الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر عقد الهدنة بين المسلمين والفرنج
ثم جمع السلطان عنده أرباب الرأى، وقال:
" إن الانكلتير قد مرض مرضا شديدا، والافرنسيسية قد ساروا راجعين ليعبروا البحر من غير شك، ونفقاتهم قد قلت، والرأى أنا نسير إلى يافا، فإن وجدنا فيها مطمعا وإلا سرنا إلى عسقلان، فما تلحقها النجدة إلا وقد بلغنا منها غرضا ".
فوافقوه على ذلك.
فأرسل عز الدين جرديك وجمال الدين فرج سادس شعبان حتى يكونا قريبا من يافا، ورسل الأنكلتير مترددة إلى السلطان في طلب الفاكهة والثلج، وأوقع الله في مرضه شهوة الكمثرى والخوخ، فكان السلطان يمده بذلك، ويقصد كشف الأخبار بتواتر الرسل.
ومما انكشف له أن الكندهرى يتردد بينه وبين الأفرنسيسية في مقامهم، وهم عازمون على [عبور](1) البحر قولا واحدا، فسار السلطان إلى الرملة.
وجاء رسول الانكلتير مع الحاجب أبى بكر العادلى يشكر السلطان على إسعافه بالفاكهة والثلج، وقال له:
" قل لأخى الملك العادل يبصر كيف يتوصل إلى السلطان في معنى الصلح، ويستوهب لى منه عسقلان، وأمضى ويبقى هو هاهنا مع هذه الشرذمة اليسيرة، ويأخذ البلاد منهم، فليس غرضى إلا إقامة جاهى بين الإفرنجية، وإن لم ينزل السلطان عن عسقلان فيأخذ لى منه عوضا من خسارتى على عمارة سورها ".
(1) ما بين الحاصرتين زيادة عن ابن شداد: (الروضتين، ج 2، ص 203).
فأرسل السلطان إلى الملك العادل:
" إن نزلوا عن عسقلان فصالحهم، فإن العسكر قد ضجر من ملازمة البيكار (1)، والنفقات قد نفدت ".
ثم إن الانكلتير نزل عن عسقلان وعن العوض عنها، واستوثق منه على ذلك، فأحضر السلطان الديوان يوم السبت ثامن عشر شعبان، وذكر يافا وعملها - فأخرج الرملة منها ولدّ ومجدليابة (2) - ثم ذكر قيسارية وعملها، وأرسوف وعملها، وحيفا وعملها، وعكا [409] وعملها - وأخرج منها الناصرة وصفورية - وأثبت الجميع في ورقة، وقال للرسول:
" هذه حدود البلاد التي تبقى في أيديكم، فإن صالحتم على ذلك فمبارك، وقد أعطيتكم يدى، فينفذ الملك من يحلف في بكرة غد، وإلا فيعلم أن هذا تدفيع ومماطلة ".
وكان من القاعدة أن تكون عسقلان خرابا، ويتفق المسلمون وهم على خرابها، واشترط السلطان دخول بلاد الإسماعيلية، واشترطوا هم دخول صاحب أنطاكية وطرابلس في الصلح، وشرطوا أن تكون الرمله ولد مناصفة بينهم وبين المسلمين، واستقرت القاعدة على أنهم يحلفون يوم الأربعاء لثمان بقين من شعبان من هذه السنة - أعنى سنة ثمان وثمانين وخمسمائة - وحلفوا، ولم يحلف الانكلتير، بل أخذوا يده وعاهدوه، واعتذر بأن الملوك لا يحلفون، وقنع السلطان بذلك (3) وحلف الكندهرى، وهو ابن أخته، وهو المستخلف عنه في الساحل، وباليان بن بارزان - ابن (4) صاحب طبرية -.
(1) البيكار - وقد تجمع على بياكير - لفظ فارسى معناه الحرب.
أنظر (Dozy : Supp. Dict. Ar) .
(2)
الأصل: «ومجدل بابا» ، أنظر ما فات هنا ص 382، هامش 2
(3)
النص عن ابن شداد: «وقنع من السلطان بمثل ذلك» .
(4)
الأصل: «وابن» وقد حذفت الوار ليستقيم المعنى.
ووصل ابن الهنفرى وباليان إلى خدمة السلطان ومعهما جماعة من المقدمين، وأخذوا يده على الصلح، واستحلفوا الملك العادل، والملك الأفضل، والملك الظاهر، والملك المنصور - صاحب حماة -، والملك المجاهد - صاحب حمص -، والملك الأمجد - صاحب بعلبك -، والأمير بدر الدين الياروقى، وصاحب تل باشر، والأمير سابق الدين عثمان بن الداية - صاحب شيزر -، والأمير سيف الدين المشطوب، وغيرهم من المقدمين الكبار؛ وعقدت هدنة عامة في البر والبحر، وجعلت مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر، أولها [مبتدأ](1) أيلول الموافق الحادى والعشرين من شعبان.
ولما وقعت الهدنة قال أبو الحسن على بن الساعاتى يمدح السلطان الملك الناصر رحمه الله من قصيدة:
منعت ظباء المنحنى بأسوده،
…
وأشدّ ما أشكوه فتك (2) ظبائه
فعلت بنا وهى الصديق لحاظها
…
كظبى صلاح الدين في أعدائه (3)
سل عنه قلب الانكتير، فإنّ في
…
خفقانه ما شئت من أنبائه
لولاك أمّ البيت غير مدافع
…
وأسال سيل نداه (4) في بطحائه
وبكت جفون (5) القدس ثانية دما،
…
لترنّم الناقوس في أفنائه
(1) ما بين الحاصرتين عن العماد: (الروضتين، ج 2، ص 203).
(2)
الأصل: «قتل» ، وما هنا عن (ابن الساعاتى: الديوان، ج 1، ص 77) و (الروضتين، ج 2 ص 204).
(3)
ورد هذان البيتان فقط في ختام المقدمة الغزلية للقصيدة بالديوان، أما بقية الأبيات فقد وردت في الروضتين، ونقلها عنها ناشر الديوان في نهاية الجزء الثانى منه (ص 411).
(4)
الأصل: «ولسان سيل نداك» ، والتصحيح عن المرجعين السابقين.
(5)
الأصل: «وجرت عيون القدس» ، وما هنا عن الروضتين.
[410]
ثم أمر السلطان أن ينادى في الوطاقات (1) والأسواق:
" ألا وإن الصلح قد انتظم، فمن شاء من بلادهم يدخل بلادنا فليفعل، ومن شاء من بلادنا يدخل بلادهم فليفعل ".
وكان يوم الصلح يوما مشهودا عمّ فيه للطائفتين الفرح والسرور، ولم يكن ذلك من إيثار السلطان.
فحكى القاضى بهاء الدين بن شداد رحمه الله قال:
" قال لى السلطان في بعض محاوراته في الصلح: أخاف أن أصالح، وما أدرى أي شئ يكون منى، فيقوى هذا العدو، وقد بقيت لهم هذه البلاد، فيخرجون لاستعادة ما في أيدى المسلمين المأخوذة منهم، وترى كل واحد من هؤلاء الجماعة - يعنى أخاه وأولاده وأولاد أخيه - قد قعد في رأس قله (2) - يعنى قلعته -، وقال: " لا أنزل " (3) ويهلك المسلمون ".
قال بهاء الدين:
فكان كما قال، توفى رحمه الله عن قريب، واشتغل كل من أهل بيته وأولاده بناحية، ووقع الخلف بينهم، وأعرضوا عن النظر في المصلحة العامة للمسلمين، فلو قدر الله حياته لكان الغالب على الظن أن العدو لا يبقى له في البلاد الشامية ثغر ولا بلد، لكن الله تعالى إذا أراد أمرا قدّر أسبابه، وبالجملة فكان
(1) الوطاق لفظ معرب، وأصله بالتركية: أوتاق أو أوطاق أو أوتاغ، ومعناه الخيمة أو مجموعة الخيام أو المعسكر.
(2)
الأصل: «قله» ، والتصحيح عن ابن شداد:(الروضتين، ج 2، ص 204)، وفى اللسان:(قلة كل شى رأسه أو أعلاه، والقلة أعلا الجبل).
(3)
الأصل: «أو يهلك» ، والتصحيح عن ابن شداد (المرجع السابق).
الصلح مصلحة، إذ لو قدر موته في أثناء تلك الحروب لكان الإسلام على خطر.
ثم رحل السلطان إلى النطرون، واختلط (1) عسكر الفرنج بعسكر المسلمين، وذهب جماعة من المسلمين إلى يافا في طلب التجارة، ووصل خلق عظيم من الفرنج إلى القدس للحج، وفتح لهم السلطان الباب، ونفّد معهم الخفراء يحفظونهم حتى يردوهم إلى يافا، وكان غرض السلطان بذلك أن يقضوا وطرهم من الزيارة، ويرجعوا إلى بلادهم، فيأمن المسلمون شرهم.
ولما علم الانكلتير كثرة من يزور منهم صعب عليه، وسيّر إلى السلطان يسأله منع الزوار، واقترح أن لا بإذن لأحد إلا بعد حضور علامة من جانبه أو كتابة، وعلم الفرنج ذلك فعظم عليهم واهتموا بالحج، فكان يرد كل يوم منهم جموع كثيرة مقدّمون وأوساط وملوك متنكرون.
وشرع السلطان في إكرام من يرد، ومد الطعام لهم ومباسطتهم ومحادثتهم، وعرّفهم إنكار الملك ذلك، وأذن لهم السلطان في الحج، وعرفهم أنه لم يلتفت إلى منع الملك [411] من ذلك، واعتذر إلى الملك بأن قوما قد وصلوا من ذلك البعد، وتيسر لهم زيارة هذا المكان الشريف لا استحل منعهم.
ثم اشتد المرض بالانكلتير، فرحل ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من شعبان، هو والكندهرى وسائر المقدمين إلى ناحية عكا، ولم يبق في يافا إلا مريض أو عاجز، ونفر يسير.
(1) الأصل: «واحتاط» والتصحيح عن ابن شداد (المرجع السابق).