الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر نصب الأبراج على عكا وإحراقها
وكان الفرنج قد شرعوا في بناء ثلاثة أبراج عالية عظام، ونقلوا في البحر آلاتها وأخشابها الجافية، وقطع الحديد، وتعبوا فبها سبعة أشهر، وفرغوا منها في ربيع الأول من هذه السنه فعلت كأنها أطواد، ونصبت في ثلاثة مواضع من أقطار البلد، وملئت طبقاتها بالعدد والعدة، وكل برج منها في أركانه أربع اسطوانات عاليات غلاظ، طول كل واحدة خمسون ذراعا لتشرف على ارتفاع سور البلد، وبسطوها على دوائر العجل، ثم كسوها بجلود البقر، وسقوها بالخل والخمر (1) وكانوا يقربونها كل يوم من البلد على حسب ما تيّسر لهم، وكشفوا من جوانبها سور البلد.
ثم شرعوا في طم الخندق، وورد الخبر إلى السلطان بأن العدو قد طمّ بعض الخندق وقد قوى عزمه على منازلة البلد ومضايقته، فكتب السلطان إلى سائر الأطراف يأمر بالحث على وصول العساكر، واشتد خوف المسلمين بسبب الأبراج الخشب فإنها كانت في غاية العظم، فإن كل واحد منها كان يحمل من المقاتلة ما يزيد على خمسمائة فارس [353] ويتسع سطحه لأن ينصب عليه منجنيق، ولم يبق إلا ملاصقة الأبراج السور، ووقع الناس من حفظ البلد في تعب عظيم، وأعمل السلطان فكره في إحراق الأبراج وإهلاكها، وجمع الصناع من الزّراقين والنفاطين ووعدهم بالأموال الجزيلة إن أحرقوها، فضاقت في ذلك حيلهم.
ولازم السلطان القتال صباح ومساء وفرّق العساكر فرقتين: فرقة تقاتل، وفرقة تشغل الذين يجرون الأبراج عن جرها، ورميت بكل قارورة نفط فلم يؤثر فيها شىء.
(1) هذا نص هام يفيد من يدرس أدوات القتال في تلك العصور، فقد كانوا ينقعون الجلود في الخل والخمر مدة لتصبح غير قابلة للاشتعال، ثم يتخذونها ستائر يسترون بها الأبراج والحصون من القذائف النارية، راجع ما فات هنا أيضا ص 303، هامش 5.
وكان شاب من أهل دمشق يقال له على، ابن عريف النحاسين مولعا بجمع آلات الزرّاقين وتحصيل عقاقيرها [فوعد السلطان صلاح الدين بإحراقها، ففرح بذلك ووعده بكل جميل](1)، فدخل إلى عكا بعد أن حصل من الأدوية التي يعرفها ما يحتاج إليه، فطبخ الأدوية من النفط في قدور من النحاس حتى صار الجميع كأنه جمرة نار، ورمى إحدى الأبراج، وذلك يوم السبت لليلتين بقيتا من ربيع الأول، وهو يوم وصول الملك الظاهر، فاشتعل البرج من ساعته، وصار كالجبل العظيم من النار طالعة ذوائبها نحو السماء، فاستغاث المسلمون وضجّوا بالتكبير والتهليل، ثم رمى الثانى بالقدر الثانية، والثالث بالثالثة، فأحرق الثلاثة.
وذكر العماد:
أنه رمى الأبراج أولا بقدور نفط خالية من النار، حتى عرف أنه سقاها ورواها، ثم رماها بالقدور المحرقة، فتسلطت النار على طبقات الأبراج، وذكر أنه احترق في البرج الأول سبعون (2) فارسا بعدتهم، واشتد سرور المسلمين بهذا الفتح.
وحمل الزرّاق إلى السلطان [فأعطاه شيئا كثيرا](3)، فلم يقبل عطاه وقال:
«هذا عملته لله، فما أريد من سواه جزاء» ، [(3) فأوقف السلطان عليه قرية من خيار قرى دمشق](3)، وخرج أهل عكا من البلد، فطفوا النار، وسدوا الثغر، وجاءوا إلى مواضع الأبراج فاستخرجوا حديدها، وما وجدوا من الزرديات والعدد التي سلمت فأخذوها.
(1) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (ص 97 أ).
(2)
س: «تسعون» وما هنا يتفق ونص العماد (الروضتين، ج 2، ص 154) وبعد هذا اللفظ في س: «وكذلك في الثانى والثالث أعظم من ذلك» .
(3)
ما بين الحاصرتين زيادة عن س.