الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(20)
كتاب من القاضى الفاضل إلى صلاح الدين بشأن الرسالة إلى ملك المغرب، والكتاب يشعر أن الرسالة لم تكن برأى الفاضل أو موافقته
عن: (الروضتين، ج 2، ص 174 - 176) المملوك يقبل الأرض بالمقام العالى المولوى الملكى الناصرى، جعل له الله في الدنيا والآخرة المقام العالى، وأبقى دولته التي هى الأيام بالحقيقة والأيام قبلها هى الليالى.
وينهى أن الظاهر أن المملوك عند المولى ليس من أهل الاتهام، وأن له - ولله الحمد - آثارا في دولته تشهد بها الأيام، وآثار السيوف طاحت وبقيت آثار الأقلام، والرسالة المغربية ليس المملوك مشيرا بتركها، ولا كارها لسفر رسولها، ولا مستبعدا مصلحة قريبة الأمر منها لكن على وجهها، وقد نجزت الهدية المغربية على ما أمر به، وكتب الكتاب على ما مثل، وفخم الخطاب والوصف فوق العادة، وبما لا يمكن مخاطبة مخلوق بأكثر منه؛ وعند وصول الأمير نجم الدين من المخيّم المنصور فاوضه المملوك في أنه لا يمكن إلا التعريض لا التصريح بما وقع له أنه لا تنجح الحاجة إلا به من لفظه أمير المؤمنين، وأن الذين أفاضوا في هذا الحديث وأشاروا به ما قالوه نقلا ولا أحاطوا به قياسا، ولا عرفوا مكاتبة المصريين قديما.
وآخر ما كتب في أيام الصالح بن رزّيك فخوطب فيه أكبر أولاد عبد المؤمن وولىّ عهده بالأمير الأصيل النجار الجسيم الفخار، وعادت الأجوبة إلى ابن رزّيك - وهو وزير سلطان مصر الذى أتباع مولانا اليوم مائة مثله - مترجمة: بمعظم أمره، وملتزم شكره؛ هذا والصالح يتوقع أن يأخذ ابن عبد المؤمن البلاد من يديه،
وما هو إلا أن يهرب مملوكان طريدان منا فيستوليان على أطراف بلاده، ويصل المشار إليه بالأمر من مراكش إلى القيروان في ستة أشهر، فيلقاهم فيكسر مرة ويتماسك أخرى.
وأعلم الأمير نجم الدين بذلك، فأمسك مقدار عشرة أيام، ثم أنفذ الأمير المذكور إليه على يد ابن الجليس بأن الهدية أشير عليه بأن لا يستصحبها، وإن استصحبها تكون هدية برسم من حواليه؛ وأن الكتاب لا يأخذه إلا بتصريح أمير المؤمنين، وأن السلطان - عز نصره - رسم له ذلك، والملك العادل - دامت قدرته - بأن لا يشير إلا به، وأنه إذا لقى القوم خاطبهم بهذه التحية عن السلطان - أبقاه الله - من لسانه.
فأجابه المملوك: بأن لخطاب يكفى، وطريق جحدنا له ممكن، والكتابة حجة تقيد اللسان عن الإنكار، ومتى قرئت على منبر من منابر المغرب جعلنا خالعين في مكان الإجماع، مبايعين من لا ينصره الله ولا شوكة فيه، ولا يحل اتباعه، مرخصين الغالى، منحطين عن العالى، شاقين عصا المسلمين، مفرّقين كلمة المؤمنين، مطيعين لمن لا تحل طاعته، متقلدين لمن لا تصح ولايته، فيفسد عقود الإسلام، وينفتح باب يعجز وارده عن إصدار؛ بل تمضى وتستشف الأمور، وتكشف الأحوال، فإن رأيت للقوم شوكة ولنا زبدة فعدهم بهذه المخاطبة، واجعل كل ما نأخذه ثمنا للوعد بها خاصة، فامتنع وقال: أنا اقضى أشغالى، وأتوجه إلى الإسكندرية، وأنتظر جواب السلطان - عز نصره - وما يفوت وقت، وإلى أن أنجز أمر المركب، وأرتاد الركاب.
فسيّر المملوك النسخة، وإن وافقت فينعم المولى على المملوك بترجمة يلصقها على ما كتبه، ويأمر نجم الدين بتسلم الكتاب؛ على أن ابن الجليس حدثه عنه أنه ممتنع من السفر إلا بالمكاتبة بها.
فأما الذى يترجم به المولى - عز نصره - فيكون مثل الذى يدعى به على المنبر لمولانا، وهو: الفقير إلى الله تعالى يوسف بن أيوب، أدام الله غنى مولانا بالفقر إلى ربه.
وإذا كتب الصالح بن رزّيك إليهم: من السيد الأجل الملك الصالح، قبح أن يكتب إليه مولانا أبقاه الله: الخادم، وهذا مبلغ رأى المملوك، والمؤمن لا يذل نفسه، وقاسم الأرزاق يوصلها وإن رغم من جرت على يده.
وإن كان مولانا - أعز الله نصره - يقول: أنت غافل وغائب، وما تعرف ما الإسلام فيه، فلو حضرت وعرفت ما شققت الحديث؛ فجواب ما نكتب بعد سنتين، فما يتخلى الله عنا، ولا تستمر هذه الشدة، ولا نسئ الظن بالله، وإذا كانت لنا - إن شاء الله - أخذت خالية ممن نطلب الآن مواساته؛ وإذا كان المملوك مستجهلا وغير مستنصح، وللضرورة حكمها، والأحوال المملوك غائب عنها، فالمفهوم من الأمر للمملوك أن يتولى من الكتابة ترتيب المقاصد، وتحرير الألفاظ، وتنضيد الخبر عما أجراه الله تعالى على يد مولانا - عز نصره - والتأنى المطلوب، فقد فعل هذا كله في النسخة، وبقيت اللفظة التي ليست كتابة المملوك لها شرطا فيها، والمملوك وعقبه مستجيرون بالله تعالى ثم بالسلطان - عز نصره - من تعريضهم لكدر الحياة، وتوقع الخوف، ومعاداة من لا يخفى عنه جبر ولا تقال به عثرة.
ويكفى أن المولى أنعم بخطه في كتابه إلى المملوك، وفيها ما هو بخط حضرة سيدنا الأجل عماد الدين الكاتب الأصفهانى - حرسه الله - لما وصى بأن لا يناظر في الخطاب ما صرّح باللفظة، فهى إما تقية فالمملوك أولى بها، وإما استهانة فنفس الملك لا تقاس بنفس المملوك؛ فإن كان ولا بد فالنسخة بين يديه، والمقصود فيها من زيادة هذه اللفظة ما يحتاج إلى تعليم، والكتّاب الذين
يستقلون بكتابة النسخة معدومون، وقد ناب المملوك عنهم، والكتّاب الذين يستقلون بالتبييض موجودون، فينوبون عن المملوك في التبييض؛ وإلا فكيف يسير رسول بكتاب من مصر بلا خط سلطان، وبغير حضرته كتب، ولا بهدية سار، وبمحضر من البغاددة والمغاربة، يعلمون أن الكتاب كتب بمصر، ويشهدون بما لم يروه، وما لم يقرءوه من الخطاب.
ولو وصل من المولى - أدام الله أيامه - كتاب مختوم، وسيّر ولم نعلم ما فيه، لا نقطع فضول كثير، وخمدت أراجيف شنيعة، ولا يعتقد المولى أن المملوك يعظم القصص، فما للألسنة والأعين شغل إلا السلاطين وأفعالهم وأقوالهم، ولا للخلق خوض إلا في أوامرهم وأحوالهم.
ولو علم المملوك أن هذا الذى استعفى منه يضّره بحيث ينفع المولى - أبقاه الله - لهان عليه، ولكنه مضرّة بغير منفعة، وتعرّض لما تذم عاقبته أو يبقى على الخوف منه، وذلك مما لا يقتضيه حسن عهد المولى وفضل رأفته، فمقصود المولى - أبقاه الله - تحصيل تبييضها بين يديه، وربما حصل استنارة وأمنت المكاره فيه، وغمضت العيون عنه، وشحت الأيام عليه طالع المملوك بذلك ".