الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: الضوابط الشرعية تجاه الآيات الكونية
للتعامل مع الآيات الكونية ضوابط شرعية يجب الالتزام بها، منها:
1 -
الإيمان بجميع ما جاء في القرآن والسنة عن الآيات الكونية مما شهدناه أو غاب عنا، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه مما صح به النقل
(1)
، وإن خالف نظريات العلم الظنية
(2)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " إن علم الدين طلباً وخبراً لا ينال إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما العلم بالكونيات فأسبابه متعددة، وما اختص به الرسل وورثتهم أفضل مما شركهم فيه بقية الناس"
(3)
.
وقال الشيخ الألباني
(4)
رحمه الله في تعليقه على حديث الذباب الذي رواه
(1)
انظر: لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد لابن قدامة المقدسي، تحقيق: بشير عيون، دار البيان، دمشق، ط 2:21.
(2)
الدين والعلم، وهل ينافي الدين العلم؟ لمصطفى الغلاييني، المكتبة العصرية، بيروت:32.
(3)
مجموع الفتاوى: 11/ 327.
(4)
هو محمد ناصر الدين الألباني، من الأعلام البارزين وله عناية بالحديث، وله مصنفات كثيرة، منها: السلسلة الصحيحة والسلسة الضعيفة، وصحيح وضعيف السنن الأربعة، والتوسل وغيرها من الكتب، توفي عام 1420.
انظر: كتاب علماء ومفكرون عرفتهم لمحمد المجذوب، دار الشواف، الرياض، ط 4: 1/ 287، وكتاب حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه لمحمد بن إبراهيم الشيباني، من منشورات مركز المخطوطات والتراث والوثائق، الكويت، وكتاب الإمام المجدد والعلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني لعمر أبو بكر، دار بيت الأفكار الدولية، عمّان.
البخاري في صحيحه
(1)
بعد أن بين ثبوته، ورد على من طعن في راوي الحديث أبي هريرة رضي الله عنه: " فهذا هو التحقيق العلمي يثبت أنه بريء من كل ذلك وأن الطاعن فيه هو الحقيق بالطعن فيه؛ لأنهم رموا صحابيا بالبهت، وردوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لمجرد عدم انطباقه على عقولهم المريضة!
ونحن بصفتنا مؤمنين بصحة الحديث وأن النبي صلى الله عليه وسلم
…
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}
(2)
، لا يهمنا كثيرا ثبوت الحديث من وجهة نظر الطب؛ لأن الحديث برهان قائم في نفسه لا يحتاج إلى دعم خارجي ومع ذلك فإن النفس تزداد إيمانا حين ترى الحديث الصحيح يوافقه العلم الصحيح"
(3)
.
2 -
أن الله هو المتفرد بالخلق، والمتصرف في الكون.
وقد بين الله ذلك أتم البيان، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}
(4)
(5)
، وقال تعالى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ
(1)
كتاب بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء: 633 برقم (3320).
(2)
النجم: 3 - 4.
(3)
السلسة الصحيحة: 1/ 95 - 101 باختصار.
(4)
الأنعام: 73.
(5)
الأحقاف: 4.
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}
(1)
.
3 -
أن هذه الآيات الكونية لا تخرج عن قضاء الله وقدره ولا عن مشيئته وإرادته، قال تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}
(2)
، وقال تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}
(3)
.
4 -
أن كل ما ورد في النصوص الشرعية من الآيات الكونية فهو لبيان كمال قدرة الله وحكمته
(4)
، وتذكير للناس بنعم الله تعالى عليهم ليشكروه حق شكره، وليعبدوه حق عبادته
(5)
.
فذكر الآيات الكونية في القرآن في سياق العظة للاعتبار، وفي مورد الإرشاد للاستدلال على قدرة الخالق وحكمته في مخلوقاته، ليوجه الإنسان ببصيرته إلى خالقه، فيسبحه ويمجده ويعبده حق عبادته
(6)
.
ولذلك لا يجوز التكلف فيها ما لا علم للإنسان به والتأويل فيها بغير ما أنزل الله تعالى، كما قال قتادة رحمه الله:" خلق هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به"
(7)
.
5 -
أنه ليس في النصوص الصحيحة ما ينافي العلم الكوني الصحيح، ولا ما يناهض ما أثبته البرهان الساطع، وقام عليه الدليل القاطع
(8)
، بل إن فيه
(1)
الحج: 73.
(2)
القمر: 49.
(3)
الأعلى: 1 - 3.
(4)
انظر: تفسير ابن كثير: 2/ 517.
(5)
الأجزاء الكونية بين النقل والعقل: 12.
(6)
الدين والعلم، وهل ينافي الدين العلم؟ :30.
(7)
رواه البخاري معلقاً: كتاب بدء الخلق، باب في النجوم:614.
(8)
انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية، تحقيق: علي الألمعي وعبدالعزيز العسكر وحمدان الحمدان، دار الفضيلة، الرياض، ط 1: 2/ 538، والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم، تحقيق: علي الدخيل الله، دار العاصمة، الرياض، ط 3: 3/ 829.
إشارات تدعمه وتثبت رجحان ما يذهب إليه
(1)
.
6 -
أن من الآيات الكونية ما لا يمكن العلم به إلا عن طريق النصوص الشرعية الثابتة، ولا مجال للاجتهاد فيه لأن الله قد استأثر بعلم ذلك، كطلوع الشمس من مغربها آخر الزمان، وأهوال يوم القيامة.
ومنها ما يدرك بالحس والمشاهدة، وهذه لا تحتاج إلى دليل شرعي، مثل أن الشمس مضيئة وذات حرارة
(2)
.
ومنها ما يدرك بالنظر والاستدلال، كمعرفة وقت الكسوف والخسوف
(3)
.
وعلى هذا فالعلوم الكونية تبنى على أصلين، إما نص شرعي تؤخذ منه الدلالة بصريح لفظ أو مفهوم، وإما محسوس تدركه الحواس البشرية وتصدقه النصوص الشرعية لأنها لا تخالفه في منطوق ولا مفهوم.
فمرجع القبول لكل العلوم القديمة والحديثة التي تتعلق بالآيات الكونية قام على إحدى قاعدتين، إما النقل الصحيح أو العقل الصريح، إذ لا تخالف بينهما.
7 -
عدم الخوض في الأمور الغيبية والوقوف مع النصوص الشرعية
(4)
،
(1)
الدين والعلم، وهل ينافي الدين العلم؟ : 13، الأجزاء الكونية بين النقل والعقل: 12
(2)
انظر: شرح السنة للبغوي، تحقيق: زهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت: 12/ 183، ط 2، والأجزاء الكونية بين النقل والعقل:10.
(3)
انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض ط 2: 1/ 178.
(4)
الإتقان في علوم القرآن: 4/ 190.
كما قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}
(1)
(2)
.
8 -
أن ما سكتت عنه النصوص الشرعية من ظنيات العلم - أي الكوني -، فلا شيء يمنعنا أن نسلم به، حتى يجيء من العلم - أي الكوني - ما يناقضه
(3)
.
9 -
أن هذه الآيات الكونية لحدوثها أسباب حسية، فنزول المطر سبب لحياة الأرض، قال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
(4)
، وأسباب معنوية، قال تعالى -مبيناً أن الاستغفار من أسباب نزول الأمطار-:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}
(5)
.
10 -
ما أوتيه الإنسان من علم الآيات الكونية فإنه محدود بما أراده الله تعالى لتقوم الحجة على خلقه بما يظهره لهم من الآيات البينات التي تدل على عظمة هذا الكون وعظمة خالقه
(6)
، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ
(1)
النمل: 65.
(2)
الكهف: 51.
(3)
انظر: الصواعق المرسلة: 3/ 798، 830، الدين والعلم، وهل ينافي الدين العلم؟ :33.
(4)
البقرة: 164.
(5)
نوح: 10 - 12.
(6)
انظر: تفسير القرطبي: 14/ 29، الأجزاء الكونية بين النقل والعقل:20.
قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}
(1)
(2)
.
11 -
التثبت من حقائق العلم وعدم إقحامها في غير موضعها في القرآن والسنة، والواجب عند تفسير الآيات الكونية في القرآن أو السنة بالعلم الحديث، أن لا تخالف هذه التفاسير العلمية النصوص الشرعية، ولا تفاسير السلف، مع مراعاة الشروط والضوابط العامة للتفسير
(3)
.
وأنقل كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-- وهو كالقاعدة الكلية للتعامل مع جميع العلوم الدنيوية، قال رحمه الله: " فصل في جماع الفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق السعادة والنجاة، وطريق الشقاوة والهلاك: أن يجعل ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، وبه يحصل الفرقان والهدى والعلم والإيمان فيُصدّق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل، وإن لم يعلم هل وافقه أو خالفه لكون ذلك الكلام مجملا، لا يعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده، ولكن لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه، أو تكذيبه؛ فإنه يمسك فلا يتكلم إلا بعلم. والعلم ما قام عليه الدليل والنافع منه ما جاء به الرسول
…
(1)
الإسراء: 85.
(2)
الروم: 7 - 8.
(3)
انظر: الإتقان في علوم القرآن: 4/ 185 - 188، والآيات الكونية في ضوء العلم الحديث، لمنصور محمد حسب النبي، دار المعارف، القاهرة: 53، والإعجاز العلمي في القرآن لسامي بن أحمد الموصلي، دار النفائس، بيروت، ط 1:40.
فالرسول أعلم الخلق بها، وأرغبهم في تعريف الخلق بها، وأقدرهم على بيانها وتعريفها، فهو فوق كل أحد في العلم والقدرة والإرادة، وهذه الثلاثة بها يتم المقصود، ومن سوى الرسول إما أن يكون في علمه بها نقص أو فساد، وإما أن لا يكون له إرادة فيما علمه من ذلك فلم يبينه، إما لرغبة وإما لرهبة وإما لغرض أخر، وإما أن يكون بيانه ناقصا ليس بيانه البيان عما عرفه الجنان"
(1)
.
(1)
رسالة الفرقان بين الحق والباطل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ضمن مجموعة الرسائل الكبرى، دار الفكر، بيروت: 1/ 102.