الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: صلة الأسباب بالآيات الكونية
الكون كله أشياءه وأحياءه من خلق الله وإبداعه، أراده الله سبحانه فكان، وليس لشيء ولا لحي في هذا الكون من أمر الخلق ولا التدبير ولا المشاركة شيء بحال، قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
(1)
.
كما أن هذا الكون قائم على أساس العدل والحق والنظام والإحكام، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}
(2)
(3)
.
فهذا الكون العظيم خاضع لسنن تحكمه فتقوده لحكم عالية، وأغراض سامية، فليس بين هذه الأحداث والحوادث الجارية في هذا الكون ما هو خال عن حكمة متوخّاة، ولا ما هو جار على غير سنن ثابته تربطه بكل أجزاء الحياة، فكل هذا الكون يتم على مقتضى التقدير الأزلي الذي هو القضاء والقدر.
قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ
(1)
سبأ: 22 - 23.
(2)
الدخان: 38 - 39.
(3)
ص: 27.
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}
(1)
.
وفي آيات الله الكونية حقائق كثيرة تقف العقول حيارى أمامها، وقد تشهد آثارها ولا تستطيع تعرف كنهها، كحقيقة الروح والعقل.
"فمن أراد أن ينظر في خلق الله وقدرته عليه أن يذكر هذه الحقيقة، وهي ثبوت الحق والحكمة والنعمة في جميعها، وإمكان عجز عقله في بعض المواضع والأحوال عن إدراكها، فيكون عمله في خلق الله هو النظر والبحث والتحليل والاكتشافات واستجلاء الحقائق الكونية، واستخراج الفوائد العلمية والعملية إلى أقصى حد توصله إليه معلوماته وآلاته، حتى إذا انتهى إلى مشكل استغلق عليه اعترف بعجزه"
(2)
.
وقد دل القرآن على أن كل شيء يحدث بسب سواء كان هذا الحدث يتعلق بالجماد أو بالنبات أو بالحيوان أو بالإنسان أو بالأجرام السماوية أو الظواهر الكونية المادية المختلفة"فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسب، والله خالق الأسباب والمسبَّبات"
(3)
.
فمن الأسباب المادية قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
(4)
. ومن الأسباب المعنوية قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
(5)
.
(1)
الأنعام: 1.
(2)
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لعبد الحميد بن باديس، نشر وزارة الشؤون الدينية الجزائرية:361.
(3)
مجموع الفتاوى: 8/ 70.
(4)
البقرة: 22.
(5)
الأعراف: 96.
والقرآن مملوء من ترتيب الأحكام الكونية والشرعية على الأسباب بطرق متنوعة
(1)
.
والحوادث في عالم الكائنات سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية فلابد لها من أسباب متقدمة عليها، بها تقع في مستقر العادة، وعنها يتم كونها.
وكل واحد من هذه الأسباب حادث أيضا، فلابد له من أسباب أخر، ولا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبب الأسباب وموجدها وخالقها سبحانه لا إله إلا هو قال تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}
(2)
.
"وتلك الأسباب في ارتقائها تتفسح وتتضاعف طولا وعرضا ويحار العقل في إدراكها وتعديدها، فإذن لا يحصرها إلا العلم المحيط"
(3)
- أي علم الله - قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}
(4)
.
ولا فرق في ذلك بين الحادث الذي يقع مرة واحدة، والحادث الذي يقع ملايين المرات فكلها تتوقف في بادئ الأمر على إرادة الخلق والإنشاء، قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
(5)
، فالخالق
(1)
انظر: مدارج السالكين: 3/ 498، والجواب الكافي:19.
(2)
الزمر: 62.
(3)
مقدمة ابن خلدون لعبد الرحمن بن محمد بن خلدون، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، دار نهظة مصر، القاهرة، ط 4: 3/ 996، وانظر قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن لنديم الجسر: 67، لبنان.
(4)
الطلاق: 12.
(5)
يس: 82.
هو الله عز وجل، قال تعالى:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}
(1)
، وقال تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}
(2)
.
وقد جعل الله عز وجل لهذه الآيات الكونية أسباباً حسية وشرعية، جاء ذكرها في القرآن الكريم:
فالأسباب الكونية: هي ما أجراه الله من العادة من تعلق المسببات بأسبابها، فتراكم السحب سبب لنزول المطر، قال تعالى:{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}
(3)
.
(4)
.
وفي أطوار النبات جاء قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}
(5)
.
وفي اختلاف الليل والنهار جاء قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}
(6)
، وقال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ
(1)
الفرقان: 2.
(2)
القمر: 49.
(3)
فاطر: 9.
(4)
النور: 43 - 44.
(5)
الزمر: 21.
(6)
الإسراء: 12.
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}
(1)
.
أما الأسباب الشرعية فإن الاستغفار من أسباب نزول المطر، قال تعالى:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}
(2)
.
والتقوى من أسباب فتح بركات السماء والأرض، قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
(3)
.
والظلم والمعصية من أسباب فساد البر والبحر، قال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
(4)
.
أما الأسباب الأخرى الباطلة فإنها لا أثر لها في الآيات الكونية، ولا تعلق لها بالسعود ولا النحوس كما يزعم الكهان ونحوهم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم:" أن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموهما فصلوا"
(5)
.
قال الخطابي
(6)
رحمه الله: " كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب
(1)
يس: 37 - 40.
(2)
نوح: 10 - 12.
(3)
الأعراف: 96.
(4)
الروم: 41.
(5)
سبق تخريجه: 5.
(6)
هو أبو سليمان حَمْد - بسكون الميم- بن محمد بن إبراهيم الخطابي، من علماء الشافعية والمحدثين، من مصنفاته: معالم السنن، وغريب الحديث، وأعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، توفي عام 388.
انظر: سير أعلام النبلاء: 17/ 23، وشذرات الذهب: 4/ 471.
حدوث تغير في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله، ليس لهما سلطان في غيرهما، ولا قدرة لهما على الدفع عن أنفسهما"
(1)
.
وقد اقتضت حكمة الله ترتيب المسبَّبات على الأسباب، "مع الاستغناء عنها إظهاراً للقدرة، وإتماماً لعجائب الصنعة، وتحقيقاً لما سبقت به المشيئة، وحقت به الكلمة وجرى به القلم"
(2)
، وهذا لا يعني رفض مبدأ السببية بل ينبغي الإقرار بأن لكل سبب نتيجة
(3)
.
فالله يأمرنا أن نأخذ بالأسباب وأن نتبع هذه السنن ونفوض أمرنا إليه وحده
لا شريك له.
(4)
.
فسنن الله المادية وأسبابها ثابتة لكن الله عز وجل إذا شاء أن يخرقها خرقها. فقد يوجد المسبَّب بدون السبب المعتاد، فيحصل الولد بدون جماع، مثل
(1)
أعلام الحديث: 1/ 610.
(2)
إحياء علوم الدين: 2/ 32.
(3)
انظر: كبرى اليقينيات الكونية: 286.
(4)
الواقعة: 63 - 74.
خلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، وولادة عيسى ابن مريم عليه السلام من غير أب، فإن الله عز وجل يخلق السبب، ويخلق بالسبب، ويخلق بغير السبب، قال تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
(1)
، وفي هذا بيان لقدرة الله تعالى على إيجاد المسبَّبات العاديات من غير سبب ظاهر.
والنار تحرق بإذنه سبحانه وتعالى، فإذا أمرت أن تمتنع من الإحراق امتنعت كنار إبراهيم عليه السلام، قال تعالى:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
(2)
.
والماء مغرق، فإذا أمر أن يمتنع من الإغراق امتنع، وإذا أمر أن يغرق أغرق كإغراقه فرعون وقومه، ومنعه من إغراق موسى عليه السلام وقومه، قال تعالى:{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}
(3)
.
(1)
آل عمران: 59.
(2)
الأنبياء: 69.
(3)
البقرة: 50.