الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(18)
خطاب بقلم القاضى الفاضل، من صلاح الدين إلى سيف الدولة ابن منقذ - رسوله إلى ملك المغرب يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن - يستنجد به، ويطلب منه المعاونة بإرسال قطع من أسطوله، أثناء حصار الفرنج لعكا
؛ وتاريخ الخطاب 28 شعبان سنة 586 هـ
عن: (الروضتين، ج 2، ص 170 - 171)
بسم الله الرحمن الرحيم
الأمير الأجل، الاسفهسلار، الأصيل، العالم، المحترم، شمس الدين، عدّة الإسلام، جمال الأنام، تاج الدولة، أمين الملة، صفوة الملوك والسلاطين، شرف الأمراء، مقدم الخواص، أدام الله توفيقه، ويسّر طريقه، وأنجح مقصده، وأعذب مورده، وحرس مغيبه ومشهده، وأسعد يومه وغده.
يستخير الله سبحانه، ويتوجه - كيفما يسّر الله - إلى الجهة الاسلامية المغربية، - حرس الله جانبها، ونصر كتائبها ومراكبها - ويستقرى في الطريق وفى البلاد من أخبار القوم في أحوالهم وآدابهم وأشغالهم وأفعالهم، وما يحبونه من القول: نزره أو جمّه، ومن اللقاء: منبسطه أو منقبضه، ومن القعود بمجالسهم: مخففه أو مطوله، ومن التحيات المتهاداة بينهم: ما صيغته وما موقعه، وهل هى السنن الدينية أو العوائد الملوكية، ولا يلقه إلا بما يحبه، ولا يخاطبه إلا بما يسره.
والكتاب قد نفذ إليه ولم يختم ليعلم ما خوطب به، والمقصود: أن تقصّ القصص عليه من أول وصولنا إلى مصر، وما أزلنا من البدع بها، وعطلنا من الإلحاد فيها، ووضعنا من المظالم عنها، وإقامة الجمعة وعقد الجماعة فيها، وغزواتنا التي تواصلت إلى بلاد الكفار من مصر، فكانت مقدّمة لملك الشام الإسلامى
باجتماع الكلمة علينا، ومقدّمة لملك الشام الفرنجى بانقياد المسلمين لنا، واتفاق الملوك المجاورين على طاعتنا؛ وتفصيل ما جرى لنا مع الفرنج من الغزوات المتقدمة التي جسنا فيها خلال ديارهم، وجعلها الله تعالى مقدمات لما سبق في علمه من أسباب دمارهم، وما أعقبها من كسرتنا لهم الكسرة الكبرى، وفتح البيت المقدس، وتلك على الإسلام منة الله العظمى، إلى غير ذلك من أخذ الثغور، وافتتاح البلاد وإثخان القتل فيهم والأسر لهم، واستنجاد بقيتهم لفرنج المغرب، وخروج نجداتهم وكثرتها، وقوتها ومنعتها، وغناها وثروتها، ومسارعتها ومبادرتها، وأنه لا يمضى يوم إلا عن قوة تتجدد، وميرة تصل، وأموال واسعة تخرج، ومعونات كثيرة تحمل، وأن ثغرنا حصره العدو، وحصرنا نحن العدو، فما تمكّن من قتال الثغر، ولا تمكّن من قتالنا، وخندق على نفسه عدة خنادق، فما تمكنا من قتاله، وقدّم إلى الثغر أبرجة أحرقها أهله، وخرج مرتين إلى عسكرنا فكسر العدو أقله، فإنه اغتنم أوقاتا لم تكن العساكر فيها مجموعة، وارتاد ساعات لم تكن الأهب فيها مأخوذة، وأقدم على غرة استيقظت فيها نصرة الله لنا وخذلانه لهم، فقتل الله العدو القتل الذريع، وأوقع به الفتك الشنيع، وانجلت إحدى الحركتين عن عشرين ألف قتيل من الكفار خرجت أنفسها إلى مصارعها، وهمدت أجسامها في مضاجعها، والعدو وإن حصر الثغر فإنه محصور، ولو أبرز صفحته لكان باذن الله هو المثبور المكسور.
وتذكر ما دخل الثغر من أساطيلنا ثلاث مرات، وإحراقها لمراكبهم وهى الأكثر، ودخولها بالميرة بحكم السيف الأطهر، وأن أمر العدو مع ذلك قد تطاول، وخطبه قد تمادى ونجدته تتواصل، ومنها ملك الألمان في جموع جماهيرها مجمهرة، وأموال قناطيرها مقنطرة، وأن عساكرنا لو أدركته لما استدرك، ولولا سبقه لها بالدخول إلى أنطاكية لتلف وهلك.
وتذكر أنّ الله قصم طاغية الألمان وأخذه أخذة فرعونية بالإغراق، في نهر الدنيا الذى هو طريقه إلى الإحراق في نار الآخرة، وأن هذا العدو لو أرسل الله عليه أسطولا قويا مستعدا يقطع بحره ويمنع ملكه، لأخذنا العدو إما بالجوع والحصر، أو برز فأخذناه بيد الله تعالى التي بها النصر.
فإن كانت الأساطيل بالجانب المغربى ميسرة، والعدة منها متوفرة، والرجال في اللقاء فارهة، وللمسير غير كارهة، فالبدار البدار، وأنت أيها الأمير فيها أول من استخار الله وسار.
وإن كانت دون الأسطول موانع: إما من قلة عدة، أو من شغل هناك بمهمة، أو بمباشرة عدو ما تحصن منه العورة، أو قد لاحت منه الفرصة؛ فالمعونة ما طريقها واحدة، ولا سبيلها مسدودة، ولا أنواعها محصورة، تكون تارة بالرجال، وتارة بالمال.
وما رأينا أهلا لخطابنا، ولا كفؤا لإنجادنا، ولا محقوقا بدعوتنا، ولا ملبيا بنصرتنا، إلا ذلك الجناب، فلم ندعه إلا لواجب عليه، وإلى ما هو مستقل به ومطيق له، فقد كانت تتوقع منه همة تقد في الغرب نارها، ويستطير في الشرق سناها، وتغرس في العدوة القصوى شجرتها، فينال من في العدوة الدنيا جناها، فلا ترضى همته أن يعين الكفر الكفر، ولا يعين الإسلام الإسلام، وما اختص بالاستعانة إلا لأن العدو جاره، والجار أقدر على الجار، وأهل الجنة أولى بقتال أهل النار، ولأنه بحر والنجدة بحريّة، ولا غرو أن يجيش البحار البحار.
وإن سئل عن المملوكين: يوزبا وقراقوش، وذكر ما فعلا في أطراف المغرب بمن معهما من نفايات الرجال، الذين نفتهم مقامات القتال، فيعلمهم أن المملوكين ومن معهما ليسوا من وجوه المماليك والأمراء، ولا من المعدودين في الطواشية والأولياء، وإنما كسدت سوقهما، وتبعتهما ألفاف أمثالهما، والعادة جارية أن
العساكر إذا طالت ذيولها، وكثرت جموعها، خرج منها وانضاف إليها، فلا يظهر مزيدها ولا نقصها، ولا كان هذا المملوكان ممن إذا غاب أحضر، ولا ممن إذا فقد افتقد، ولا يقدّر في مثلهما أنه ممن يستطيع نكاية، ولا يأتى بما يوجب شكوى من جناية، ومعاذ الله أن نأمر مفسدا بأن يفسد في الأرض، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت.
وإن سئل عن النوبة المصرية، وما فعل بجندها، فيعلمهم الأمير أن القوم راسلوا الكفار، وأطمعوهم في تسليم الديار، فأشفى الإسلام على أمر شديد، وكاد يقرب على الكفر كل أمر بعيد، فلم يعاقب الجيش بل أعيان المفسدين فقوبلوا بما يجب، وكانوا دعاة كفر وضلال، ومحاربين لله بما سعوا في الأرض من فساد.
فأما بقية الجيش وإن كان منهم من هو تبع للمذكورين في الرضا، فإنهم اقتصر نهم على ألا يكونوا جندا، ومنهم من أجريت عليه أرزاق تبلغه، وشملته آمنة تسكنه.
وأما الهدية المسيّرة على يد الأمير فتفصيلها يرد في كتاب الأمير الأجل، الاسفهسلار، العالم الكبير، مجد الدين، سيف الدولة - أدام الله علوه - مقرونا بالهدية المذكورة.
ومع قرب الشتاء فلم يبق إلا الاستخارة والتسمية، ومبادرة الوقت قبل أن يغلق البحر انفتاح الأشتية.
والله سبحانه يوفق الأمير ويسهل سبيله، ويهدى دليله، ويكلاه بعينه، ويمده بعونه، ويحمل رحله، ويبلغه أهله، ويشرح له صدره، وييسر له أمره، إن شاء الله تعالى.
وكتب [في] ثامن عشرين شعبان سنة ست وثمانين وخمسمائة.