الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر وصول السلطان إلى القدس
وتوجهه بعد ذلك إلى عكا ثم إلى دمشق
(1)
ثم رحل السلطان من البلاد الغورية مستهل ذى الحجة من هذه السنة - أعنى سنة أربع وثمانين وخمسمائة - وصحبته أخوه الملك العادل سيف الدين، فوصل إلى القدس يوم الجمعة ثامن الشهر، وهو يوم التروية، وصلى الجمعة في قبة الصخرة، وعيّد بها يوم الأحد الأضحى، ثم سار يوم الاثنين إلى عسقلان للنظر في أحوالها؛ وسيّر أخاه الملك العادل إلى الديار المصرية لمعاضدة ولده الملك العزيز [330] ومساعدته، وأعطاه الكرك، وأخذ منه عسقلان - وكان وهبها له -.
ثم توجه السلطان إلى عكا، فما مرّ على بلد إلا قوّى عدده، وكثّر عدده، ووصل إليها، وأقام بها إلى أن خرجت السنة.
ودخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة والسلطان الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله مقيم بعكا ينظر في أمورها ومصالحها، وقد تقدم إلى بهاء الدين قراقوش باتمام العمارة (2)، وولى حسام الدين بشارة الولاية [بها]، وأقام السلطان بعكا معظم المحرم، ثم سار يريد دمشق، فدخلها في مستهل صفر من السنة.
وفى ثانى عشر صفر وصل ضياء الدين عبد الوهاب بن سكينة رسولا من الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين يأمر بالخطبة لوليده وولى عهده عدة (3) الدنيا والدين
(1) هذا العنوان غير موجود في س.
(2)
س: " عمارتها ".
(3)
الأصل: " عمدة " والتصحيح عن س والروضتين.
أبى نصر محمد، وهو الذى ولى بعده، ولقب الظاهر بأمر الله؛ فأمر السلطان بإقامة الخطبة له، وسير معه رسوله ضياء الدين أبا (1) القسم بن محيى الدين بن الشهرزورى، وسيرت معه هدايا وتحف، وأسارى من الفرنج بعددهم وتاج ملكهم الأسير، والصليب الذى كان فوق الصخرة، وشئ كثير من الملبوس والطيب.
وسار الرسولان إلى بغداد، ودخلت الأسارى من الفرنج على هيئتها يوم قراعها (2)، راكبة حصنها، في طوارقها (3) وأدراعها وبيارقها، وقد نكست
(1) الأصل: " أبى "، وفى س:" ضياء الدين الفسم بن يحيى الشهرزورى ". وفى (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 101 و 114): " ضياء الدين القاسم أبو الفاضل بن يحيى بن عبد الله الشهرزورى ".
(2)
كذا في الأصل، وفى س:" مراعها " بدون نقط، وفى (الروضتين، ج 2، ص 139): " فراغها "، وما هنا هو الصحيح.
(3)
الطارقة - وتجمع على طوارق أو طارقيات -، اختلف في أصلها، ويرى (Dozy : Supp Dict .Arab) أنها لا ترجع إلى أصل عربى، بل هى مأخوذة عن الكلمة اللاتينية " targa " ومنها أخذت الكلمة الإيطالية (tarja) والفرنسية، (targe) والأصل اللاتينى لها جميعا، (tergum) ويؤيد دوزى رأيه هذا القائل بأن اللفظة ترجع إلى أصل أوروبى بشواهد كثيرة منقولة عن المراجع العربية المعاصرة للحروب الصليبية، ومعظم هذه الشواهد يورد لفظ " الطوارق " عند وصفه للصليبيين الأوربيين وأسلحتهم، فقد جاء في:(العماد الأصفهانى: الفتح القسى، ص 164) عند وصفه للقتال مع الفرنج قوله: " وهم (أي الفرنج) لمواضعهم ملازمون. . . وبالخنادق من البوائق محتمون، وبالطوارق من الطوارق معتصمون. . . "، ويقول في ص 247:" فتراجع الفرنج واصطفوا على خنادقهم ووقفوا بقنطار يأتهم وطوارقهم "، وقال في ص 262:" وتدرع (أي العدو) بأسواره وخنادقه، وتستر عن طوارق البلاء بستائره وطوارقه، فلا يخرج منه إلى معاركه "، وقال في ص 263:" إلى أن انتقل القتال من السور إلى الدور، ومن الطوارق إلى الطرق والسطوح. . . الخ ". أما عن معنى اللفظ فالرأى مختلف، ولكننا بدراسة هذه النصوص نستطيع أن نقول إن هذا المصطلح كان يطلق على نوعين من السلاح: الأول: نوع من الترس يحمله الجندى لحماية نفسه أثناء القتال، أو هو كما عرفه دوزى: " ترس كبير مستطيل يغطى معظم الجزء الأسفل من الجسم
Un grand bouclier oblong qui couvrait presque toute la partie inferieure du corps =
أعلامها وبنودها؛ فدفن الصليب (1) تحت عتبة باب النوبى الشريف يتبين منه الشئ القليل، وكان من نحاس قد طلى بذهب، فديس بالأرجل، وبصق الناس عليه.
= ويؤيد هذا المعنى قول العماد فيما سلف: " ووقفوا بقنطار يأتهم وطوارقهم "، وقول (بهاء الدين ابن شداد: السيرة اليوسفيه؛ ونقله عنه ابن واصل فيما يلى هنا: " ما وجدت مع واحد منهم (من الفرنج) طارقة ولا رمحا إلا النادر "؛ وكان في القاهرة حارة تسمى " حارة الطوارق " أو " حارة صبيان الطوارق "، قال (المقريزى: الخطط، ج 3، ص 24) " وهم من جملة طوائف العسكر، كانوا معدين لحمل الطوارق ". وبهذا المعنى أيضا استعمل اللفظ في الغرب الإسلامى، ففى كتاب الحلل مثلا فقرة لابن اليسع يقول فيها أحد الموحدين:" فصنعنا دارة مربعة في البسط، جعلنا فيها من جهاتها الأربع صفا من الرجال بأيديهم القنا الطوال والطوارق المانعة، ووراءهم أصحاب الدرق والحرب صفا ثانيا ". والمعنى الثانى: آلة حربية مكونة من جملة من الألواح الخشبية تستخدم كمتراس يخفى الجنود الرماح والصخور خلفها، فهى كما وصفها دوزى:
(Un mantelet،une sorte de machine composee de plusieure madriers،derriere laquelle on se mettait a couvert des lraits et des pierres) .
ويؤيد هذا المعنى الثانى قول العماد السالف الذكر: " وهم بالخنادق من البوائق محتمون، وبالطوارق من الطوارق معتصمون " وقوله: " وتدرع بأسواره وخنادقه، وتستر عن طوارق البلاء بستائره وطوارقه " وقوله: " إلى أن انتقل القتال من السور إلى الدور، ومن الطوارق إلى الطرق "، فلفظ الطوارق في هذه النصوص يستعمل دائما مقرونا بلفظ الستائر أو الخنادق، فكأنه كان يؤدى عملها، وليس أوضح في هذا المجال من قول (الحسن بن عبد الله: آثار الأول، ص 192) عند وصفه لنوع من الدبابة أو البرج:". . . فتندفع وتجرى على سهولة العجل التي ركبت عليها، ويصعد الرجال في أعلاه، وقد أديرت حوله الستائر والطوارق ". وقد وصف مرضى بن على الطوارق في كتابه (تبصرة أرباب الألباب، ص 12) الذى ألفه لصلاح الدين وصفا دقيقا يقطع الشك باليقين، قال عند ذكره لأنواع التراس:" ومنها الطوارق، وهى التي يستعملها الفرنج والروم، ويتباها (؟) في حسن إذهابها ودهانها وتلوينها بأنواع الأصباغ، وتصويرها وإتقانها، وهى مستطالة، وتكوينها إلى أن تستر الفارس والراجل، تبدئ مدورة، ثم تجمع أولا أولا إلى أن ينتهى آخرها إلى نقطة محدودة كرؤوس المعاول ". راجع كذلك:
(Cahen : Un Traite d'Armurerie . .etc .P 155 - 156)
و (ابن القلانسى: ذيل تاريخ دمشق، ص 179).
(1)
المقصود به: " صليب الصلبوت " المشهور، راجغ ما فات هنا، ص 183، هامش 1؛ ص 209 هامش 3
قلت (1): إن عدة (2) الدين أبا نصر محمد بن الإمام الناصر لدين الله كان الأكبر من ولد الإمام الناصر، وكان شهما قوى النفس شجاعا مقداما له همة عالية ونفس أبية، وكان أبوه يخافه ويستشعر منه لما يرى من شهامته وقوة نفسه، وكان أيضا أبو نصر محمد مخالفا لأبيه في المذهب، لأن أباه كان شيعيا، وكان أبو نصر سنيا يبغض الروافض، ويميل إلى الحنابلة، وكان أبوه يكرهه أيضا لهذا الأمر، لكنه لم يجد بدا من توليته العهد بعده إذ لم يكن له في ذلك الوقت من يصلح للأمر من بعده من ولده غيره.
ثم إن الناصر لدين الله من بعد ذلك [331] نشأ له ولد أصغر من أبى نصر محمد، وهو أبو الحسن على، فكان منقادا لأبيه جدا، موافقا له في مذهب التشيع، فمال إليه الناصر لدين الله ميلا عظيما، وأعرض عن أبى نصر محمد، وقويت النفرة بينهما، وأدى ذلك إلى خلع الناصر ولده أبا نصر من ولاية العهد، وأمر بإسقاط اسمه من السكة والخطبة، وكتب بذلك إلى سائر الآفاق، وقيّد أبا نصر وحبسه.
ثم بعد ذلك توفى أبو الحسن على بن الناصر، فحزن عليه أبوه الناصر حزنا عظيما، وتقدم إلى الشعراء بمرثيته، (3) وأظهر الملوك في سائر الأطراف شعار الحزن عليه، وجلسوا له في العزاء (3)، ورثته - كما سنذكره إن شاء الله تعالى - الشعراء، ولم يبق للخليفة غير أبى نصر، فدعته الضرورة إلى إعادة أبى نصر (4) إلى ولاية عهده،
(1) مكان هذا اللفظ في س (86 ب): " قال صاحب التاريخ قاضى قضاة حماة المحروسة ابن واصل ".
(2)
الأصل " عمدة " والتصحيح عن س والروضتين.
(3)
هذه الجملة غير موجودة في س.
(4)
انفرد ابن واصل هنا بما ذكره من أن الخليفة الناصر كان شيعيا، وأنه عزل ابنه أبا نصر محمدا عن ولاية العهد لأنه كان سنيا يختلف مع أبيه في المذهب، والذى ذكرته المراجع الأخرى أن أبا نصر محمدا هو الذى استقال من ولاية العهد فأقاله والده. راجع في هذا:(ابن عربى: محاضرة الأبرار، ج 1، ص 48) و (ابن الاثير: الكامل، ج 12، ص 80) و (سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، ج 8، حوادث سنة 601) و (ابن الساعى: الجامع المختصر، نشر مصطفى جواد ص 144) و (السيوطى: تاريخ الخلفاء، ص 299).