الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعند ذلك أمر الخليفة بالبيعة لولده وولى عهده الناصر لدين الله أبى العباس أحمد، وذلك يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة مضت من شوال من هذه السنة.
وتوفى الخليفة في هذا اليوم؛ وكان رحمه الله ديّنا حسن السيرة جميل الطويّة، محبا للعدل، كارها للظلم، لين الجانب؛ وذكر بعض جلسائه: أنه كان يوما بحضرته، فعرضت عليه مطالعة لظهير الدين بن العطار، وكانت قد لاحت أمارات التغير عليه والالتفات عنه، فأنشد الخليفة:
وإذا كرهت بأن تجاهل في الذى
…
يأتى فلا تعمل برأى الجاهل
وكانت مدة خلافته تسع سنين ويسيرا.
ذكر البيعة بالخلافة
للإمام الناصر لدين الله أبى العباس أحمد
وفى التاريخ المذكور بويع بالخلافة للإمام الناصر أبى العباس أحمد بن المستضئ ابن المستنجد بن المقتفى؛ وكان مولده سنة اثنين وخمسين وخمسمائة، في أيام جد أبيه المقتفى، وكان عمره يوم البيعة له ثلاثا وعشرين سنة وشهرا، وخطب له ببغداد، ونثرت الدنانير على المنابر، ومدحه أمين الدولة أبو الفتح بن عبيد الله سبط [ابن] التعاويذى (1)، وهو من فحول شعراء العراق بقصيدة أولها:
طاف يسعى بها على الجلاّس
…
كفضيب الأراكة الميّاس
(1) هو سبط أبى محمد المبارك بن المبارك بن على بن نصر السراج الجواهرى الزاهد المعروف بابن التعاويذى، وقد نسب الشاعر إلى جده لأنه كفله صغيرا ونشأ في حجره، ولد أبو الفتح سنة 519، وتوفى سنة 583 أو 584 هـ، وكان كاتبا بديوان المقاطعات ببغداد، وعمى في آخر عمره سنة 579 هـ. ولاستيفاء ترجمته انظر:(ابن خلكان: الوفيات، ج 4 ص 90 - 97) و (الصفدى: نكت الهميان، ص 259 - 263) و (ديوان سبط ابن التعاويذى، نشر الأستاذ مرجليوث، المقدمة)؛ وعلى هذا الديوان عارضنا القصيدة الواردة بالمتن هنا وصححناها.
بدر تمّ غازلت من لحظه
…
ليلة نادمته غزال كناس
ذلّلته لى المدام، فأضحى
…
ليّن العطف بعد طول شماس
[217]
لا يبت ذلك الحبيب بما بتّ
…
أعانى في حبّه وأقاسى
قلقى من وشاحه، وبقلبى
…
ما بخلخاله من الوسواس
ورأى الغانيات شيبى فأعرض
…
ن وقلن: الشباب خير لباس
كيف لا يفضل السواد وقد أض
…
حى شعارا على بنى العباس
أمناء الله والكرام، وأهل الج
…
ود والعلم (1) والتقى والباس
ولقد زينت الخلافة منهم
…
بإمام الهدى أبى العباس
ملك، جلّ قدسه عن مثال،
…
وتعالت آلاؤه عن قياس
يا لها ببعة أجدّت من الإس
…
لام بالى رسومه الأدراس (2)
وإلى الله أمرها، فله المنّ
…
ة فيها عليه، لا للناس
وتولى أخذ البيعة له ذو الرياستين محمد بن أبى الفضل بن الصاحب أستاذ الدار، ونائب الوزارة ظهير الدين بن العطار، ثم بعد ثلاثة عشر يوما برز أمر الخليفة بالقبض على ابن العطار، لما كان صدر عنه في أيام أبيه من الظلم للرعية والحيف عليهم، فقبض عليه، وضرب بالعصى إلى أن مات، وأخرج تابوته من باب النوبى، فثار عليه العوام (3)، وألقوه عن رأس الحمالين، وكسروا تابوته، ومزقوا أكفانه، وربطوا في إحدى رجليه حبلا، وسحبوه في الأسواق، وقطعوا خنصره وأذنه، فدفنته أخته ليلا خلسة من الناس.
(1) في (الديوان، ص 237): «والحلم» .
(2)
الأصل: «الأمراس» وما هنا عن (الديوان، ص 238).
(3)
راجع: (الروضتين، ج 2، ص 15) و (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 173) و (ابن طباطبا: الفخرى، ص 286).
واستدعى الخليفة الناصر لدين الله فخر الدين بن المطلب، وطلب منه أن يلى الوزارة، فامتنع واعتذر، فطلب منه أن يشير بمن يصلح، فأشار بأن يستناب في الوزارة سليمان بن حارس، فولى نيابة الوزارة، وخلع عليه، ولقب بحسام الدين، فأقام مديدة يسيرة، ثم عزل.
وولى نيابة الوزارة جلال الدين أبو المظفر محمد بن النجارى، وكان فقيها فاضلا في المذهب والخلاف.
وبسط الإمام الناصر لدين (1) الله العدل، وأمر بالنداء في الناس به، وأمر بكسر الملاهى، وإراقة الخمور، وإقامة الحدود، ومنع من التظاهر [218] بشرب الخمر والمنكرات، وإزالة المكوس المضروبة على التجار الورادين إلى بغداد، فعمرت البلاد، وكثرت الأرزاق.
وكان الناصر عظيم الهيبة، عالى الهمة، وافر العقل، حسن السياسة، متيقظا، لا يفوته أمر مما يجرى في بلاده وغيرها من بلاد الإسلام.
وكان له أصحاب أخبار يطالعونه بما يحدث وما يرونه (2) من الأمور في كل صقع، فخافه الناس خوفا شديدا، وهابوه، وكان الإنسان في العراق لا يجسر أن يجرى في بيته وخلوته ما يخاف الإنكار عليه منه، حتى كان يتوهم من أهل بيته وأخص الناس به أن ينقل خبره إلى الخليفة.
وفتح في أيامه فتوحات كثيرة، واتسع ملكه جدا، واستولى على خوزستان والجبل، وفتح كثيرا من بلاد العجم، وقامت للدولة العباسية في أيامه حثمة لم يكن مثلها موجودا إلا في الزمن القديم قبل استيلاء الملوك على العراق.
(1) انظر ترجمته في: (السيوطى: تاريخ الخلفاء، ص 297 - 303) و (ابن الأثير الكامل، ج 12، ص 168 - 169) و (ابن طباطبا: الفخرى، ص 285) و (ابن الساعى: الجامع المختصر، مقدمة الناشر الدكتور مصطفى جواد) و (سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، ج 8، ق 2 ص 635 - 636).
(2)
الأصل: «يروه» .