الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(19)
خطاب مرسل من صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى ملك المغرب يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن يستنجد به على الفرنج أثناء حصارهم لعكا
، وفى ختامه إشارة إلى الهدية المرسلة من صلاح الدين بهذه المناسبة
عن: (الروضتين، ج 2، ص 171 - 173)
بلاغ إلى محل التقوى الطاهر، ومستقر حزب الله الظاهر، من المغرب، أعلى الله به كلمة الإيمان، ورفع به منار البر والإحسان.
بسم الله الرحمن الرحيم
من الفقير إلى رحمة ربه يوسف بن أيوب:
أما بعد: فالحمد لله الماضى المشية، الممضى القضية، البرّ بالبريّة، الحفى بالحنفية، الذى استعمل عليها من استعمر به الأرض، وأغنى من أهلها من سأله القرض، وأجزل أجر من أجرى على يده النافلة والفرض، وزان سماء الملّة بدرارى الذرارى التي بعضها من بعض، وصلى الله على سيدنا محمد الذى أنزل عليه كتابا فيه الشفاء والتبيان، وبنى الإسلام بأمته التي شبهها صاحبها بالبنيان، وعلى آله وصحبه الذين اصطفاهم وطهّرهم فنصروه، وظاهروا رسوله صلى الله عليه وسلم فنصرهم وأظهرهم، ويسّر بهم السبيل ثم السبيل يسّرهم، وأن الله بهم لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم. . .
وهذه التحية الطيبة الكريمة الصيبة الواجبة الرد، الموجبة للقصد، العذبة الورد، المتنفسة عن العنبر والورد، وقادة على دار الملك، ومدار النسك، وجل
الجلالة، وأصل الإصالة، ورأس الرياسة، ونفس النفاسة، وحكم الحكم، وعلم العلم، وقائم الدين وقيّمه، ومقدم الإسلام ومقدمه، ومقتضى دين الدين، ومثبت المتقين على اليقين، ومعلى الموحدين على الملحدين أدام الله له النصرة، وجهز به تيسير العسرة، وردّ له الكرة، وبسط له باع القدرة، وأوثق به حبل الالفة، ومهّد له درجات الغرفة، وعرّفه في كل ما يعتزمه صنعا جزيلا جميلا، ولطفا حفيّا جليلا، ويسّر عليه في سبيله كلّ ما هو أشدّ وطأ وأقوم قيلا.
تحية أستنير منها الكتاب، وأستنيب عنها الجواب، وقد حفز لها حافزان:
أحدهما شوق قديم كان مطل غريمه ممكنا إلى أن تتيسر الأسباب، والآخر مرام عظيم ماكره إذا استفتحت به الأبواب؛ وكان وقت المواصلة، وموسم المكاتبة هناؤه بفتح المقدس، وسكون الإسلام منه إلى المقيل والمعرّس، وما فتح الله للإسلام من الثغور، وما شرح لأهله من الصدور، وما أنزله عليهم من النور، ولم يخل المسلمون فيه من دعوات أسرار ذلك الصدر، وملاحظات أنوار ذلك البدر، ومطالعات تلك الجهة، التي هى وإن كانت غربية فإن الغرب مستودع الأنوار، وكنز دينار الشمس ومصب أنهار النهار، ومن جانبه يأتى سكون الليل ومستروح الأسرار، وعنه يقلب الله الليل والنهار، إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار، ولم تتأخر المكاتبة إلا ليتم الله ما بدأ من فضله، وليفتح بقية ما لم ينقطع بتقطع يد الشرك من حبله.
والمفتتح بيد الله من الشام: مدن وأمصار، وبلاد كبار وصغار، وثغور وقلاع كانت للشرك معاقل، وللإسلام معاقر، ولبنى الكفر مصانع، ولبنى الإسلام مصارع؛ والباقى بيد الكفر منها: ثغرا طرابلس وصور، ومدينة أنطاكية - يسّر الله أمرها، وفك من يد الكفر أسرها - وإذا أمّن المؤمن على هذه الدعوة رجا إيجابها، وما يتأخر من الله سبحانه جوابها، فالدعاء أحد السلاحين، ومع النية يطير إلى وكره من السماء بجناحين، بعد أن كسر العدو
الكسرة التي لم يجبر بعدها، وألجئ إلى حصونه التي للحصر أعدها، وكان يومها كريما، ولطف الله فيها عظيما، قضت كل حاجة في النفس، وأغنت المسلمين، فأما العدو بعد يومها فكأن لم يغن بالأمس، وكانت على إثر غزوات قبلها فما الظن بالمجهزة بعد النكس.
ولم يؤخر فتح البلاد بعدها إلا أن فزع الكفار بالشام استصرخ بأصل الكفار من الغرب، فأجابوهم رجالا وفرسانا، وشيبا وشبانا، وزرافات ووحدانا، وبرا وبحرا، ومركبا وظهرا، وركبوا إليهم سهلا ووعرا، وبذلوا ماعونا وذخرا، وما احتاجوا ملوكا ترتادهم ولا أرسانا تقتادهم، بل خرج كلّ يلبى دعوة بطركه، ولا يحتاج إلى عزمة ملكه، وخرجت لهم عدة ملوك أقفلت العجمة على أسمائها، وأتت العزيمة - بحمد الله - على أشخاصها عند لقائها.
ومنهم: ملك الألمان، خرج في جموع برّية، من الله تعالى برية، ملأت الفجاج، وازدحمت فأنفذها العجاج، ومنهم من ركب ثج البحر فركب الأجاج العجاج، وامتطى من البحر مشية الرجاج، لينصر دينا مشبه الزجاج، يقبل الكسر ولا يسرع إليه الجبر، وراكب ذلك الدين كراكب البحر بلا ساحل سلامة، وإلى قاع كفر (كذا).
وجلب الكفار إلى المحصورين بالشام كل مجلوب، وملأوا عليهم ثغريهم من كل مطلوب، ما بين أقوات وأطعمة، وآلات وأسلحة، وشلة وجنه، وحديد مضروب وزبرة، ونقدى ذهب وفضة، إلى أن شحنوا بلادهم رجالا مقاتلة، وذخائر للعاجلة من حربهم والآجلة، لا تشرق شارقة إلا طلعت على العدو من البحر طالعة تعوض من الرجال من قتل، وتخلف من الزاد ما أكل، فهم كل يوم في حصول زيادة، ووفور مادة، وقد هان عليهم موقع الحصر، وأعطاهم البحر ما منعهم البر، وبطروا لما كثروا ونظروا، فإنهم لا يستطيعون
أن يلقوا ويصحروا، ويستطيعون أن يحصروا على أن ينحصروا، ونزلوا على عكا بحيث يمدهم البحر بإمداده، ويصل إلى المقاتل ما يحتاجه من أسلحته وأزواده، وبمن يكثر به من مقاتلته وأجناده، فانقطعت مادة عكا من البحر، وحصرنا منازلهم من العدو من جهة جانب البر، فحدقوا على نفوسهم، وحثوا التراب على رؤوسهم، وعقدت عدتهم مائة ألف أو يزيدون، كلما أفناهم القتل أخلفتهم النجدة، فكأنهم قبل الممات يعودون، فأتممنا بعمارة بحرية لقينا عمارتهم بها، فنفذت عمارتنا إلى الثغر وأوصلت إليه الأقوات التي حمل منها البحر مالا يحمله الظهر، والأسلحة التي أمضاها الله عز وجل بيد الإسلام في صدور الكفر، وما لقينا عمارة العدو بأوفر منها عدة فعدد مراكبهم كبير ولكن لقيناهم بأصدق منها عزمة، والقليل مع العزم الصادق كثير، واستمر مقام العدو محاصرا للثغر، محصورا منا أشدّ الحصر، لا يستطيع قتال الثغر لأنا من خلفه، ولا يستطيع الخروج إلينا خوفا من حتفه، ولا نستطيع نحن الدخول إليه، لأنه قد سوّر وخندق، وحاجز من وراء الحجرات وأغلق.
ولما خرج ملك الألمان بحشده وسمعته التي هى منه أحشد، وعاد جيشه الملعون على رسم قديم إلى الشام، فكان العود لأمة أحمد صلى الله عليه وسلم أحمد، قويت به نفوسهم، وجمحت به رؤوسهم، وظنوا أنه يزعجنا من مخيمنا، ويخرجنا من خيمنا، فبعثنا إليه من يلقاه بعساكرنا الشمالية فسلك ذات الشمال متوعرا فيها، محتجزا عن لقائها، مظهرا أنه ضريع داء وما به غير دائها.
وكان أبوه الطاغية ملك الألمان شيبة اللعن اللعين، قائد جيشه إلى سجن سجين: قد هلك في طريقه غرقا، وخاض الماء فخاضه الماء شرقا، وبقى له ولد هو الآن المقدم المؤخر، وقائد الجمع المكسر، وربما وصل بهم إلى عكا في البحر، تهيبا أن يسلك البر، ولو سبق أصحابنا إلى عساكر الألمان قبل دخولها إلى أنطاكية لأخذوه أخذا سريعا، وسبق بحر سيوفهم إلى أن يكون الطاغية فيه - لا في النهر -
صريعا، ولكن لله المشيئة في البرية، والطاغية إنما يمشى إلى البلية، فإنه لولا احتجاز مقيمهم بالخنادق، واجتياز واصلهم بالمضائق، لكان لنا ولهم شأن، وكان ليومنا في النصرة الكبرى بحول الله ثان لا يثنيه من العدو ثان.
ولما كانت حضرة سلطان الإسلام، وقائد المجاهدين إلى دار السلام، أولى من توجه إليه الإسلام بشكواه وبثه، واستعان به على حماية نسله وحرثه، وكانت مساعيه ومساعى سلفه في الجهاد الغر المحجلة، المؤمرة الكاشفة لكل معضلة، الكاسفة لكل مشكلة؛ والأخبار بذلك سائرة، والآثار ظاهرة، والصحف عنه باسمة، والسير به معلمة وعالمة، وكلّ بجهاده قد سكن إلا السيوف في أغمادها، وقد أمن إلا كلمة الكفر في بلادها، لا يزال في سبيل الله غاديا ورابحا، ومواجها ومكافحا، ومماسيا ومصابحا، يجوز لجة البحر بالمجاهدين ملوكا على الأسرة، وغزاة تصافح وجوهها السيوف فلا يخمد نور الأسرة، يذود الفرق الكافرة ولو ترك سبيلها لملأ قراره كلّ واد، وكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، ولولاه لأخمد شرارة كل زناد.
كان المتوقع من تلك الدولة العالية، والعزمة الغادية، مع القدرة الوافية، والهمة المهدية الهادية، أن يمد غرب الإسلام المسلمين بأكثر مما أمد به غرب الكفار الكافرين فيملاها عليهم جوارى كالأعلام، ومدنا في اللجج سوائر كأنها الليالى مقلعة بالأيام، تطلع علينا معشر الإسلام آمالا، وتطلع على الكفار آجالا، وتردنا إما جملة وإما أرسالا مسومة، تمدها ملائكة مسومة ومعلمة، تقدم حيازيمها أقدام حيزوم تحت أصحابه، وإنما هى منه عزمة كانت تعين أصحاب الميمنة على أصحاب المشأمة، وكلمة كانت تنفخ الروح في الكلمة، ولما استبطئت ظن أنها توقفت على الاستدعاء، فصرخنا به في هذه التحية، فقد تحفل السحاب ولا تمطر إلى أن تحركها أيدى الرياح، وقد تترك النصرة فلا تظهر إلى أن تضرع إليها ألسنة الصفاح.
وسيّر لحصن مجلسه الأطهر، ومحله الأنور، الأمير، الأجلّ، المجاهد، الأمين، الأصيل، شمس الدين، نفير الإسلام والمسلمين، سفير الملوك والسلاطين، أبو الحزم عبد الرحمن بن منقذ - كتب الله سلامته وأحسن صحابته -، وما اختير للوفادة إلا من هو أهلها، ولا حمل الوديعة إلا من هو محلها، ولا بعث لنهج الصلة إلا من هو مفتاحها، ولأداء الأمانة إلا من هو قفلها، ومهما استوضح منه وسئل عنه فإنه على نفسه بصيرة، ومن البيان ذو ذخيرة، وفى العربية ذو بيت وعشيرة، والمشاهدة له أوصف، على أن تلك الجلالة ربما ذعّرت البيان فأخلف، وما أجدره بأن يصادف بسطة على بساطه، ونظرا يأذن له في القول على اختصاره وتوسطه وإفراطه، فكل هو به واف، وكل هو للفهم الكريم كاف، والله تعالى يجعل هذه العزمة منافى استنهاض العزمة منه بالغة مبلغا يسرّ أهل دينه، ويوزعهم بها اقتضاء ديونه، من الذين اتخذوا إلها من دونه.
والسلام الصادر عن القلب السليم، والود الصميم، والعهد الكريم، على حضرة الكرم العلية، وسدة السيادة الجلية، سلام مودة ما وفد الغرب قبلها مثلها، ورسالة ما خطرت إلى أن أنفذت وراءها المحبة رسلها، وليصل السلام رحمة الله وبركاته، ورضوانه وتحياته، إن شاء الله تعالى.
وكتب في شعبان سنة ست وثمانين وخمسمائة.
والحمد لله وحده، وصلاته على سيدنا محمد نبيه وآله وسلامه.
الهدية:
ختمة كريمة في ربعة مخيّشة بمسك.
ثلاثمائة مثقال عنبر.
عشر قلائد: عددها ستمائة حبة.
عود في سفط: عشرة أمنان.
دهان بلسان: مائة درهم وواحد.
قسى بأوتارها: مائة وقوسان.
سروج: عشرون.
نصول سيوف هندية: عشرون.
نشاب خاص مريّش، كبير ومتوسط ضمن صندوقى خشب مجلدة:
سبعمائة سهم.