الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر وصول الأسطول
(1)
[354]
ووصل الأسطول، فخرج السلطان إلى لقائه بجميع كتائبه، وجهزت الفرنج أساطيلهم لمقاتلة أسطول المسلمين، فطحن أسطول المسلمين أسطول الفرنج، وأخذ منهم مركبا برجاله وأخذ العدو من أسطول المسلمين مركبا، واشتد القتال بين الفريقين في البحر إلى أن حجز بينهما الليل، فتفرق الأسطولان وقد قتل من الفرنج مقتلة عظيمة.
وذكر عماد الدين:
أنه حرر ما قتل من الفرنج في مدة الحرب فكان أكثر من مائة ألف (2).
ذكر خروج ملك الألمان
لنصرة الفرنج المنازلين لعكا وما آل إليه أمره
وقد ذكرنا وصول الخبر إلى السلطان في سنة خمس وثمانين بخروج ملك الألمان إلى بلاد الإسلام (3) فيما يزيد على مائتى ألف مقاتل، وكان الحامل لملك الألمان على هذا الخروج ما بلغه من انكسار الفرنج بحطّين قتلا وأسرا، وأخذ بلادهم وانتزاع البيت المقدس منهم، الذى فيه قمامتهم، ومحل ضلالتهم، فحملته الحميّة لدينه والانتصار لبيت معبوده على أنه جمع وحشد، وسار في أمم لا تدخل تحت
(1) هذا العنوان غير موجود في س، وإنما مكانه:«قال» .
(2)
بعد هذا اللفظ في س: «ما بين فارس وراجل وغيرهم، ثم افتدى السلطان أسطوله بأسطول الفرنج» .
(3)
س: «بلاد الشام» .
الحصر، فسار مدة شهور حتى وصل قسطنطينية، وهى يومئذ مع الروم، فكتب ملك الروم بها إلى السلطان يخبره بأخبارهم ويقول:
«أنا لا أمكنهم من العبور» (1).
ثم إنه لما لم يقدر على منعهم لم يسعفهم بزاد، فضاقت عليهم الأقوات وقلت، ثم عبروا خليج القسطنطينية وقد اشتدت ضائقتهم، وكثرت جموعهم وجوعهم (2)، ولما سلكوا (3) إلى حدود بلاد الإسلام سلكوا في الأودية والآجام، فخطفتهم التركمان، ودخل الشتاء، فتراكمت عليهم الثلوج، فاحتاجوا إلى أكل الدواب، وأحرقوا عددهم لعوز الحطب عندهم، وعدموا العلف، وكانوا مع هذا جاهلين بالبلاد؛ لا يقطعون فرسخا إلا في يومين، وذهبت بركتهم؛ وصاروا كل يوم في نقص من أنفسهم ودوابهم، ودفنوا من عددهم ما عجزوا عن نقله، ثم عرضوا عسكرهم [355] بعد أشهر بعد ما نقص من نقص منهم فكانت ستين ألف مدرع.
ولما قربوا من بلاد الملك قلج أرسلان بن مسعود السلجوقى فنهض إليهم ابنه قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان، فوقع بينهم مصاف فكسروه، واندفع عنهم إلى مدينة قونية، فساقوا وراءه، ودخلوها، وأحرقوا أسواقها (4)، فنفذوا إلى قلج أرسلان:
" إنا لم نصل لأخذ بلادك، وإنما نزلنا لثأر البيت المقدس ".
(1) بعد هذا اللفظ في س (98 أ): «فطاب قلب السلطان» .
(2)
هذا اللفظ غير موجود في س.
(3)
س: «ولما وصلوا» .
(4)
س: «أسوارها» .
ونفذوا إليه هدايا، وطلبوا الهدنة منة، فهادنهم، [فبقوا في بلاده مدة، ولم يؤذوا أحدا منها، وتقوّوا بعد ذلك بما أرادوا من بلاده](1) من العدة والأزواد، وبعث قلج أرسلان وابنه إلى السلطان يعتذران من تمكينهم إياه من العبور، وأنهم غلبوا على ذلك.
ثم طلب ملك الألمان من قلج أرسلان إنفاذ جماعة من الأمراء معهم تمنعهم من لصوص التركمان حتى يصلوا إلى بلاد الأرمن، فنفذ معهم خمسة وعشرين أميرا، وكان ذلك موافقا لغرض قطب الدين، لأنه كان كارها لجماعة من المقدمين، فتقدم إليهم بأن يكونوا في صحبة ملك الألمان، [فساروا معه](2) فما قدروا على منع اللصوص والسراق، فغضب عليهم ملك الألمان، وقيدهم بعد أن أخذ كل ما كان معهم، ثم منهم من خلص بعد ذلك، ومنهم من مات في الأسر.
ووصل ملك الألمان إلى بلاد الأرمن، ومقدمهم لافون بن اصطفانه بن لاون، فوصل إلى خدمة ملك الألمان، ودخل في طاعته، وأقام لهم الإقامات والعلوفات، وهداهم الطريق، فنزلوا بطرسوس، وأقاموا بها أياما ليريحوا أنفسهم، فعنّ لملك الألمان أن يسبح في النهر، فسبح فعرض له مرض شديد أداه إلى الموت، وأراح الله المسلمين منه.
وذكر في سبب هلاكه أنه لما عبرت جموعه (3) النهر ازدحموا والتطم الموج بهم، واقتحموا، فطلب الملك موضعا يعبر فيه وحده، فدخل في مخاضة قوية الجرية فاختطفه سورة الماء إلى شجرة شجت رأسه، فاستخرجوه وهو في آخر رمق، فهلك عن قرب.
(1) الأصل،. فتقووا بمن بلاده بما أرادوا من العدة الأزواد» وهى جملة مضطربة المعنى وما بين الحاصرتين نص س وهو أصح.
(2)
ما بين الحاصرتين عن س (98 ب).
(3)
الأصل: «جموعهم» والتصحيح عن س.
[ووصل إلى السلطان](1) كتاب كاغيلوس الأرمنى - صاحب قلعة الروم - وهو للأرمن بمنزلة الخليفة عندنا، ونسخة كتابه:
" كتاب الداعى المخلص كاغيلوس: مما أطالع به علوم مولانا ومالكنا السلطان الملك الناصر جامع كلمة الإيمان، رافع علم العدل والإحسان، صلاح الدنيا والدين (2)، سلطان الإسلام والمسلمين، من أمر ملك الألمان وما جرى له عند ظهوره، وذلك أنه أول ما خرج من دياره دخل بلاد الهنكر (3) غصبا، ثم دخل أرض مقدّم الروم، وفتح البلاد ونهبها، وأحوج ملك الروم إلى أن أطاعه، وأخذ رهائنه: ولده وأخاه، وأربعين نفرا من خلصائه (4)، وأخذ منه (5) خمسين قنطارا ذهبا، وخمسين قنطارا من فضة، وثياب أطلس مبلغا عظيما، واغتصب المراكب، وعدّى بها إلى هذا الجانب، وصحبته الرهائن إلى أن دخل حدود بلاد الملك قلج أرسلان، وردّ الرهائن، وبقى سائرا ثلاثة أيام، وتركمان الاوج يلقونه بالأغنام والأبقار والخيل والبضائع، فيداخلهم الطمع، وجمعوا من جميع البلاد، ووقع القتال بين التركمان وبينهم، وضايقوه ثلاثة أيام (6) وهو سائر.
ولما قرب من قونية جمع قطب الدين ولد قلج أرسلان العساكر وقصده، وضرب معه مصافا عظيما، فظفر به ملك الألمان، وكسره كسرة عظيمة، وسار حتى أشرف على قونية، فخرج إليه جموع عظيمة من المسلمين، فردّهم مكسورين، وهجم قونية بالسيف وقتل منها عالما عظيما من المسلمين، وأقام بها خمسة أيام،
(1) ما بين الحاصرتين عن س (98 ب)، وبها يتم المعنى.
(2)
الأصل: «الدين والدنيا» ، وما هنا عن س، وهو أفضل لتتم به السجعة التالية.
(3)
الأصل:: «الهنك» ، وما هنا عن س، وهو الأصح، والمقصود بها بلاد هنغاريا أو المجر
(4)
س: «جلسائه» .
(5)
الأصل: «منهم» وما هنا عن س، وهو الأصح.
(6)
الأصل، «ثلاثة وثلاثين يوما» ، والتصحيح عن س (99 أ) و (الروضتين، ج 2، ص 155).
فطلب قلج أرسلان منه الأمان، فأمّنه الملك، واستقر بينهم قاعدة أكيدة، وأخذ منه الملك رهائن عشرين من أكابر دولته، وأشار على الملك أن يجعل طريقه على طرسوس والمصيصة، ففعل.
وقبل وصوله إلى هذه البلاد أنفذ كتابه ورسوله بشرح حاله، وأين قصده، وما لقى في طريقه، وأنه لابد يجتاز بهذه الديار اختيارا أو كرها، فاقتضى الحال إنفاذ المملوك حاتما، وصحبته ما سأل، ومعه من الخواص جماعة للقاء الملك في جواب كتابه، وكانت الوصية معهم إلى بلاد قلج أرسلان إن أمكن، فلما اجتمعوا بالملك الكبير وأعادوا عليه الجواب، وعرفوه الأحوال أبى إلا الانحراف، [357] ثم كثرت عليه العساكر والجموع ونزل على شط نهر، وأكل خبزا، ونام ساعة، فتاقت نفسه إلى الاستحمام في الماء البارد، ففعل ذلك وخرج، وكان من أمر الله أنه تحرّك عليه مرض عظيم في الماء البارد، فمكث أياما قلائل ومات.
وأما لافون فكان سائرا يلقى الملك، فلما جرى هذا المجرى هرب الرسل من العسكر وتقدموا إليه وأخبروه بالحال فدخل في بعض حصونه، واحتمى هناك.
وأما ابن الملك فكان أبوه منذ توجه لقصد هذه البلاد نصب ولده الذى هو معه عوضه، وتأكدت قواعده، وبلغه هرب رسل لافون فأنفذ واستعطفهم، وقال:
" إن أبى كان شيخا كبيرا، وإنما قصد هذه الديار لأجل حج بيت المقدس، وأنا الذى دبرت الملك، وعانيت المشاق في هذه الطريق، فمن أطاعنى (1) وإلا بدأت بقصد دياره ".
(1) س، «فمن لم يطيعنى» .
واستعطف لافون، واقتضى الحال الاجتماع به ضرورة؛ وبالجملة هم في عدد كثير، ولقد أعرض عسكره فكان اثنين وأربعين ألفا (1)، وأما الرجالة فلا يحصى عددهم إلا الله تعالى، وهم أجناس متفاوتة، وخلق غريبة (2)، وهم على قصد عظيم وجد وسياسة هائلة، حتى أن من جنى منهم جناية ليس له جزاء إلا أن يذبح مثل الشاة، ولقد بلغهم (3) عن بعض أكابرهم أنه جنى على غلام له، وجاوز الحد في ضربه، فاجتمعت القسوس للحكم، واقتضى الحال والحكم العام ذبحه، وشفع إلى الملك منهم خلق كثير منهم، فلم يلتفت إلى ذلك وذبحه، وقد حرموا الملاذ (4) على أنفسهم، حتى إن أي من بلغهم عنه بلوغ لذة هجروه وعزّروه، وكل ذلك كان حزنا على بيت المقدس، ولقد صحّ عن جمع منهم أنهم هجروا الثياب مدة طويلة، وحرموها على أنفسهم، ولم يلبسوا إلا الحديد، حتى أنكر عليهم الأكابر ذلك، وهم من الصبر على الذل والشقاء والتعب في حال عظيم " هذا آخر كتابه.
ولما هلك عدو الله ملك الألمان قام بالملك بعده ولده، واجتمعت العساكر على طاعته، ثم سار بهم إلى أنطاكية، وقد عمّ المرض أكثرهم، وصار معظمهم حملة عصى وركّاب حمير.
ولما وصلوا إلى أنطاكية [358] تبرم بهم صاحبها، وثقلت عليه وطأتهم فحسّن لهم قصد بلاد حلب، فلم يفعلوا، وطلبوا من صاحب أنطاكية قلعته لينقلوا إليها ما معهم من المال والخزائن والثقل، فأخلاها لهم طمعا في أن يفوز بما ينقلونه
(1) كذا في الأصل، وفى س (99 ب):«اثنين وأربعين ألف فارس» ، وفى (ابن شداد: السيرة، ص 109) و (الروضتين، ج 2، ص 155): «إثنين وأربعين ألف مجفجف»
(2)
توجد بعد هذا اللفظ في س الجملة الآتية: «وهذا المعظم بعد ما هلك منهم خلق مثلهم في طريقهم» ، ولا توجد هذه الجملة في الأصل المنقول عنه هنا وهو (ابن شداد: السيرة، ص 109)
(3)
س: «بلغ ملكهم» .
(4)
الأصل: «البلاد» ، والتصحيح عن ابن شداد وس.
إليها من المال، وكان الأمر على ما حدس، فإنهم لما فارقوا أنطاكية لم يعودوا إليها، وفاز الابرنس - صاحب أنطاكية - بكل ما صار فيها.
وجاءت فرقة من الألمانية إلى بغراس، وظنوا أنها بعد بأيدى الكفر، ففتح والى القلعة الباب، وأخرج أصحابه، وتسلم ما مع الألمانية من الأموال بصناديقها، وأسر منهم وقتل كثيرا، وخرج بعد ذلك أهل حلب وجندها إلى طريقهم والتقطوهم، فكان الواحد يأسر جماعة منهم، وهانوا في الأنفس بعد ما كان قد تهيبوا هيبة عظيمة، وبيعوا في الأسواق بالثمن البخس.
وذكر القاضى بهاء الدين بن شداد:
أن ملك الألمان لما توفى وقام ولده مقامه، مرض مرضا عظيما في بلاد ابن لاون، وأقام معه خمسة وعشرون فارسا، وأربعون داويّا، وجهز عسكره نحو أنطاكية حتى يقطعوا الطريق، ورتبهم ثلاث فرق لكثرتهم، ثم إن الفرقة الأولى اجتازت تحت قلعة بغراس، ومقدمها كند كبير (1) عندهم، وأن عسكر بغراس مع قلته أخذ منهم مائتى رجل قهرا ونهبا، وكتبوا إلى السلطان يخبرون عنهم بالضعف العظيم، والمرض الشديد، وقلة الخيل والعدد والآلات.
ولما اتصل خبرهم بالنواب بالبلاد الشامية سيّروا إليهم عسكرا يكشفون أخبارهم، فوقعوا على جمع عظيم منهم قد خرجوا لطلب العلوفة، فقتلوا وأسروا زهاء عن خمسمائة نفس (2).
قال القاضى بهاء الدين:
ولقد حضرت من يخبر السلطان عنهم، ويقول:" هم عدد كثير، ولكنهم ضعفاء قليلو الخيل والعدة، وأكثر ثقلهم على حمير وخيل ضعيفة "، قال الحاكى:
(1) الأصل: «فقدمها لبذكر» والتصحيح عن س (100 أ).
(2)
س: «فارس» .
" ولقد وقفت على جسر يعبرون عليه لا عتبرهم، فعبر منهم جمع عظيم ما وجدت مع أحد منهم طارقة (1) ولا رمحا إلا النادر، فسألتهم عن ذلك، فقالوا: أقمنا بمرج وخم أياما، وقلت أزوادنا وأحطابنا، فأوقدنا معظم عددنا، ومات منا خلق عظيم، واحتجنا إلى الخيل فذبحناها وأكلناها "
ومات الكند الذى وصل [359] إلى أنطاكيه، وطمع أبن لاون فيهم حتى عزم على أخذ مال الملك، لمرضه وضعفه وقلة جمعه الذى تخلف معه.
ولما تحقق السلطان [صلاح الدين] وصول الألمانيين إلى بلاد الأرمن، وقربهم من البلاد الشامية، شاور أمراءه فيما يصنع، فوقع الاتفاق على تسيير بعض العساكر إلى طريقهم، وأن يقيم على منازلة العدو ببقية العساكر، فكان أول من سار الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر [تقى الدين]، وكان إقطاعه منبج، ثم سار عز الدين بن المقدم - صاحب بعرين (2) وأفامية -، ثم الملك الأمجد - صاحب بعلبك -، ثم سابق الدين عثمان بن الداية - صاحب شيزر -، ثم الياروقية من عسكر حلب، ثم عسكر حماة، ثم سار الملك الأفضل ولد السلطان لمرض عرض له، وكذا بدر الدين (3) - شحنة دمشق -، ثم سار الملك الظاهر إلى حلب لحفظ ما يليه من البلاد، ثم سار بعده الملك المظفر لحفظ ما يليه من البلاد، وتدبير أمر العدو المجتاز.
ولما سارت هذه العساكر خفّت الميمنة، فأمر السلطان أخاه الملك العادل، فانتقل إلى منزلة الملك المظفر في طرف الميمنة، وكان عماد الدين زنكى بن مودود - صاحب سنجار - في طرف الميسرة، ووقع في العسكر مرض شديد،
(1) راجع ما فات هنا ص 279، هامش 3
(2)
س: «بغراس» .
(3)
س: «عز الدين» وما هنا يتقق وابن شداد (السيرة اليوسفية، ص 110).