الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجانى الذاهب، واجتمع رجال العسكر على نقل ما يرمى في الخندق، فهان [255] طم الخندق بالدبابات (1) التي قدمت، ونقب الأسراب وإحكامها، فوجد الناس إلى الخندق طريقا واسعا مهيعا، فهم يزدحمون (2) آمنين من الجراح والناس تحت (3) الفلعة على شفير الخندق لا يستشعرون حذرا ولا يخافون وقع الحجارة والسهام، وامتلأ الخندق حتى أن أسيرا مقيدا رمى بنفسه من السور ونجا بعد ما توالى من الفرنج رمى الحجارة عليه.
ولما رأى الفرنج الذين بالكرك ما قد دهمهم من السلطان، وخافوا أن يملكه، كاتبوا ملوكهم وفرسانهم يستنجدونهم ويعرفونهم عجزهم وضعفهم عن حفظ الحصن، فسارت الفرنج في حدهم وحديدهم، ونزلوا بالواله، وهى مواضع صعبة ضيقة المسالك، فسار السلطان حتى نزل البلقاء على قرية يقال لها حسبان، ثم رحل منها إلى ماء عين، والفرنج مقيمون بالواله، فأقام أياما (4) ينتظر خروجهم من المكان الذين هم به ليتمكن منهم، فلم يبرحوا منه خوفا على أنفسهم فلما رأى ذلك رحل عنهم عدة فراسخ، وجعل بإزائهم من يعلمه بمسيرهم، فساروا ليلا إلى الكرك، فلما علم السلطان ذلك علم أنه لا يتمكن منهم حينئذ ولا يبلغ غرضه.
ذكر إحراق نابلس وتخريبها
كان رحيل الفرنج إلى الكرك لأربع بقين من جمادى الآخرة، فلما قصدوا الكرك عزم السلطان على قصد الساحل لخلوه من العساكر، فسار إلى نابلس
(1) الأصل: " الطم بالدبابات " والتصحيح عن العماد (المرجع السابق).
(2)
الأصل: " لا يزدحمون " والتصحيح عن المرجع السابق.
(3)
الروضتين: " بجب القلعة ".
(4)
الأصل: " أيام ".
ونهب كل ما على طريقه من البلاد، ولما وصل إلى نابلس أحرقها ونهبها وقتل من فيها وأسر وسبا فأكثر، ثم سار عنها إلى سبسطية (1) - وبها مسجد زكريا عليه السلام وبها كنيسة - وفيها جماعة من أسرى المسلمين فاستنقذهم، ورحل إلى جينين (2) فنهبها وخربها، وعاد إلى دمشق؛ ونهب ما على طريقه وخربه، وبثّ السرايا يمينا وشمالا ينهبون ويخربون.
ومن كتاب لعماد الدين الكاتب يصف فيه صورة حصار الكرك:
" فصل: ولولا الخندق المانع من الإرادة، وأنه ليس من الخنادق المعتادة (3)، بل هو واد من الأودية، واسع الأفنية، لسهل المشرع؛ وهجم الموضع، فلم يبق إلا تدبير طم الخندق؛ والأخذ بعد ذلك من العدو بالمخنق، فعملنا دبابات قدمناها، وبنينا (4) إلى شفير الخندق ثلاثة أسراب [256] باللبن سقّفناها وأحكمناها؛ فصارت منها إلى طرف الخندق طرق آمنة، وشرع الناس في طم الخندق منها ونفوسهم مطمئنة، وقلوبهم ساكنة، وكان الشروع فيه يوم الخميس سابع جمادى الأولى، وقد تسنى طمّه، وتهيأ (5) ردمه، وتسارع الناس إليه، وازدحموا عليه، ولم يبق صغير ولا كبير إلا وهو مستبشر بالعمل، منتظر لبشرى نجح الأمل، قد تحاشدوا (6) حتى ازدحموا على تلك القلعة نهارا
(1) الأصل: " سنسطيه "، والتصحيح عن (ابن الأثير: الكاملى، ج 11، ص 191) وقد ضبطها (ياقوت: معجم البلدان) وقال إنها بلدة من نواحى فلسطين، بينها وبين البيت المقدس يومان، وبها قبر زكريا ويحى عليهما السلام وجماعة من الأنبياء ولصديقين، وهى من أعمال نابلس.
(2)
الأصل: " جيلين " والتصحيح عن ابن الأثير.
(3)
الأصل: " العادة " والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 56).
(4)
الأصل: " وتنبنا " والتصحيح عن المرجع السابق ذكره.
(5)
الأصل: " وتمس "، والتصحيح عن الروضتين.
(6)
كذا في الأصل، وفى الروضتين:" تجاسروا ".
كازدحامهم (1) في المصلى يوم العيد، وليلا كحضورهم في جامع دمشق ليلة النصف السعيد، وهم بحمد الله من الجراح سالمون، وبنصر الله موقنون عالمون، وإن أبطأ العدو عن النجدة فالنصر سريع، والحصن ومن فيه صديع، وقد خرقت الحجارة حجابه وقطعت بهم أسبابه، وناولته من الأجل كتابه، وحسرت لثام سوره، وحلّت نقابه، فأناف الأبراج مجذوعة، وثنايا الشرفات مقلوعة، ورؤوس الأبدان مجزوزة، وحروف العوامل مهموزة، وبطون السقوف مبقورة (2)، وأعضاء الأساقف معقورة، ووجوه الجدر (3) مسلوخة، وجلود البواشير (4) مبشورة (5) والنصر أشهر من نار على علم، والحرب أقوم من ساق على قدم».
ومدح القاضى السعيد بن سناء الملك (6) السلطان بقصيدة يهنبه بها بعد انصرافه عن الكرك وفتح نابلس، وأولها:
وصفتك واللاجى يعاند بالعذل،
…
فكنت أبا ذر، وكان أبا جهل
له شاهدا زور من النّهى والنهى
…
عليك، ومن عينيك لى شاهدا عدل
ومنها:
ومن عرف الأيام مثلى فإنه
…
يعيش بلا حبّ (7)، ومحيا بل خلّ
ومن كان في هذا الورى مثل يوسف
…
ومن أين هذا المثل؟ كان بلا مثل
(1) الأصل: " لازدحامهم " والتصحيح عن الروضتين.
(2)
الأصل: «منقورة» والتصحيح عن الروضتين.
(3)
الأصل: «الجذور» والتصحيح عن الروضتين.
(4)
أنظر ما فات هنا ص 81، هامش 1
(5)
في (الروضتين، ج 2، ص 56)، «منسوره»
(6)
أنظر ما فات هنا ص 137، هامش 3
(7)
ديوان ابن سناء الملك (مخطوطة دار الكتب المصرية، 4931 أدب): «بلا صبر» .
تخرّ (1) له الأملاك ذلاّ وإنما
…
يعزّ إذا خرّت لديه من الذل
أعاديه من غلمانه في بلادهم
…
يصرفهم بين الولاية والعزل
وأنفسهم عارية منه عندهم
…
متى ما أراد استرجعتها يد القتل
إذا راسل الأعداء يوما فإنما (2)
…
كتائبه كالكتب، والخيل كالرسل
[257]
له صارم يشفى به الدين صدره
…
وينجز وعد النصر منه بلا مطل
تغيب (3) عنا سيفه (4) بنجيعة،
…
فما تملا سيفه حلية (5) الصّقل
ومنها:
وما خالفتك الجرد قطّ، وإنها
…
لتلحق من عاديته وهى في الشكل
وأرجلها لو قطعت كسرت بمن
…
عليها لهم، والصلّ يسعى بلا رجل
جنا أهل تلك القلعة الشرّ إذ رأوا
…
هواديها كالباسقات من النخل
غدا بعلها الإبرنس يلعن عرسه
…
بها، وهى لا تنفكّ من لعنة البعل
وقد رجمتها المنجنيقات إذ زنت
…
هناك بشيخ كافر جاهل رذل (6)
وصبحت أخرى صبحتك بأهلها
…
ومسّتك إذ مشيت وهى بلا أهل
فنابلس لما أقمت بربعها
…
أقامت لهم حقّ الضيافة والنزل
أحسوا بطلّ للخريف، فجاءهم
…
ربيع من النيل المسدد بالوبل
(1) الأصل: «فخر» والتصحيح عن الديوان.
(2)
الأصل: «كأنما» والتصحيح عن الديوان.
(3)
الأصل: «يغيب» ، والتصحيح عن الديوان.
(4)
الأصل: «لونه» ، والتصحيح عن الديوان.
(5)
الأصل: «بحليه» ، والتصحيح عن الديوان.
(6)
نص الشطرة الثانية في الأصل: «بشيخ لعين كافر جهل تذل» ؛ والتصحيح عن الديوان.
ولم أر أرضا جادها الغيث قبلها،
…
وتصبح تشكو بعده غلّة المحل
وما شرقوا بالماء والرنق إذ رأوا
…
جيوشك، لكن بالفوارس والرجل
ولم يبق إلا من سبا الجيش منهم،
…
وإن كان يسبى (1) الجيش بالحدق النجل
عذارى أسارى كبّلت بشعورها،
…
فجرحها في الساق (2) والمعصم العبل
وقد شغلت عن أهلها بأسارها،
…
وأنت بحمد الله في أشغل الشغل
يكبّر فيها الله بالجامع الذى
…
جمعت به بين الفريضة والنفل
وصلّيت فيها جمعة وجماعة،
…
يناديك الإسلام: يا جامع الشّمل
وعدت بفضل الله للخلق سالما،
…
وأىّ زمان لم تعد فيه بالفضل
ولما وصل السلطان إلى دمشق وجد بها رسل الخليفة الإمام الناصر لدين الله - أمير المؤمنين - وهما: الشيخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل بن أبى سعيد أحمد، وبشير الخادم، وكانا قد وصلا إلى دمشق والسلطان محاصر الكرك، فمرضا بدمشق، ومات جماعة من أصحابهما، وكان الشيخ نازلا بالمنيبع [258] وكان السلطان يعوده في كل يوم؛ وكان قدومهما في معنى تقرير الصلح بين السلطان وبين عز الدين مسعود - صاحب الموصل -، فلم يتقرر أمر، فاستأذنوا في العود إلى بغداد قبل الشتاء، فأذن لهم فعادوا، فمات بشير الخادم بالسخنة، ومات صدر الدين (3) بالرحبة، وكان صالحا زاهدا، فدفن بمشهد
(1) الأصل: «مسبى» ؛ والتصحيح عن الديوان.
(2)
النص بالديوان: «بالساق» .
(3)
هو عبد الرحيم بن إسماعيل بن أبى سعد أحمد بن محمد النيسابورى، ولد سنة 508 هـ، وقال صاحب (الروضتين، ج 2، ص 57) في ترجمته - نقلا عن ابن القادسى -: كان شيخا طائلا في العلم والدين والسداد، ثابت الجنان في الحوادث المزعجة والوقائع الباغتة الملجلجة، سديد البديهة، صافى الفكرة، جمع بين نظم الشعر ونثر الترسل، وكان يرسل إلى الأطراف، ورتب في مشيخة الشيوخ منذ توفى والده في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، ولم يزل على ذلك إلى أن توفى، وتولى بعده مشيخة الرباط صفى الدين إسماعيل، أنظر أيضا (النجوم الزاهرة، ج 6، ص 97).
البوق (1) ولم يستعمل في مرضه هذا دواء توكلا على الله تعالى، وكان مولده سنة ثمان وخمسمائة.
ثم خرج السلطان من دمشق في شعبان من هذه السنة، وخيم على سعسع، وأمر ابن أخيه الملك المظفر أن يرجع بالعسكر إلى مصر، فسار في منتصف الشهر ثم رجع السلطان إلى دمشق فصام بها شهر رمضان، ورجع كل عسكر إلى بلده.
وكانت رسل الخليفة لما قدموا على السلطان أفاضوا عليه الخلع، فلبسها وألبس أخاه الملك العادل وابن عمه ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه خلعا جاءت لهم، ثم خلع السلطان خلعة الخليفة على نور الدين قرا أرسلان - صاحب الحصن -، وأعطاه دستورا، فسار إلى بلاده.
وفى هذه السنة - أعنى سنة ثمانين وخمسمائة - كتب السلطان لزين الدين يوسف بن زين الدين على كوجك منشورا بإربل وما يجرى معها من البلاد والقلاع، وذلك لما انفرد زين الدين عن صاحب الموصل واعتزى إلى السلطان، ومن جملة المنشور:
" أن الله لما مكّن لنا في الأرض، ووفّقنا في إعزاز الحق وإظهاره لأداء الفرض، رأينا أن نقدّم فرض الجهاد في سبيل الله فنوضح سبيله، ونقبل على إعلاء الدين وننصر قبيله، وندعو أولياء الله من بلاد الإسلام إلى غزو أعدائه، ونجمع كلمتهم في رفع كلمته العليا [في أرضه](2) على استنزال نصره (3) من سمائه، فمن ساعدنا على أداء هذه الفريضة، واقتناء [هذه](2) الفضيلة،
(1) كذا بالأصل، والذى ذكره ابن القادسى (المرجع السابق) أن صدر الدين توفى في رجب برحبة مالك بن طوق، ودفن في قبة إلى جنب قبر الشيخ موفق الدين محمد بن المتقنة الرحبى.
(2)
ما بين الحاصرتين عن نص المنشور الوارد في (الروضتين، ج 2، ص 60).
(3)
في الروضتين: «نصر» .