الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فرع
هناك فرق بين العاصي بسفره، والعاصي في سفره، فالأول أنشأ السفر من أجل المعصية، لولا السفر لم يتمكن من فعلها، كما لو قطع الطريق، وأبق العبد، وسافر بقصد عمل الفواحش، ومنه السفر من أجل طلب علم محرم كالسحر والموسيقى وبعض الآداب المحرمة.
وأما العاصي في سفره أن يكون السفر عقد من أجل أمر مباح، لكن فعل فيه أموراً محرمة، كالغيبة، وشرب الدخان، وسماع الغناء وغيرها كثير، فهذا عاص في سفره، وليس عاصياً بسفره.
والعاصي في سفره له أن يترخص برخص السفر؛ لأن سفره ليس سبباً في فعل المحرم، وقد نقل الإجماع على ذلك ابن عابدين من الحنفية
(1)
، والدسوقي في حاشيته
(2)
وغيرهما.
قال الصاوي من المالكية: " بخلاف المعصية في السفر، فلا تمنع اتفاقاً كالسفر لتجارة، ثم تعرض له معاص"
(3)
.
قال النووي: " أما العاصي في سفره، وهو من خرج في سفر مباح وقصد صحيح، ثم ارتكب معاصي في طريقه كشرب الخمر وغيره، فله الترخص بالقصر وغيره بلا خلاف؛ لأنه ليس ممنوعاً من السفر، وإنما يمنع من المعصية، بخلاف العاصي بسفره "
(4)
.
(1)
حاشية ابن عابدين (1/ 124).
(2)
حاشية الدسوقي (1/ 358).
(3)
حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 153).
(4)
المجموع (4/ 224).
وجاء في حاشية العنقري: " خرج بقولنا: " العاصي بسفره " العاصي فيه، فإن له الترخص، نقله من فيروز
(1)
.
وقال في كشاف القناع: " ويقصر من ابتدأ سفراً، ولو عصى في سفره الجائز، كأن شرب مسكراً ونحوه، كأن زنى فيه، أو قذف، أو اغتاب؛ لأنه لم يقصد السفر لذلك "
(2)
.
الراجح:
أنه لا فرق بين العاصي في سفره، والعاصي بسفره، فكلاهما له حق الترخص؛ حيث وجد السفر، وليس في هذا إعانة على المحرم، ولا تخفيف عن العاصي، لأن السفر من حيث هو لا يوصف بمعصية ولا طاعة، ولابن تيمية كلام طويل في مناقشة هذه الأقوال أورده بطوله لأهميته.
قال ابن تيمية: " والذين قالوا: لا يثبت ذلك - يعني من الرخص - فى السفر المحرم عمدتهم قوله تعالى فى الميتة: {فمن اضطر غير باغ
ولا عاد فلا اثم عليه}
(3)
.
وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن الباغي: هو الباغي على الإمام الذى يجوز قتاله، والعادي: هو العادي على المسلمين: وهم المحاربون، قطاع الطريق. قالوا: فإذا ثبت أن الميتة لا تحل لهم، فسائر الرخص أولى. وقالوا: اذا اضطر العاصى بسفره أمرناه أن يتوب ويأكل، ولا نبيح له
(1)
حاشية العنقري (1/ 58).
(2)
كشاف القناع (1/ 506).
(3)
البقرة، آية:173.
إتلاف نفسه، وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعى وأحمد، وأما أحمد ومالك فجوزا له أكل الميتة دون القصر والفطر، قالوا: لأن السفر المحرم معصية، والرخص للمسافر إعانة على ذلك، فلا تجوز الإعانة على المعصية.
قال ابن تيمية: " وهذه حجج ضعيفة، أما الآية فأكثر المفسرين قالوا المراد بالباغي: الذى يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال، والعادي: الذى يتعدى القدر الذى يحتاج إليه، وهذا التفسير هو الصواب دون الأول؛ لأن الله أنزل هذا فى السور المكية الأنعام والنحل وفى المدينة ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل، والضرورة لا تختص بسفر، ولو كانت فى سفر فليس السفر المحرم مختصاً بقطع الطريق والخروج على الإمام، ولم يكن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم إمام يخرج عليه، ولا من شرط الخارج أن يكون مسافراً، والبغاة الذين أمر الله بقتالهم فى القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين، ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولاً مسافرين، بل كانوا من أهل العوالي مقيمين، واقتتلوا بالنعال والجريد، فكيف يجوز أن تفسر الآية بما لا يختص بالسفر، وليس فيها كل سفر محرم، فالمذكور فى الآية لو كان كما قيل لم يكن مطابقاً للسفر المحرم؛ فإنه قد يكون بلا سفر، وقد يكون السفر المحرم بدونه، وأيضا فقوله:{غير باغ} حال من اضطر، فيجب أن يكون حال اضطراره وأكله الذى يأكل فيه، غير باغ ولا عاد؛ فإنه قال: فلا إثم عليه، ومعلوم أن الإثم إنما ينفى عن الأكل، الذى هو الفعل، لا عن نفس الحاجة إليه، فمعنى الآية: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد، وهذا يبين أن المقصود: أنه لا يبغي فى أكله، ولا يتعدى، والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان، فالبغى: ما جنسه ظلم، والعدوان: مجاوزة القدر المباح
كما قرن بين الإثم والعدوان في قوله: {وتعاونوا على البر والتقوى
ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}
(1)
فالإثم: جنس الشر. والعدوان: مجاوزة القدر المباح فالبغي من جنس الإثم. قال تعالى {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم}
(2)
.
وقال تعالى: {فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه}
(3)
، فإثم: جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد، وأما الجنف: فهو الجنف عليهم بعمد وبغير عمد، لكن قال كثير من المفسرين: الجنف الخطأ والإثم: العمد؛ لأنه لما خص الإثم بالذكر، وهو العمد بقي الداخل في الجنف الخطأ، ولفظ العدوان من باب تعدي الحدود، كما قال تعالى:{تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}
(4)
ونحو ذلك ومما يشبه هذا قوله: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا}
(5)
. والإسراف: مجاوزة الحد المباح، وأما الذنوب: فما كان جنسه شر وإثم.
وأما قولهم: إن هذا إعانة على المعصية فغلط؛ لأن المسافر مأمور بأن يصلي ركعتين، كما هو مأمور أن يصلي بالتيمم إذا عدم الماء فى السفر المحرم، كان عليه أن يتيمم ويصلي، وما زاد على الركعتين ليست طاعة
(1)
المائدة، آية:2.
(2)
الشورة، آية:14.
(3)
البقرة، آية:182.
(4)
البقرة، آية:229.
(5)
آل عمران، آية:147.
ولا مأموراً بها أحد من المسافرين، وإذا فعلها المسافر كان قد فعل منهياً عنه، فصار صلاة الركعتين مثل أن يصلي المسافر الجمعة خلف مستوطن، فهل يصليها إلا ركعتين، وإن كان عاصياً بسفره، وإن كان إذا صلى وحده صلى أربعاً. وكذلك صومه فى السفر ليس براً، ولا مأموراً به؛ فإن النبى صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: ليس من البر الصيام فى السفر، وصومه إذا كان مقيماً أحب إلى الله من صيامه فى سفر محرم، ولو أراد أن يتطوع على الراحلة فى السفر المحرم لم يمنع من ذلك، وإذا اشتبهت عليه القبلة أما كان يتحرى ويصلي، ولو أخذت ثيابه أما كان يصلي عرياناً.
فإن قيل: هذا لا يمكنه إلا هذا. قيل: والمسافر لم يؤمر إلا بركعتين، والمشروع فى حقه أن لا يصوم، وقد اختلف الناس لو صام، هل يسقط الفرض عنه؟ واتفقوا على أنه إذا صام بعد رمضان أجزأه، وهذه المسألة ليس فيها احتياط، فإن طائفة يقولون: من صلى أربعاً، أو صام رمضان فى السفر المحرم لم يجزئه ذلك، كما لو فعل ذلك فى السفر المباح عندهم.
وطائفة يقولون: لا يجزيه إلا صلاة أربع وصوم رمضان، وكذلك أكل الميتة واجب على المضطر، سواء كان فى السفر أو الحضر، وسواء كانت ضرورته بسبب مباح أو محرم، فلو ألقى ماله فى البحر واضطر إلى أكل الميتة كان عليه أن يأكلها، ولو سافر سفراً محرماً، فأتعبه، ولو قاتل قتالاً محرماً حتى أعجزته الجراح عن القيام، صلى قاعداً.
فإن قيل: فلو قاتل قتالاً محرماً هل يصلي صلاة الخوف؟
قيل: يجب عليه أن يصلي، ولا يقاتل، فإن كان لا يدع القتال المحرم، فلا نبيح له ترك الصلاة، بل إذا صلى صلاة خائف كان خيراً من
ترك الصلاة بالكلية، ثم هل يعيد؟ هذا فيه نزاع، ثم إن أمكن فعلها بدون هذه الأفعال المبطلة فى الوقت وجب ذلك عليه؛ لأنه مأمور بها، وأما إن خرج الوقت ولم يفعل ذلك ففي صحتها وقبولها بعد ذلك نزاع
(1)
.
فالراجح أن العاصي بسفره يقصر ويفطر، ويمسح، ويتمتع بكل رخص السفر، ولم يأت من منع بدليل قوي سالم من النزاع يصار إليه.
(1)
مجموع الفتاوى (24/ 110) وما بعدها.