الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر تخريب حصن بيت الأحزان
لما كسر السلطان الفرنج بمرج عيون عاد إلى بانياس، وتجهز إلى المضى إلى الحصن وتخريبه، فسار إليه في ربيع الأول من هذه السنة، وأحاط به وبث العساكر في بلاد الفرنج [211] للغارة، واحتاج إلى نصب ستائر لأجل المنجنيقات، فركب السلطان إلى ضياع صفد - وهى للداويّة -، فأمر بقطع كرومها وحمل أخشابها، فأخذ كلما احتاج إليه ورجع، وجمع من الزّرجون (1) والأخشاب شيئا كثيرا ليجعل متارس (2) للمجانيق، فقال له جاولى الأسدى - وهو مقدّم الأمراء الأسدية -:
= فرآهم قد سدوا الفضاء وهم قارون آمنون وادعون، فقال تقى الدين لأصحابه:«هؤلاء على ما ترون من الطمأنينة والأمن والغفلة، وقد رأيت أن تحمل الساعة فيهم بعد أن نتفرق في جوانب عسكرهم وتصيح فيهم، فإنهم لا يثبتون لنا» ، فأجابوه إلى ذلك، فأنفذ واحدا من أصحابه إلى باقى عسكره وأمرهم أن يتفرقوا أطلابا، وأن يجعل في كل طلب قطعة من الكوسات والبوقات، فإذا سمعوا الضجة ضربوا بكوساتهم وبوقاتهم وجدّوا في السير حتى يلحقوا به، ففعلوا ما أمرهم؛ ثم إنه حمل في عسكر قلج أرسلان، وصرخ أصحابه في جوانبه، وكان عدة عسكر قلج أرسلان ثلاثة آلاف فارس، فلما سمعوا الضجة وحسّ الكوسات والبوقات، وشدة وقع حوافر الخيل، وجلبة الرجال، وأصطكاك أجرام الحديد هالهم ذلك، وظنوا أن قد فوجئوا بعالم عظيم، فلم يكن لهم إلا أن جالوا في كوائب خيولهم عريا، وطلبوا النجاة، وأخذتهم السيوف، فتركوا خيامهم وأثقالهم بحالها، وأكثر تقى الدين فيهم القتل والأسر، وحصل على جميع ما تركوه، فلما أصبح جمع المأسورين ومنّ عليهم بأموالهم وكراعهم وسرّحهم إلى بلادهم».
(1)
الزرجون - بفتح الراء أو سكونها - كلمة فارسية، ومعناها شجر العنب أو قضبان الكرم، وقد يكون من معانيها أيضا الخمر، و «زر» بالفارسية معناها الذهب، «جون» اللون وذلك لأن الخمر شبه لونها بلون الذهب. والمعنى المقصود هنا هو المعنى الأول أي شجر العنب أو قضبان الكرم. أنظر:(الجواليقى: المعرب، ص 165).
(2)
التّرس أصلا نوع من السلاح، وهو صفحة من الفولاذ مستديرة تحمل في اليد تتلقى بها ضربة السيف ونحوه، وفى (اللسان): التترّس التستّر بالتّرس، والمترس خشبة توضع خلف الباب.
الرأى أنا نجرّبهم بالزحف أول مرة، فننظر الحال معهم، فإن حصل الغرض وإلا فنصب المجانيق ما يفوت ".
فأمر فنودى في المعسكر بالزحف إليه، والجد في قتاله، فزحفو إليه، واشتد القتال، وعظم الأمر، فصعد إنسان من العامة بقميص خلق في باشورة (1) الحصن، وقاتل على السور من أعلاه، ويتبعه غيره من أضرابة، ولحق بهم الجند، فملكوا الباشورة، فصعد الفرنج حينئذ منها إلى أسوار الحصن يحمون نفوسهم وحصنهم إلى أن يأتيهم المدد، وكان الفرنج قد جمعوا بطبرية، وألح المسلمون في قتال الحصن خوفا من وصول الفرنج إليهم وإزاحتهم عنه، وأدركهم الليل (2) وباتوا طول الليل يحرسون، وخافوا أن تفتح الفرنج الأبواب، ويغيروا عليهم على غرة، وإذا الفرنج قد أوقدوا خلف كل باب نارا ليأمنوا من المسلمين، فاطمأنوا المسلمون، وقالوا:" ما بقى إلا ثقب البرج ".
فلما أصبحوا فرق السلطان جوانب البرج على الأمراء، فأخذ عز الدين فرخشاه ابن شاهنشاه بن أيوب الجانب القبلى، وأخذ السلطان الجانب الشمالى، وأخذ ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه بقربه [نقبا](3)، وكذلك الملك المظفر تقى الدين، وكل كبير في الدولة أخذ قسما، وكان البرج محكم البناء، فصعب نقبه، فعمقوا (4) النقب بعد الجهد، وأشعلوا النيران فيه، وانتظرا سقوط السور، فلم يسقط لعرضه، فإنه كان عرضه تسعة أذرع بالنجارى.
(1) الباشورة - والجمع بواشير - الحائط الظاهرى من الحصن يختفى وراءه الجند عند القتال، ويقابلها في الفرنسية:(Bastion) . (DOZY : Supp .Dict .Arab)
(2)
عند هذا اللفظ ينتهى نقل المؤلف عن (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 172)، ثم يبدأ باللفظ التالى النقل عن العماد الكاتب (الروضتين، ج 2، ص 11)، وهذا هو منهجه دائما لا ينقل أخبار الحادثة الواحدة عن مرجع واحد، بل يبدأ النقل عن مرجع ما، فيأخذ عنه سطورا، ثم ينتقل إلى غيره فينقل سطورا أخرى، وقد يعود إلى المرجع الأول فيأخذ عنه، أو قد يتم النقل عن مرجع ثالث وهكذا.
(3)
ما بين الحاصرتين عن العماد (المرجع السابق) وهو الأصل الذى ينقل عنه هنا.
(4)
وقف المؤلف في نقله عن العماد عند هذا اللفظ، وعاد ثانية للنقل عن نص ابن الأثير.
وذكر العماد الكاتب (1): أن النقب كان طوله ثلاثين ذراعا (2) في عرض ثلاثة أذرع، وكان عرضه تسعة أذرع - كما ذكرناه - فأمر السلطان بإطفاء النار بعد يومين ليتم نقبه، وقال:
" من جاء بقربة ماء فله دينار ".
فجاء الناس بالقرب، وصبوا الماء على النار حتى أطفأوها، ثم عاد النقابون فنقبوا وخرقوا السور، [212] وألقوا فيه النار، فسقط يوم الخميس لست بقين من ربيع الأول، ملك المسلمون الحصن، وأسروا كل من فيه، وأطلقوا من كان فيه من أسرى المسلمين.
وكان الفرنج قد جمعوا وراء السور الواقع حطبا، فلما وقع دخلت الرياح فردت النار عليهم، فأحرقت بيوتهم وطائفة منهم، فاجتمعوا إلى الجانب البعيد من النار، وطلبوا الأمان، فلما خمدت النار دخل المسلمون واستولوا عليهم قتلا وأسرا، وغنموا مائة ألف قطعة من الحديد من أنواع الأسلحة، وشيئا من الأقوات وغيرها، وجئ بالأسارى إلى السلطان، فمن كان مرتدا أو راميا ضربت (3) عنقه، وأكثر الأسارى قتله في الطريق المطوّعة (4) وكان عدة الأسرى نحو سبعمائة، وخلص من أسرى المسلمين أكثر من مائة مسلم، وسير باقى الأسرى إلى دمشق.
وأقام السلطان في منزلته حتى هدم الحصن إلى الأساس، وطمّ جب ماء معين كان حفرته الفرنج في وسطه، ورمى فيه القتلى، وكان عند السلطان رحمه الله رسول القومص، فشاهد البلية في أهل ملته، وكان السلطان قد بذل لهم في هدمه ستين ألف دينار فلم يفعلوا، فزادهم حتى بلغ مائة ألف فأبوا، وكانت مدة المقام على الحصن أيام فتحه وبعدها أربعة عشر يوما.
(1) وبهذا اللفظ عاد للنقل عن العماد.
(2)
الأصل: «ذراع» .
(3)
الأصل: «ضرب» والتصحيح عن (الروضتين، ج 2، ص 11).
(4)
النص عند العماد - وهو الأصل المنقول عنه هنا: " وأكثر من أسر قتله في الطريق الغزاة المطوعة "، راجع:(الروضتين، ج 2، ص 11).
ثم سار السلطان إلى أعمال طبرية وصور وبيروت فأغار عليها، وأرجف قلوبهم، ثم رجع إلى دمشق، ومرض [جماعة من ذلك الوباء](1) بسبب شدة الحرونتن جيف القتلى، وطوّل [السلطان](2) المقام عليه لأجل هدمه، فتوفى أكثر من عشرة أمراء.
وهنأ السلطان الملك الناصر رحمه الله جماعة من الشعراء بهذا الفتح الجليل، منهم بهاء الدين أبو الحسن على بن محمد بن رستم بن الساعاتى (3) الخراسانى بقصيدة أولها:
بجدك أعطاف القنا تتعطّف
…
وطرف الأعادى دون مجدك يطرف
(1) الأصل: «ومرض لأنه حصل له وباء» ولا يستقيم به المعنى إذ قد يفهم أن الذى مرض هو السلطان، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 11) وهو الأصل الذى ينقل عنه المؤلف هنا.
(2)
ما بين الحاصرتين عن نفس المرجع.
(3)
كان أبوه محمد بن على بن رستم بن هردوز خراسانى الأصل والمنشأ، ثم انتقل إلى دمشق، وكان ماهرا في صناعة الساعات، وهو الذى عمل الساعات التي كانت عند باب الجامع بدمشق. فأنعم عليه نور الدين محمود بن زنكى الإنعامات الكثيرة، وكان له ولدان: شاعرنا هذا، وأخ له اسمه فخر الدين رضوان اشتغل بالطب ومهر فيه، ثم وزر للملك للمفائز ولأخيه الملك المعظم ابنى العادل الأيوبى؛ وقد قضى الشاعر شبابه في دمشق، ثم رحل بعد الثلاثين من عمره إلى مصر وقضى فيها بقية حياته إلى أن توفى بها سنة 604 ودفن بسفح المقطم؛ وله ديوان شعر كبير، نشره أخيرا في جزئين الأستاذ أنيس المقدسى (مطبوعات الجامعة الأميركية في بيروت، 1938 - 1939). وهذه الأبيات لم ترد في الديوان المطبوع، وإنما وردت في (الروضتين، ج 2، ص 11) وقد نقلها عنه الأستاذ المقدسى وألحقها بالجزء الثانى من الديوان (ص 409). ولاستيفاء ترجمة الشاعر أنظر: (ابن خلكان: الوفيات، ج 3، ص 73 - 74) و (ابن أبى أصيبعة: طبقات الأطباء، ج 2، ص 183 - 184) و (مقدمة الأستاذ المقدسى لديوان ابن الساعاتى) و (ابن العماد: شذرات الذهب، ج 5، ص 13).
شهاب هدى في ظلمة الشرك (1) ثاقب
…
وسيف هدى في طاعة (2) الله مرهف
وقفت على حصن المخاض وإنّه
…
لموقف حقّ ما (3) يوازيه موقف
ومنها:
وما رفعت (4) أعلامك الصّفر (5) ساعة
…
إلى أن غدت أكبادها السود ترجف
[213]
كبا من أعاليه صليب وبيعة
…
وساد به (6) دين حنيف ومصحف
أتسكن أوطان النبيين عصبة
…
تمين لدى أيمانها حين (7) تحلف
نصحتكم، والنّصح في الدين واجب:
…
ذروا بيت يعقوب، فقد جاء يوسف
ثم أوردت البشائر إلى سائر الأمصار بما سناه الله سبحانه من هذا الفتح، وورد إلى الديوان العزيز النبوى كتاب بالإنشاء الفاضلى منه:
" فصل في ذكر الحصن: وقد عرض حائطه إلى أن زاد على عشرة أذرع، وقطعت له عظام الحجارة، وكل فص منها من سبعة أذرع إلى ما فوقها وما دونها،
(1) كذا في الأصل، وفى الروضتين:«الشك»
(2)
الأصل: «وسيف إذا ما هزك الله مرهف» ، وما هنا صيغة الروضتين. انظر أيضا:(ديوان ابن الساعاتى، ج 2، ص 409).
(3)
في الروضتين: «لا» .
(4)
في الروضتين: «وما رجعت» .
(5)
هذه إشارة لها قيمتها تدل على أن أعلام الدولة والجيش في عصر صلاح الدين كانت صفراء اللون.
(6)
الأصل: «وشاد» والتصحيح عن الروضتين والديوان.
(7)
في الروضتين: «وهى تحلف» .
وعدتها تزيد على عشرين ألف حجر، لا يستقر (1) الحجر في مكانه، ولا يستقل في بنيانه، إلا بأربعة دنانير فما فوقها، وفيما (2) بين الحائطين حشو من الحجارة الصم، المرغم بها أنوف الجبال الشم، وقد جعلت سقيته بالكاس الذى إذا أحاطت قبضته بالحجر مازجه بمثل جسمه، وصاحبه بأوثق وأصلب من جرمه، وأوعز إلى خصمه من الحديد بألا يتعرض لهدمه ".
فصل: " وبات الناس في ليلة الجمعة مطيفين بالحصن والنيران به مطيفة وعليه مشتملة، وعذبات ألسنتها على تاجه مهدلة ومسدلة، ومن خلفه مسبلة، ونارهم قد أطفأها الله بتلك النار الواقدة، ومنعتهم قد أذهبها الله بتلك الأبرجة الساجدة، وبنفسج الظلماء قد استحال جلنارا، والشفق قد عمّ الليلة فلم يختص آصالا (3) ولا أسحارا، ونفحاتها حميمية وقودها الناس والحجارة، والبلاء ينادى بلسان مصابها: إياك أعنى واسمعى يا جارة؛ فولجت النار موالج يضيق بها (4) الفكر، ويعجز عنها الإبر، ونقلت البناء من العين إلى الأثر، وقال الكفر: إنها لإحدى الكبر، وخولف المثل " إن السعادة لتلحظ الحجر "، وأغنى ضوؤها لسان كل إمّعة أن يسأل هذا وهذا: ما الخبر؟ وقذفت بالشرر كالجمالات الصفر، وزفرت يغيظ تعفر له خدود الجبال الصعر، وتلحقها بالكثب العفر، وبات الليل والنهار يثله، وكلما [214] أغمده الخمود جعل الوقود يسله، إلى أن بدا الصباح كأنه منها يمتار الأنوار، وانشق الشرق ومن عصفرها صبغ الأزار، فحينئذ تقدم الخادم فاقتلع الأحجار بيده من أسها، ومحا حروف البنيان من طرسها، وتبعه الجيش ورفاقه، وكافة من اشتمل عليه نطاقه ".
(1) الأصل: «يستقل» والتصحيح عن نسخة الرسالة الواردة في (الروضتين، ج 2، ص 13).
(2)
الأصل: «ما» وما هنا عن نفس المرجع.
(3)
الأصل: «أصلا» وما هنا عن نفس المرجع.
(4)
في الروضتين: «منها»