العزائم، وعتاد المكارم، وعماد المحارب والمسالم، وأمير المؤمنين يؤمل أن تعود بنظرك عهود النضارة، وأن يكون عدلك في البلاد وكل العمارة.
والرعايا: فقد علمت ما نالهم من إجحاف الجبايات، وإسراف الجنايات، وتوالى عليهم من ضروب النكايات، فاعمر أو طانهم التي أخربها الجور والأذى، وانف عن مواردهم الكدر والقذى، وأحسن حفظ وديعة الله تعالى منهم، وخفّف [90] الوطأة ما استطعت عنهم، وبدلهم من بعد خوفهم أمنا، وكفّ من يعترضهم في عرض هذا الأدنى.
والجهاد: فهو سلطان الله تعالى على أهل العناد، وسطوة الله تعالى التي يمضيها في شر العباد على يد خير العباد، ولك من الغناء فيه مصرا وشاما، وثبات الجأش كرّا وإقداما، والمصاف التي ضربت فكنت ضارب كماتها، والمواقف التي اشتدت فكنت فارج هبواتها، والتدريب الذى أطلق جدّك، والتجريب الذى أورى زندك، ما يغنى عن تجديد الوصايا البسيطة، وتأكيد القضايا المحيطة، وما زلت تأخذ من الكفّار باليمين، وتعظم فتوحك في بلاد الشمال فكيف تكون في بلاد اليمين، فاطلب أعداء الله برا وبحرا واجلب عليهم سهلا ووعراء وقسم بينهم الفتكات قتلا وأسرا، وغارة وحصرا، قال الله تعالى في كتابه المكنون:{" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ "} (1)
(1) السورة 9 (التوبة)، الأية 123 (م).
وتوفيق الله تعالى يفتح لك أبواب التدبير، وخبرتك تدلك على مراشد الأمر، {" وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ "} (1)، فأنت تبتدع من المحاسن مالا تحيط به الوصايا، وتخترع من الميامن ما يتعرف بركانه الأولياء والرعايا.
والله سبحانه وتعالى يحقق لأمير المؤمنين فيك أفضل المخايل، ويفتح على يديك مستغلق البلاد والمعاقل، ويصيب بسهامك من الأعداء النحور والمقاتل، ويأخذ للإسلام بك ماله عند الشرك من الثارات والطوائل، ولا يضيع لك عملك في خدمة أمير المؤمنين إنه لا يضيع عمل عامل، ويجرى الأرزاق والآجال بين سيبك الفاضل وحكمك الفاصل.
فاعلم هذا من أمير المؤمنين ورسمه، واعمل بموجبه وحكمه، إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
(1)(السورة 35 فاطر)، الآية 14 (ك).