الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3)
سجل بقلم القاضى الفاضل صادر عن الخليفة العاضد بتولية صلاح الدين يوسف بن أيوب الوزارة بعد موت عمه أسد الدين شيركوه
عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 1، ص 91 - 98) و (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 161) من عبد الله ووليّه، عبد الله أبى محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين.
إلى السيد الأجل (على نحو ما تقدم في تقليد عمه أسد الدين شيركوه).
أما بعد، فالحمد لله مصرّف الأقدار، ومشرّف الأقدار، ومحصى الأعمال والأعمار، ومبتلى الأخيار والأبرار، وعالم سر الليل وجهر النهار، وجاعل دولة أمير المؤمنين فلكا تتعاقب فيه أحوال الأقمار: بين انقضاء سرار واستقبال أبدار، وروضا إذا هوت فيه الدوحات أينعت الفروع سابقة النور، باسقة الثمار، ومنجد دعوته بالفروع الشاهدة بفضل أصولها، والجواهر المستخرجة من أمضى نصولها، والقائم بنصرة دولته فلا تزال حتى يرث الله الأرض ومن عليها قائمة على أصولها.
والحمد لله الذى اختار لأمير المؤمنين ودلّه على مكان الاختيار، وأغناه باقتضاب الإلهام عن رويّة الاختبار، وعضّد به الدين الذى ارتضاه وعضّده بمن ارتضاه، وأنجز له من وعد السعد ما قضاه قبل أن اقتضاه، ورفع محله عن الخلق فكلهم من مضاف إليه غير مضاه؛ وجعل مملكته عرينا لاعتزازها بالأسد وشبله، ونعمته ميراثا أولى بها ذوى الأرحام من بنى الولاء وأهله، وأظهر في هذه القضية ما أظهره في كل القضايا من فضل أمير المؤمنين وعدله؛ فأولياؤه كالآيات التي تتسق درارى أفقها المنير، وتنتسق درر عقدها النظيم النضير:{" ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}
{أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} " [92] والحمد لله الذى أتم بأمير المؤمنين نعمة الإرشاد، وجعله أولى من للخلق ساد، وللحق شاد؛ وآثره بالمقام الذى لا ينبغى إلا له في عصره، وأظهر له من معجزات نصره ما لا يستقل العدد بحصره؛ وجمع لمن والاه بين رفع قدره ووضع إصره، وجعل الإمامة محفوظة في عقبه والمعقبات تحفظه بأمره؛ وأودعه الحكم التي رآه لها أحوط من أودعه، وأطلع من أنوار وجهه الفجر الذى جهل من ظن غير نوره مطلعه، وآتاه ما لم يؤت أحدا، وأمات به غيا وأحيا رشدا، وأقامه للدين عاضدا فأصبح به معتضدا؛ وحفظ به مقام جده وإن رغم المستكبرون، وأنعم به على أمته أمانا لولاه ما كانوا ينظرون ولا يبصرون، و {" ما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ "} (2).
يحمده أمير المؤمنين على ما آتاه من توفيق يذلل له الصعب الجامح، ويدنى منه البعيد النازح؛ ويخلف على الدين من صلاحه الخلف الصالح، ويلزم آراءه جدد السعود، ويريه آيات الإرشاد فإنه نازح (؟) قدح القادح.
ويسأله أن يصلى على جدّه محمد الذى أنجى أهل الإيمان ببعثه، وطهّر بهديه من رجس الكفر وخبثه؛ وأجار باتباعه من عنت الشيطان وعبثه، وأوضح جادّة التوحيد لكل مشرك الاعتقاد مثلثه.
وعلى أبينا أمير المؤمنين على بن أبى طالب الذى جادلت يده بلسان ذى الفقار، وقسّم ولاؤه وعداوته بين الأتقياء والأشقياء الجنة والنار؛ وعلى الأئمة من ذريتهما الذين أذلّ الله بعزتهم أهل الإلحاد وأصفى بما سفكوه من دمائهم موارد الرشاد، وجرت أيديهم وألسنتهم بأقوات القلوب وأرزاق العباد؛ وسلّم ومحّد، ووالى وجدّد.
(93)
وإن الله سبحانه ما أخلى قط دولة أمير المؤمنين التي هى مهبط الهدى.
(1) السورة 2 (البقرة)، الآية 106 (ك).
(2)
السورة 8 (الأنفال)، الآية 33 (ك)
ومحط الندى، ومورد الحياة للولى والردى للعدا، من لطف يتلافى الحادثة ويشعبها ويرأبها، ونعمة تبلغ بها النفوس أربها؛ وموهبة تشد موضع الكلم، وتسد موضع الثلم؛ وتجلى غمائم الغمم، وتحلى مغانم النعم؛ وتستوفى شرائط المناحج، وتستدنى فوارط المصالح، ولم يكن ينسى الحادثة في السيد الأجل الملك المنصور - رضى الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه -، التي كادت لها أواخى الملك تتزعزع، ومبانى التدبير تتضعضع؛ إلا ما نظر فيه أمير المؤمنين بنور الله من اصطفائك أيها السيد الأجل الملك الناصر - أدام الله قدرتك - لأن تقوم بخدمته بعده، وتسد في تقدمة جيوشه مسدّه، وتقفو في ولائه أثره، ولا تفقد منه إلا أثره، فوازت الفادحة فيه النعمة فيك، حتى تستوفى حظّه من أمير المؤمنين بأجر لا يضيع الله فيه عمله، فاستوجب مقعد صدق بما اعتقده من تأدية الأمانة له وحمله؛ واستحق أن ينضّر الله وجهه بما أخلقه الله من جسمه في مواقف الجهاد وبدّله؛ ومضى في ذمام رضا أمير المؤمنين، وهو الذمام الذى لا يقطع الله منه ما أمره أن يصله؛ واتبع من دعائه بتحف أول ما تلقاه بالروح والريحان، وذخرت له من شفاعته ما عليه معوّل أهل الإيمان في الأمان؛ فرعى الله له قطعه البيداء إلى أمير المؤمنين وتجثمه الأسفار، ووطأه المواطئ التي تغيظ الكفار؛ وطلوعه على أبواب أمير المؤمنين طلوع أنوار النهار، وهجرته التي جمعت له أجرين: أجر المهاجرين وأجر الأنصار؛ وشكر له ذلك المسعى الذى بلغ من الشرك الثار، وبلغ [94] الإسلام الإيثار، وما لقى ربّه حتى تعرّض للشهادة بين مختلف الصفاح، ومشتجر الرماح، ومفترق الأجسام من الأرواح، وكانت مشاهدته لأمير المؤمنين أجرا فوق الشهادة، ومنة لله تعالى عليه له بها ما للذين أحسنوا الحسنى وزيادة؛ وحتى رآك أيها السيد الأجل الملك الناصر - أدام الله قدرتك - قد أقررت ناظره، وأرغمت مناظره؛ وشددت سلطانه، وسددت مكانه؛ ورمى بك فأصاب، وسقى بك فصاب، وجمعت ما فيه من أبهة المشيب إلى مافيك من مضاء الشباب، ولقنت
ما أفادته التجارب جملة، وأعانتك المحاسن التي هى فيك جلّة، وقلّب عليك إسناد الفتكات فتقلبت، وأوضح لك منهاج البركات فتقبلت؛ وسددك سهما، وجرّدك شهما، وانتضاك فارتضاك غربا، وآثرك على آثر ولده إمامة في التدبير وحربا، وكنت قى السلم لسانه الآخذ بمجامع القلوب، وفى الحرب سنانه النافذ في مضايق الخطوب، وساقته إذا طلب، وطليعته إذا طلب، وقلب جيشه إذا ثبت، وجناحه إذا وثب، ولا عذر لثبل نشأ في حجر أسد، ولا لهلال استملى النور من شمس واستمدّ.
هذا، ولو لم يكن لك هذا الإسناد في هذا الحديث، وهذا المسند الجامع من قديم الفخر وحديث، لأغنتك غريزة، وسجية سجية، وشمية وسمية، وخلائق فيها ما تحب الخلائق، ونحائز لم يحز مثلها حائز، ومحاسن ماؤها غير آسن، ومآثر جد غير عاثر، ومفاخر غفل عنها الأول، ليستأثر بها الآخر، وبراعة لسان، ينسجم قطارها، وشجاعة جنان، تضطرم نارها، وخلال جلال عليك شواهد أنوارها تتوضح، ومساعى مساعد لديك كمائم نورها تتفتح؛ فكيف وقد جمعت لك في المجد بين نفس وأب وعم، ووجب أن سألك من اصطفاء أمير المؤمنين ماذا حصل ثم على الخلق عمّ، فيومك واسطة في المجد بين غدك وأمسك، وكلّ ناد من أندية الفخار [95] لك أن تقول فيه وعلى غيرك أن يمسك، فبشراك أنّ أنعم أمير المؤمنين موصولة منكم بوالد وولد، وأنّ شمس ملكه بكم كالشمس أقوى ما كانت في بيت الأسد.
ولما رأى الله تقلب وجه أمير المؤمنين في سمائه ولاّه من اختيارك قبله، وقامت حجته عند الله باستكفائك وزيرا له ووزرا للملة، فناجته مراشد الإلهام، وأضاعت له مقاصد لا تعقلها كلّ الأفهام؛ وعزم له على أن قلّدك تدبير مملكته الذى أعرقت في إرثه وأغرقت في كسبه، ومهّد لك أبعد غاية في الفخر بما يسّر لك من قربه.
ولقد سبق أمير المؤمنين إلى اختيارك قبل قول لسانه بضمير قلبه، وذكر فيك قول ربّه:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} (1)، وقلّدك لأنك سيف من سيوف الله تعالى يحقّ به التقلّد وله التقليد، واصطفاك على علم بأنك واحد منتظم في معنى العديد؛ وأحيا في سلطان جيوشه سنّة جدّه الإمام المستنصر بالله في أمير جيوشه الأوّل، وأقامك بعده كما أقام بعده ولده وإنه ليرجو أن تكون أفضل من الأفضل؛ وخرج أمره إليك بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك بتقليدك وزارته التي أحلّك ربوتها، وأحلّ لك صهوتها؛ وحلاّك نعمتها، و. . . . . . لك نعمتها؛ فتقلد وزارة أمير المؤمنين من رتبتها التي تناهت في الإنافة، إلا أن لا رتبة فوقها إلا ما جعله الله تعالى للخلافة؛ وتبوّأ منها صدرا لا تتطلع إليه عيون الصدور، واعتقل منها في درجة على مثلها تدور البدور:
{" وَاِصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ "} (2):
وقل {" الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ "} . (3)
وباشر مستبشرا، واستوطن متديرا؛ وأبسط يدك فقد فوّض إليك الأمر أمير المؤمنين بسطا وقبضا، وأرفع ناظرك فقد أباح لك رفعا وخفضا؛ وأثبت على درجات [96] السعادة فقد جعل لحكمك تثبيتا ودحضا، واعقد حبى العزمات للمصالح فقد أطلق بأمرك عقدا ونقضا؛ وأنفذ فيما أهلّك له فقد أدى بك نافلة من السياسة وفرضا، وصرّف أمور المملكة فإليك الصرف والتصريف.
وثقّف أود الأيام فعليك أمانة التهذيب والتثقيف؛ واسحب ذيول الفخار حيث لا تصل التيجان، واملا لحظا من نور الله تعالى حيث تتقى الأبصار لجين
(1) السورة 7 (الأعراف)، الآية 58 (ك).
(2)
السورة 31 (لقمان)، الآية 17 (ك).
(3)
السورة 35 (فاطر)، الآية 34 (ك).
الأجفان؛ إن هذا لهو الفضل المبين، فارتبطه بالتقوى التي هى عروة النجاه، وذخيرة الحياة والممات، وصفوة ما تلقى آدم من ربّه من الكلمات؛ وحير ما قدمته النفوس لغدها في أمسها، وجادلت [به] يوم تجادل كلّ نفس عن نفسها، قال الله سبحانه ومن أصدق من الله قيلا:{" وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اِتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً "} (1).
واستتم بالعدل نعم الله تعالى عليك، وأحسن كما أحسن الله إليك؛ وأمر بالمعروف فإنك من أهله، وأنه عن المنكر كما كنت تنزهت عن فعله، وأولياء أمير المؤمنين، وأنصاره الميامين، ومن يحفّ بمقام ملكه من الأمراء المطوّقين، والأعيان المعصّبين، والأماثل والأجناد أجمعين، فهم أولياؤه حقا، ومماليكه رقّا، والذين تبوءوا الدار والإيمان سبقا، وأنصاره غربا كما أن عسكرك أنصاره شرقا؛ فهم وهم يد في الطاعة على من ناواهم، يسعى بذمتهم أدناهم، وتحاكم فيهم وأنت عند أمير المؤمنين أعلاهم.
هذا وقد كان السيد الأجل الملك المنصور - رضى الله عنه - استمطر لهم [من] إنعام أمير المؤمنين المسامحة بعلقهم، وواس في هذه المنقبة التي استحق بها حسن الذكر بين طوائفهم وفرقهم، فصنهم من جائحات الاعتراض، وابذل لهم صالحات الأغراض؛ وارفع دونهم الحجاب، ويسّر لهم الأسباب، واستوف منهم عند [97] الحضور إليك غايات الخطاب؛ وصرّفهم في بلاد أمير المؤمنين ولاة وحماة، كما تصرفهم في أوقات الحرب لماة وكماة؛ وعرّفهم بركة سلطانك، واقتد قلوبهم بزمام إحسانك.
وأما القضاة والدعاة: فهم بين كفالتك وهديك، والتصريف على أمرك ونهيك؛ فاستعمل منهم من أحسن عملا، فأما بالعنايات فلا.
(1) السورة 4 (النساء)، الآية 77 (م).
والجهاد: فأنت راضع درّه، وناشئة حجره، وظهور الخيل مواطنك، وظلال الجبل مساكنك؛ وفى ظلمات مشاكله تجلى محاسنك، وفى أعقاب نوازله تتلى ميامنك؛ فشمر له عن ساق من القنا، وخض فيه بحرا من الظبا؛ واحلل فيه عقدة كلمات الله سبحانه وثيقات الحبى؛ وأسل الوهاد بدماء العدا، وارفع برءوسهم الرّبا، حتى يأتى الله بالفتح الذى يرجو أمير المؤمنين أن يكون مذخورا لأيامك، ومشهودا به يوم مقامك بين يديه من لسان إمامك.
والأموال: فهى زبدة حلب اللّطف لا العنف، وجمّة يمتريها الرّفق لا العسف، وما برحت أجدّ ذخائر الدول للصفوف، وأحدّ أسلحتها التي تمضى وقد تنبو السيوف؛ فقدّم للبلاد الاستعمار، تقدم لك الاستثمار، وقطرة من عدل تزخربها من مال بحار.
والرعايا: فهم ودائع الله لأمير المؤمنين وودائعه لديك، فاقبض عنهم الأيدى وابسط بالعدل فيهم يديك، وكن بهم رءوفا، وعليهم عطوفا؛ واجعل الضعيف منهم في الحق قويا، والقوى في الباطل ضعيفا، ووكّل برعايتهم ناظر اجتهادك، واجعل ألسنتهم بالدعاء من سلاحك، وقلوبهم بالمحبة من أجنادك، ولو جاز أن يستغنى عن [98] الوصية قائم بأمر، أو جالس في صدر، لا ستغنيت عنها بفطنتك الزكية، وفطرتك الذكية؛ ولكنها من أمير المؤمنين ذكرى لك وأنت من المؤمنين، وعرابة بركة فتلقّ رايتها باليمين.
والله تعالى يؤيدك أيها السيد الأجل - أدام الله قدرتك - بالنصر العزيز، ويقضى لدولة أمير المؤمنين على يديك بالفتح الوجيز؛ ولأهلها في نظرك بالأمر الحريز، ويمتع دست الملك ب؟؟؟ لى مجدك الإبريز؛ ويقر عيون الأعيان بما يظهر لك في ميدان السعادة من السبق والتبريز، ويملّيك من نحلة أنعم أمير المؤمنين بما ملّكك إياه ملك التحويز، ويلحق بك في المجد أو لك، ويحمد فيك العواقب ولك.
فاعلم ذلك من أمر أمير المؤمنين ورسمه، واعمل بموجبه وحكمه؛ إن شاء الله تعالى.