الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين غازى، وعوده إلى الطاعة
وكان بشهرزور شهاب الدين محمد بن بزان في طاعة سيف الدين غازى بن مودود ابن زنكى وفى خدمته، وكان مجاهد الدين قايماز بإربل متوليا أمورها، وقائما بأتابكية زين الدين يوسف بن زين الدين على - كما ذكرنا -، فلما فوض إلى مجاهد الدين النيابة عن سيف الدين غازى، وكان بينه وبين شهاب الدين عداوة، خاف ابن بزان بأن يناله منه أذى، فأظهر الامتناع عن النزول إلى الخدمة، فأرسل إليه الوزير جلال الدين - وزير سيف الدين - كتابا يأمره فيه بمعاودة الطاعة، ويحذره عاقبة المخالفة، فلما وصل إليه الكتاب والرسول بادر إلى حضور الخدمة بالموصل.
ودخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة والسلطان الملك الناصر نازل بمرج فاقوس؛ ثم عاد إلى القاهرة فأقام بها إلى ثالث جمادى الأولى من السنة.
ذكر وقعة الرملة
ثم خرج السلطان الملك الناصر رحمه الله من القاهرة على نية الجهاد يوم الجمعة ثالث جمادى [198] الأولى بعد الصلاة؛ وخيم ببلبيس خامسه ثم تقدم إلى السدير (1) وخيم بالمبرز (2)؛ ثم نودى أن خذوا زادكم عشرة أيام أخرى للاستظهار.
(1) واد بين العباسة والخشبى، وكانت تنصب فيه فضلات مياه النيل إذا زاد، فيصير غيضة ذات مستتعات. (ياقوت: معجم البلدان)، وقال (المقريزى: الخطط، ج 1، ص 374) عند كلامه عن " العباسة ": هذه القرية فيما بين بلبيس والصالحية من أرض السدير، وقال: فلما كانت سلطنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس مر على السدير - وهو فم الوادى -، فأعجب به وبنى في موضع اختاره منه قرية سماها الظاهرية، وانشأ بها جامعا، وذلك في سنة 666 هـ.
(2)
لم أجد في المراجع التي بين يدى تعريفا بهذا الموضع.
ثم رحل بعساكره فنزل على عسقلان يوم الأربعاء لليلة بقيت من جمادى الأولى، فسبا وغنم، وجمع هناك من كان معه من الأسرى فضرب أعناقهم، وتفرق العسكر في الأعمال مغيرين (1)، فلما رأوا أن الإفرنج خامدون انبسطوا واسترسلوا، وتوسط السلطان البلاد.
ولما كان يوم الجمعة ثانى جمادى الآخرة استقل السلطان بعساكره راحلا ليقصدوا بعض المعاقل، واعترضه نهر [عليه](2) تل الصافية، فازدحمت على العبور أثقال العسكر، فما شعروا بالفرنج إلا وقد أتوهم في أطلابهم (3) وجموعهم، وجماعة من سرايا المسلمين متفرقون في الضياع للإغارة، وكان مقدم الفرنج البرنس أرناط صاحب الكرك، وكان أسيرا بحلب من أيام نور الدين، ثم أطلقه الحلبيون على ما تقدم ذكره، فجرى على المسلمين خلل ذلك اليوم وانكسروا، فحكى القاضى بهاء الدين بن شداد رحمه الله قال:
" حكى السلطان رحمه الله صورة الكسرة في ذلك اليوم، وأن المسلمين كانوا قد تعبّوا تعبية الحرب، فلما قارب العدو رأى بعض الجماعة أن تغيّر الميمنة إلى جهة الميسرة، والميسرة إلى جهة القلب، ليكون في حالة [اللقاء](4) وراء ظهورهم تل معروف بأرض الرملة، فبينماهم يشتغلون في التعبية، إذ هجم الفرنج، وقدّر الله كسر المسلمين فانكسروا كسرة عظيمة، ولم يكن لهم
(1) الأصل: " مغترين " والتصحيح عن العماد: (الروضتين، ج 1، ص 273).
(2)
ما بين الحاصرتين عن المرجع السابق.
(3)
جمع طلب، وقد عرفها الدكتور زيادة في حواشيه على (السلوك، ج 1، ص 248، هامش 2) بقوله: " وهو لفظ كردى معناه الأمير الذى يقود مائتى فارس في ميدان القتال، ويطلق أيضا على قائد المائة أو السبعين، وكان أول ما استعمل هذا اللفظ بمصر والشام أيام صلاح الدين، ثم عدل مدلوله فأصبح يطلق على الكتيبة (Battaillon) من الجيش ". أنظر أيضا: (DOZY : Supp .Dict .Arab) .
(4)
ما بين الحاصرتين ساقط في الأصل، وقد أضيف بعد مراجعة:(ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 42) و (الروضتين، ج 1، ص 274).
حصن قريب يأوون إليه، فطلبوا جهة الديار المصرية، وضلّوا في الطريق، وتبددوا، وأسر منهم جماعة فيهم الفقيه ضياء الدين عيسى، وكان وهنا عظيما جبره الله بوقعة حطّين ".
وأبلى تقى الدين في ذلك اليوم بلاء حسنا، وثبت وقاتل، واستشهد جماعة من أصحابه، وهلك من الفرنج أضعافهم.
وكان للملك المظفر تقى الدين ولد يقال له شهاب الدين أحمد أول ماطر شاربه، استشهد ذلك اليوم بعد ما قتل فارسا؛ وقد كان له ولد آخر، يقال له سعد الدين شاهنشاه، وهو والد سليمان شاه صاحب اليمن الذى سيأتى ذكره، فوقع شاهنشاه هذا في أسر الفرنج، ذلك أن بعض [مستأمنى الفرنج بدمشق](1) خدعه، وقال له:" تجئ إلى الملك، وهو يعطيك الملك " وزوّر له كتابا، فسكن إلى صدقه وخرج معه، فلما انفرد به [199] شدّ وثاقه وحمله إلى الداويّة، وأخذ به منهم مالا، ولم يزل في الأسر إلى أكثر من أربع (2) سنين حتى استفكه السلطان بمال كثير، وأطلق للداويّة كلّ من كان لهم عنده في الأسر.
قال عماد الدين الكاتب:
" فغلّظ القلب التقوى على ذلك الولد خبر هلاك أخيه في ذلك اليوم ".
وتمت الهزيمة على المسلمين، وحمل بعض الفرنج على السلطان، فقاربه حتى يكاد يصل إليه، فقتل الفرنجى بين يديه، وتكاثر الفرنج عليه، فمضى منهز ما يسير قليلا ويقف ليلحقه العسكر، إلى أن دخل الليل فسلك البرية، ومضى في نفر يسير إلى بصرى، ولقوا في طريقهم مثقة شديدة، وقلّ عليهم القوت والماء
(1) الأصل: " من يأتى منهم إلى دمشق " والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 1، ص 273).
(2)
عند العماد (المرجع السابق): " سبع سنين ".
وهلك كثير من دواب العسكر جوعا وعطشا وسرعة سير، وفقد [كثير ممن لم يعرف له خبر](1).
وفقد الفقيه ضياء الدين عيسى وأخوه الظهير ومن كان في صحبتهم، فضلّ الطريق عنهم (2)، وكانوا سائرين إلى وراء، فأصبحوا بقرب الأعداء، فأكمنوا في مغارة، وانتظروا من يدلهم على بلاد الإسلام، فوقعوا بمن يزعم أنه يدلهم، فدلّ الفرنج عليهم، وسعى في أسرهم وعطبهم، فأسروا؛ وما خلص الفقيه عيسى إلا بعد سنين (3) بستين ألف دينار وفكاك جماعة من أسارى الفرنج؛ وبالجملة لم تعظم (4) هذه الوقعة إلا بسبب ما اتفق للمسلمين من دخول الرمل وعدم الماء والدليل.
وكان ما قدره الله سبحانه من أسباب السلامة أن القاضى الفاضل كان يستظهر باستصحاب جماعة من [الكنانية](5) والأدلاء، فلما وقعت الواقعة خرج بدوا به وغلمانه وأصحابه وثقاته (6)، وبثّ أصحابه في تلك الرمال حتى أخذوا خبر السلطان وقصده، وانتفع السلطان بتلك الأدلاء الذين معه؛ وفرّق الفاضل ما كان معه من الأزواد على المسلمين وعلى المنقطعين، وجمعهم في خدمة السلطان.
وأما العسكر الذين دخلوا بلاد الفرنج للغارة فإن أكثرهم ذهب ما بين قتيل وأسير
(1) الأصل: " وفقد كبير لهم يظهر لهم خبر " ولا يستقيم بها المعنى، والتصحيح عن العماد - وهو الأصل المنقول عنه - (المرجع السابق).
(2)
الأصل: " عليهم " والتصحيح عن العماد (المرجع السابق).
(3)
الأصل: " سنتين " والتصحيح عن العماد (المرجع السابق).
(4)
الأصل: " يغطهم " ولا يستقيم بها المعنى، وما هنا قراءة ترجيحية إذ لم يستطع الناشر تصحيحها على المراجع الأخرى، فهى من تعليق المؤلف وليست من منقوله.
(5)
ما بين الحاصرتين زيادة عن العماد (المرجع السابق).
(6)
عند العماد - وهو الأصل المنقول عنه هنا - (الروضتين، ج 1، ص 273:" وأثقاله ".
وكان وصول السلطان رحمه الله إلى القاهرة منتصف جمادى الآخرة وكتب إلى أخيه الملك المعظم توران شاه يصف له الوقعة بخط يده وأوله:
ذكرتك والخطىّ يخطر بيننا
…
وقد نهلت منا المثقفّة السّمر
ويقول في كتابه:
" لقد أشرفنا على الهلاك غير مدة، وما نجانا الله تعالى منه إلا لأمر يريده، [250] وما ثبتت إلا وفى نفسها أمر ".
وفى هذه الوقعة يقول عماد الدين الكاتب يمدح الملك المظفر تقى الدين من قصيدة:
سقى (1) الله العراق وساكنيه،
…
وحيّاه حيا الغيث الهتون
وجيرانا أمنت الجور منهم،
…
فما فيهم سوى واف أمين
صفوا، والدهر ذو كدر، وقدما
…
وفوا بالعهد في الزمن الخؤون
بنو أيوب زانوا الملك منهم
…
بحلية سودد وتقى (2) ودين
ملوك أصبحوا خير البرايا،
…
لخير رعية في خير دين (3)
أسانيد السيادة عن علاهم
…
معنعنة، مصحّحة المتون
بنو أيوب مثل قريش مجدا،
…
وأنت لها كأنزعها البطين
أخفت الشرك حتى الذّعر منهم
…
يرى (4) - قبل الولادة - في الجنين
(1) الأصل: " سقا ".
(2)
الأصل: " وتقا ".
(3)
الأصل: " حين " والتصحيح عن (الروضتين، ج 1، ص 274).
(4)
الأصل: " بدا " وما هنا عن المرجع السابق.