الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(10)
رسالة بقلم القاضى الفاضل مرسلة من صلاح الدين إلى نور الدين يشرح له فيها المؤامرة التي كان يدبرها رجال الدولة الفاطمية والصليبيون، والتي اشترك فيها الشاعر عمارة اليمنى، لقلب نظام الحكم وإعادة الدولة الفاطمية
عن: (الروضتين، ج 1، ص 220 - 222)
" قصر هذه الخدمة على متجدد سار للإسلام وأهله، وبشارة مؤذنة بظهور وعد الله في إظهاره على الدين كله، بعد أن كانت لها مقدمات عظيمة، إلا أنها أسفرت عن النجح، وأوائل كالليلة البهيمة، إلا أنها انفرجت عن الصبح، فالإسلام ببركاته البادية، وفتكاته الماضية، قد عاد مستوطنا بعد أن كان غريبا، وضرب في البلاد بجرانه بعد أن كان كالكفريتم عليه تخيلا عجيبا، إلا أن الله سبحانه أطلع على أمرها من أوله، وأظهر على سرها من مستقبله، والمملوك يأخذ في ذكر الخبر، ويعرض عن ذكر الأثر:
لم يزل يتوسم من جند مصر، ومن أهل القصر، بعد ما أزال الله من بدعتهم، ونقض من عرى دولتهم، وخفّض من مرفوع كلمتهم، أنهم أعداء وإن تعدت بهم الأيام، وأضداد وإن وقعت عليهم كلمة الإسلام، وكان لا يحتقر منهم حقيرا، ولا يستبعد منهم شرا كبيرا، وعيونه لمقاصدهم موكلة، وخطراته في التحرز منهم مستعملة، لا تخلو سنة تمر، ولا شهر يكر، من مكر يجتمعون عليه، وفساد يتسرعون إليه، وحيلة يبرمونها، ومكيدة يتممونها، وكان أكثر ما يتعللون به، ويستريحون إليه، المكاتبات المتواترة، والمراسلات المتقاطرة، إلى الفرنج خذلهم الله، التي يوسعون لهم فيها سبل المطامع، ويحملونهم فيها
على العظائم والفظائع، ويزينون لهم الإقدام والقدوم، ويخلعون فيها ربقة الإسلام خلع المرتد المخصوم، ويد الفرنج بحمد الله (221) قصيرة عن إجابتهم، إلا أنهم لا يقطعون حبل طمعهم على عادتهم، وكان ملك الفرنج كلما سولت له نفسه الاستتار في مراسلتهم، والتحيل في مفاوضتهم، سيّر " جرج " - كاتبه - رسولا إلينا ظاهرا، وإليهم باطنا، عارضا علينا الجميل الذى ما قبلته قط أنفسنا، وعاقدا معهم القبيح الذى يشتمل عليه في وقته علمنا، ولأهل القصر والمصريين في أثناء هذه المدد رسل تتردد، وكتب إلى الفرنج تتجدد.
ثم قال:
والمولى عالم أن عادة أوليائه المستفادة من أدبه أن لا يبسطوا عقابا مؤلما، ولا يعذبوا عذابا محكما، واذا طال لهم الاعتقال، ولم ينجع السؤال، أطلق سراحهم، وخلى سبيلهم، فلا يزيدهم العفو إلا ضراوة، ولا الرقة عليهم إلا قساوة، وعند وصول " جرج " في هذه الدفعة الأخيرة رسولا إلينا بزعمه، ورد إلينا كتاب ممن لا نرتاب به من قومه، يذكرون أنه رسول مخاتلة، لا رسول مجاملة، وحامل بليّة لا حامل هديّة، فأوهمناه الإغفال عن التيقظ لكل ما يصدر منه وإليه، فتوصل مرة بالخروج ليلا، ومرة بالركوب إلى الكنيسة وغيرها نهارا إلى الاجتماع بحاشية القصر وخدامه، وبأمراء المصريين وأسبابهم، وجماعة من النصارى واليهود وكلابهم وكتابهم، فدسسنا إليهم من طائفتهم من داخلهم، فصار ينقل إلينا أخبارهم، ويرفع إلينا أحوالهم، ولما تكاثرت الأقوال، وكاد يشتهر علمنا بهذه الأحوال، استخرنا الله تعالى، وقبضنا على جماعة مفسدة، وطائفة من هذا الجنس متمردة، قد اشتملت على الاعتقادات المارقة، والسرائر المنافتة، فكلا أخذ الله بذنبه، فمنهم من أقرّ طائعا عند إحضاره، ومنهم من أقرّ بعد ضربه، فانكشفت أمور أخرى كانت مكتومة، ونوب غير التي كانت عندنا معلومة، وتقريرات مختلفة في المراد، متفقة في الفساد ".
ثم ذكر تفصيلا حاصله: أنهم عيّنوا خليفة ووزيرا مختلفين في ذلك، فمنهم من طلب إقامة رجل كبير السن من بنى عم العاضد، ومنهم من جعل ذلك لبعض أولاد العاضد وإن كان صغيرا، واختلف هؤلاء في تعيين واحد من ولدين له، وأما بنو رزّيك وأهل شاور فكلّ منهم أراد الوزارة لبيتهم، من غير أن يكون لهم غرض في تعيين الخليفة.
ثم قال:
" وكانوا فيما تقدم، والمملوك على الكرك والشوبك بالعسكر قد كاتبوهم، وقالوا لهم إنه بعيد، والفرصة قد أمكنت، فإذا وصل الملك الفرنجى إلى صدر أو إلى أيلة ثارت حاشية القصر، وكافة الجند، وطائفة السودان، وجموع الأرمن وعامة الإسماعيلية، وفتكت بأهلنا وأصحابنا بالقاهرة ".
ثم قال:
" ولما وصل " جرج " كتبوا إلى الملك الفرنجى أن العساكر متباعدة في نواحى إقطاعاتهم، وعلى قرب من موسم غلاتهم، وأنه لم يبق في القاهرة إلا بعضهم، وإذا بعثت أسطولا إلى بعض الثغور أنهض فلانا من عنده، وبقى في البلد وحده، ففعلنا ما تقدم ذكره من الثورة ".
ثم قال:
" وفى أثناء هذه المدة كاتبوا سنانا - صاحب الحشيشية - بأن الدعوة واحدة، والكلمة جامعة، وأن ما بين أهلها خلاف إلا فيما لا يفترق به كلمة، ولا يجب به قعود عن نصرة، واستدعوا منه من يتمم على المملوك غيلة، أو يبيّت له مكيدة وحيلة، والله من ورائهم محيط، وكان الرسول إليهم عن المصريين خال ابن قرجلة المقيم الآن هو وابن أخته عند الفرنج.
ولما صحّ الخبر، وكان حكم الله أولى ما أخذ به، وأدب الله أمضى فيمن خرج عن أدبه، وتناصرت من أهل العلم الفتاوى، وتوالت من أهل المشورة بسبب تأخير القتل فيهم المراجعات والشكاوى، قتل الله بسيف الشرع المطهر جماعة من الغوات والغلاة، الدعاة إلى النار، الحاملين لأثقالهم وأثقال من أضلوه من الفجّار، وشنقوا على أبواب قصورهم، وصلبوا على الجذوع المواجهة لدورهم، ووقع التتبع لأتباعهم، وشردت طائلة الإسماعيلية ونفوا، ونودى بأن يرحل كافة الأجناد، وحاشية القصر، وراجل السودان إلى أقصى بلاد الصعيد.
فأما من في القصر فقد وقعت الحوطة عليهم إلى أن ينكشف وجه رأى يمضى بينهم. ولا رأى فوق رأى المولى، والله سبحانه المستخار، وهو المستشار، وعنده من أهل العلم من تطيب النفس بتقليده، وتمضى الحدود بتحديده، ورأى المملوك إخراجهم من القصر فإنهم مهما بقوا فيه بقيت مادة لا تنحسم الأطماع عنها، فإنه حبالة للضلال منصوبة، وبيعة للبدع محجوبة.
ومما يطرف المولى به أن ثغر الاسكندرية - على عموم مذهب السنة فيه - أطلع البحث أنّ فيه داعية خبيثا أمره، محتقوا شخصه، عظيما كفره، يسمى قديد القفّاص، وأن المذكور مع خموله في الديار المصرية، قد فثت في الشام دعوته، وطبقت عقول أهل مصر فتنته، وأن أرباب المعايش فيه يحملون إليه جزءا من كسبهم، والنسوان يبعثن إليه شطرا وافيا من أموالهن، ووجدت في منزله بالاسكندرية عند القبض له والهجوم عليه كتبا مجردة، فيها خلع العذار، وصريح الكفر الذى ما عنه اعتذار، ورقاع يخاطب بها، فيها ما تقشعر منه الجلود: وبالجملة فقد كفى الإسلام أمره، وحاق به مكره، (222) وصرعه كفره ".