الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر مراسلة الفرنج للسلطان شغلا للوقت
وكان ملك الانكلتير قد مرض كما ذكرنا، واشتدت علته، فاشتغل [379] العدو بذلك مدة عن الزحف، وكان ذلك خير من الله تعالى، فإن البلد كان قد ضعف إلى الغاية، وهدمت المنجنيقات من السور مقدار قامة، ثم تماثل ملك الانكلتير من مرضه، وراسل السلطان وطلب الاجتماع به، ثم فتر بعده أياما.
ثم جاء رسوله (1) يطلب الاستئذان في إهداء جوارح جاءت من البحر، وذكر أنها ضعفت وتغيرت، وطلب أن يحمل لها دجاجا لتتقوى، ثم تهدى، ففهم أنه محتاج إلى ذلك لنفسه، لأنه حديث عهد بمرض.
ثم نفذ السلطان يطلب أسيرا مغربيا عنده، فأطلقه للسلطان.
ثم أرسل في طلب فاكهة وثلج فأرسل ذلك إليه.
وغرضه في هذا كله تفتير العزمات وتضييع الوقت على المسلمين، وهم مع ذلك مشتغلون بمحاصرة البلد، ومواترة رميه بالمناجيق، فاشتد ضعف أهل البلد، وأهلكهم التعب والسهر، لقلة عددهم وكثرة الأعمال عليهم، والعدو مجتهد في قتالهم ومضايقتهم، وقد افترقوا فرقا تقاتلهم كل فرقة نوبة، فبلغ ذلك السلطان فصعب عليه.
ذكر استيلاء الفرنج على عكا
ولما كان يوم الثلاثاء السابع من جمادى الآخرة من هذه السنة ركب السلطان في العساكر الإسلامية، وقصد الفرنج، وزحف على خنادقهم حتى دخل فيها
(1) الأصل: " رسولا "، والتصحيح عن:(الروضتين، ج 2، ص 186).
العسكر، وهو رحمه الله كالوالهة الثكلى، يسير من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد، وينادى " يا للإسلام "، وعيناه تذرفان الدموع، ولم يطعم هو ولا الناس في ذلك اليوم طعاما، وإنما شرب شيئا أشار به الطبيب، ثم عاد إلى مخيمه لما هجم الليل، ثم ركب سحرا في العساكر، فأصبحو على ما أمسوا عليه.
ووصلت مطالعة من البلد يخبرون بعجزهم عن مقاومة العدو وأنهم ضعفوا غاية ليس بعدها إلا التسليم، ويقولون:
" نحن في الغد نسلم البلد ونطلب الأمان إن لم تعملوا معنا شيئا، ونشترى مجرد رقابنا ".
وكان هذا أنكى خبر ورد على المسلمين، فإن عكا كانت قد احتوت على جميع سلاح الساحل والقدس ودمشق وحلب ومصر، فرأى السلطان رحمه الله مهاجمة العدو، فلم يساعده العسكر، فإن الرجالة من [380] الفرنج وقفوا كالسور المحكم البناء بالسلاح والزنبورك (1) والنشاب (2) من وراء أسوارهم، وهجم عليهم بعض الناس من بعض أطرافهم، فثبتوا وذبوا غاية الذبّ، فحكى بعض من دخل عليهم أسوارهم أنه كان واحد من الفرنج صعد سور خندقهم وجماعة يناولونه الحجارة وهو يرمى بها على المسلمين، فوقع فيه زهاء عن خمسين سهما وحجرا وهو يتلقاها، ولم يمنعه ذلك عما هو بصدده من الذب، حتى ضربه زرّاق بنفط فأحرقه.
ولم تزل الحرب قائمة إلى الليل، وضعفت نفوس أهل البلد وتمكن العدو من الخنادق فملؤوها، ونقبوا سور البلد وحشوه وأحرقوه، فوقعت بدنة من الباشورة، فدخل العدو إليها وقتل منهم فيها زهاء عن مائة وخمسين نفسا، وكان منهم ستة أنفس من كبارهم، فقال لهم واحد منهم:" لا تقتلونى حتى أرحل الفرنج عنكم بالكلية "، فبادر رجل من الأكراد فقتله وقتل الخمسة الباقية.
(1) راجع ما فات هنا ص 244، هامش 1
(2)
راجع ما فات هنا ص 262، هامش 1
وفى الغد ناداهم الفرنج:
" احفظوا الستة فإنا نطلقكم كلكم بهم ".
فقالوا:
" قد قتلناهم ".
فحزنوا الفرنج، وبطلوا الزحف ثلاثة أيام.
وخرج الأمير سيف الدين المشطوب بأمان إلى ملك الافرنسيس وقال له:
" إنا قد أخذنا منكم بلادا عدة، وكنا نهدم البلد وندخل فيه، ومع هذا إذا سألونا الأمان أعطيناهم، وحملناهم إلى مأمنهم، وأكرمناهم، ونحن نسلم البلد وتعطينا الأمان على أنفسنا ".
فقال:
فأغلظ له سيف الدين القول وانصرف عنه.
ولما دخل سيف الدين بهذا الخبر خاف جماعة ممن كان في البلد، فأخذوا لهم بركوسا (1)، وركبوا فيه ليلا خارجين إلى العسكر الإسلامى، منهم: عز الدين أرسل، وحسام الدين تمرتاش بن الجاولى، وسنقر الوشاقى الأسدى، [فأما أرسل وسنقر](2) فتغيبا خوفا من السلطان، وأما ابن الجاولى فظفر به (3)، فرمى في الزرد خاناه (4) فقطع السلطان إقطاعه وبغر (5) عليهم.
(1) الأصل، " تركوسا "، انظر ما فات هنا ص 337، هامش 2
(2)
أضيف ما بين الحاصرتين عن: (الروضتين، ج 2، ص 187).
(3)
الأصل، " فظفر بابن الجاولى فرمى "، والتصحيح عن المرجع السابق.
(4)
معنى هذا اللفظ أصلا خزانة الزرد أو خزانة السلاح بوجه عام، ولكنها هنا تعنى نوعا من السجون يسجن فيه كبار الأمراء أو علية القوم، راجع أيضا (Dozy : Supp .Dict .Arab).
(5)
كذا بالأصل ولا يتسق بها المعنى، والنص في الروضتين:" فأقطع السلطان إقطاعاته وقطعها، وحبس عنهم عند الرضا بعد مدة مديدة بشاشة وجهها ومنعها ".
وهرب أيضا عبد القاهر الحلبى نقيب الجاندارية [الناصرية](1) فشفع فيه على أنه يضمن على نفسه بالعود، فعاد في ليلته، وأسر [بعد ذلك](1) واستفكه السلطان بثمانمائة دينار.
وركب السلطان يوم الخميس [381] تاسع جمادى الآخرة مشعرا أنه يريد كبس القوم، ومعه المساحى وآلات طم الخندق، فما ساعده العسكر على ذلك، وتخاذلوا وقالوا:" نخاطر بالإسلام كله ".
وخرج رسل من ملك الانكلتير ثلاثة، وطلبوا فاكهة وثلجا، وذكروا أن مقدم الاسبتارية يخرّج من الغد يتحدث ويتحدثون معه في الصلح، فأكرمهم السلطان، ودخلوا سوق العسكر وتفرجوا فيه، وعادوا إلى معسكرهم.
وتقدم السلطان إلى الأمير صارم الدين قايماز النجمى أن يدخل هو وأصحابه إلى أسوارهم عليهم، فترجل جماعة من الأكراد من أمرائهم ولفيفهم، كالجناح أخى سيف الدين المشطوب، [وزحفوا](1) حتى بلغوا أسوار الافرنج، ونصب قايماز النجمى علمه على سورهم، وقاتل عن العلم قطعة من النهار.
ووصل في هذا اليوم عز الدين جرديك النورى والزحف قائم، فترجل هو وجماعته، وقاتل قتالا شديدا، وبات ليلة الجمعة على ظهور الخيل.
وعلم السلطان أنه لاسلامة لعكا، فانفذ إليهم جماعة سرا، وقال لهم:
" خذوا حذركم من العدو، واتفقوا واخرجوا ليلا من البلد يدا واحدة، وسيروا على جانب البحر، واتركوا البلد بما فيه».
فشرعوا في ذلك، واشتغل كل منهم باستصحاب ما يملكه، فما تمكنوا من المراد حتى أسفر الصباح، وظهر سرهم، فلم يتم لهم هذا الأمر، وحرس الفرنج سائر الجوانب.
(1) أضيف ما بين الحاصرتين عن: (الروضتين، ج 2، ص 187).
والعدد والمراكب؛ ومائتى ألف دينار، وخمسمائة أسير مجاهيل الأحوال، ومائة أسير معينين من جانبهم يختارونهم، وصليب الصلبوت، على أنهم يخرجون بأنفسهم سالمين، وما معهم من الأموال والأقمشة المختصة بهم وذراريهم ونسائهم؛ وضمنوا للمركيس - وكان قد استرضاه الفرنج - وأوعدوه بعشرة آلاف دينار، لأنه المتوسط بينهم وبين أهل البلد، ولأصحابه أربعة آلاف دينار " واستقرت القاعدة على ذلك بينهم وبين الفرنج.
ولما وقف السلطان على ذلك أنكره وأعظمه، وعزم على أن يكتب إليهم في إنكار ذلك عليهم، فهو في مثل هذا الحال وقد جمع أمراءه وأصحابه للمشورة، فما أحس المسلمون إلا وقد ارتفعت أعلام الكفر وصلبانهم وشعارهم على أسوار البلد، وذلك ظهر نهار الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من هذه السنة، وصاح الفرنج صيحة واحدة، وعظمت المصيبة على المسلمين، وانحصر كلام أهل الإيمان في تلاوة:" إنا لله وإنا إليه راجعون "، وارتفع البكاء والعويل في عسكر الإسلام.
ودخل المركيس - لعنه الله - البلد، ومعه أربعة أعلام للملوك، فنصب علما على القلعة، وعلما على مئذنة الجامع، وعلما على برج الداوية، وعلما على برج القتال، عوضا عن علم الإسلام، وحيز [المسلمون](1) إلى بعض أطراف البلد.
قال القاضى بهاء الدين بن شداد رحمه الله:
ومثلث بخدمة السلطان عشية ذلك اليوم، وهو أشد حالة من الوالهة الثكلى الحيرى، فسليته بما تيسر من التسلية، وأذكرته الفكر فيما استقبله [383] من الأجر في معنى البلاد الساحلية والقدس الشريف، وكيفية الحال في ذلك، وإعمال الفكر في خلاص المسلمين المأسورين في البلد، وانفصل الأمر على أن رأى التأخير عن تلك المنزلة مصلحة، فإنه لم يبق غرض في المضايقة، فتقدم بنقل الأثقال ليلا إلى المنزلة التي كان عليها أولا بشفرعم، وأقام هو جريدة مكانه لينظر ماذا
(1) ما بين الحاصرتين عن العماد: (الروضتين، ج 2، ص 188).