الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثاني: من يغلو في إثبات الأسباب
حتى يجعل ما ليس بسبب سببًا، بل جعل بعضهم الأسباب فاعلة بذاتها وهذا شرك بالله تعالى.
الثالث: من يؤمن بالأسباب وتأثيراتها، ولكنهم لا يثبتون من الأسباب إلا ما أثبته الله سبحانه ورسوله
، سواء كان سببًا شرعيًا أو كونيًا
(1)
.
فإنكار الأسباب بالكلية قدح في الشرع والالتفات والاعتماد عليها بالكلية شرك أكبر والأخذ بها مع التوكل على الله هو دين الإسلام
(2)
(3)
.
قال ابن القيم رحمه الله: " وهذا الكلام يحتاج إلى شرح وتقييد، فالالتفات إلى الأسباب ضربان: أحدهما: شرك، والآخر: عبودية وتوحيد، فالشرك أن يعتمد عليها ويطمئن إليها، ويعتقد أنها بذاتها محصلة للمقصود، فهو معرض عن المسبِّب لها، ويجعل نظره والتفاته مقصورا عليها، وأما إن التفت إليها التفات امتثال وقيام بها وأداء لحق العبودية فيها وإنزالها منازلها فهذا الالتفات عبودية وتوحيد، إذا لم يشغله عن الالتفات إلى المسبِّب.
وأما محوها أن تكون أسبابا فقدح في العقل والحس والفطرة، فإن أعرض عنها بالكلية كان ذلك قدحا في الشرع وإبطالا له.
(1)
انظر: مجموع الفتاوى: 35/ 168، والرد على المنطقيين: 305، ومفتاح دار السعادة: 2/ 292، والقول المفيد في شرح كتاب التوحيد: 1/ 164، وكسوف الشمس بين التخويف والتزييف لذياب بن سعد الغامدي، مكتبة المزيني، الطائف، ط 1:49.
(2)
انظر: إحياء علوم الدين: 4/ 290، 295، ومجموع الفتاوى: 8/ 175، 527، ومنهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط 1: 5/ 366.
(3)
يوسف: 67.
وحقيقة التوكل القيام بالأسباب، والاعتماد بالقلب على المسبِّب، واعتقاد أنها بيده، فإن شاء منعها اقتضاءها، وإن شاء جعلها مقتضية لضد أحكامها، وإن شاء أقام لها موانع وصوارف تعارض اقتضاءها وتدفعه"
(1)
.
ثم قال رحمه الله: " فإذا جمعت بين هذا التوحيد وبين إثبات الأسباب استقام قلبك على السير إلى الله، ووضح لك الطريق الأعظم الذي مضى عليه جميع رسل الله وأنبيائه وأتباعهم، وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم"
(2)
.
إلى أن قال رحمه الله: " وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين الأصلين في الحديث الصحيح حيث قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز"
(3)
، فأمره بالحرص على الأسباب والاستعانة بالمسبِّب، ونهاه عن العجز، وهو نوعان: تقصير في الأسباب وعدم الحرص عليها، وتقصير في الاستعانة بالله وترك تجريدها، فالدين كله، ظاهره وباطنه، شرائعه وحقائقه تحت هذه الكلمات النبوية"
(4)
.
ثم إن الإيمان بالقدر لا ينافي فعل الأسباب، وما سبق في علم الله وحكمه لا ينافي إثباتها، ولا يقتضي إسقاطها، قال ابن القيم رحمه الله: " وما سبق به علم الله وحكمه حق، وهو لا ينافي إثبات الأسباب ولا يقتضي إسقاطها، فإنه سبحانه قد علم وحكم أن كذا وكذا يحدث بسبب كذا وكذا، فسبق العلم
(1)
مدارج السالكين: 3/ 499.
(2)
المصدر السابق: 3/ 500.
(3)
صحيح مسلم، كتاب القدر، باب: في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله: 4/ 2052 برقم (2664).
(4)
مدارج السالكين: 3/ 501. وانظر: مجموع الفتاوى: 8/ 175، وشفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن القيم، تحقيق: مصطفى أبو النصر الشلبي، مكتبة السوادي، جدة، ط 2: 2/ 82.
والحكم بحصوله عن سببه، فإسقاط الأسباب خلاف موجب علمه وحكمه، فمن نظر إلى الحدوث بغير الأسباب لم يكن نظره وشهوده مطابقا للحق؛ بل كان شهوده غيبة ونظره عمى، فإذا كان علم الله قد سبق بحدوث الأشياء بأسبابها فكيف يشهد العبد الأمور بخلاف ما هي عليه في علمه وحكمه وخلقه وأمره"
(1)
.
بل إن فعل الأسباب مما أمر به الشرع، وهو حاصل بالقدر، ولهذا لما توجه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام وعلم في أثناء الطريق أنه قد وقع فيها الطاعون، فاستشار الصحابة رضي الله عنهم هل يستمر ويمضي في سيره، أو يرجع إلى المدينة؟ .
فاختلف الناس عليه، ثم استقر رأيهم على أن يرجع إلى المدينة، ولما عزم على ذلك جاءه أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، " كيف ترجع إلى المدينة؟ أفرارا من قدر الله"؟ . فقال عمر رضي الله عنه:" نفر من قدر الله إلى قدر الله "، ثم بعد ذلك جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان متغيباً في بعض حاجته، فحدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الطاعون:" إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه"
(2)
.
ولما سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم، أريت رقى نسترقيها، وأدوية نتداوى بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال:"هي من قدر الله"
(3)
.
(1)
المصدر السابق: 3/ 500.
(2)
صحيح البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون: 1123 برقم (5729)، وانظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين: 2/ 83 - 84.
(3)
رواه الترمذي، كتاب الطب، باب ما جاء في الرقى والأدوية: 343 برقم (2065) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه، كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء: 372 برقم (3437).
فبين صلى الله عليه وسلم: " أن الأسباب التي تدفع بها المكاره هي من قدر الله ليس القدر مجرد دفع المكروه بلا سبب"
(1)
.
فالمسلم يأخذ بالأسباب؛ لأنه مأمور بالأخذ بها، ويعمل وفق السنة لأنه مأمور بمراعاتها، لا لأنه يعتقد أن الأسباب والوسائل هي المنشئة للمسببات والنتائج، فهو يرد الأمر كله إلى خالق الأسباب، ويتعلق به وحده من وراء الأسباب، بعد أداء الواجب والسعي والعمل واتخاذ الأسباب امتثالاً وطاعة لأمر الله
(2)
.
ويعتقد أن هذا السبب من الله، وأن الله لو شاء لأبطل أثره، ولو شاء لأبقاه، وأنه لا أثر للسبب إلا بمشيئة الله عز وجل
(3)
.
ويعلم أن الأخذ بالأسباب بمسبباتها، فربط المطر بوجود السحاب، وربط إنجاب الولد بالزواج، وربط دخول الجنة بالعمل الصالح، فالمسبَّب لا يقع إلا إذا وقع سببه، لكن قد يقع السبب، ويختلف عنه سببه لحكمة يعلمها الله تعالى، فقد يوجد السحاب ولا يوجد المطر، لكن لا يوجد مطر إلا بسحاب، وقد يوجد الزواج ولا يوجد الولد، لكن لا يوجد ولد إلا بجماع بالأسباب المعتادة.
"ذلك أن شأن الأسباب تحصل عند مسبباتها، وقد يختلف ذلك بمعارضة أسباب أخرى مضادة لتلك الأسباب الحاصلة في وقت واحد، أو لكون السبب الواحد قد يكون سبباً لأشياء متضادة باعتبارات فيخطئ تعاطي السبب
(1)
رسالة في تحقيق التوكل لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن جامع الرسائل، تحقيق: محمد رشاد سالم، دار العطاء، الرياض، ط 1:94.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى: 1/ 137، والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم، تحقيق: محمد جميل غازي، مطبعة المدني:18.
(3)
القول المفيد في شرح كتاب التوحيد: 1/ 183 - 184.
في مصادفة المسبب المقصود"
(1)
.
ثم إن الله عز وجل وإن كان خالقاً للأسباب التي تترتب عليها مسبَّباتها حسب سننه تعالى، فإن ما كان منها شراً فإنه لا ينسب إليه سبحانه كما قال صلى الله عليه وسلم:" والخير كله في يديك والشر ليس إليك"
(2)
.
فالسبب" قبيحا من فاعله فلا يقتضى أن يكون قبيحا من خالقه، كما أن كونه أكلا وشربا لفاعله لا يقتضى أن يكون كذلك لخالقه؛ لأن الخالق خلقه في غيره لم يقم بذاته، فالمتصف به من قام به الفعل لا من خلقه في غيره، كما أنه إذا خلق لغيره لونا وريحا وحركة وقدرة وعلماً كان ذلك الغير هو المتصف بذلك اللون والريح والحركة والقدرة والعلم، فهو المتحرك بتلك الحركة، والمتلون بذلك اللون، والعالم بذلك العلم، والقادر بتلك القدرة، فكذلك إذا خلق في غيره كلاما أو صلاة أو صياما أو طوافا كان ذلك الغير هو المتكلم بذلك الكلام وهو المصلي وهو الصائم وهو الطائف، وكذلك إذا خلق في غيره رائحة خبيثة منتنة كان هو الخبيث المنتن ولم يكن الرب تعالى موصوفا بما خلقه في غيره"
(3)
.
(1)
تفسير التحرير والتنوير: 13/ 21 - 22، وانظر: مجموع الفتاوى: 8/ 70، 133، وكلاما كثيرا لعلماء الطبيعة في تخلف الأسباب عن المسببات، وأن هذا أمر معروف، في كتاب الشواهد والنصوص من كتاب الأغلال على ما فيه من زيغ وكفر وضلال بالعقل والنقل لمحمد بن عبد الرزاق حمزة، نشر: عبد الله محمد بابا الشنقيطي: 26 - 35.
(2)
صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه: 1/ 535 برقم (771).
(3)
منهاج السنة النبوية: 2/ 294 - 295، وانظر مجموع الفتاوى: 8/ 123.