الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: تأييد الله لأنبيائه بالآيات الكونية
أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين، وحجة على العالمين، قال تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}
(1)
، وحتى لا يحتج أحد على الله فيقول:{رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}
(2)
.
وما بعث الله رسولاً إلا أيده بالآيات الدالة على صدق رسالته وصحة دعواه، قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ}
(3)
، وقال صلى الله عليه وسلم:" ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة"
(4)
.
فمعجزات الأنبياء هي الآيات التي يعجز الله بها البشر أن ياتوا بمثلها ويكون ذلك تأييداً لأنبيائه.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: " معجزات الأنبياء هي الآيات التي أعجزوا بها البشر أن يأتوا بمثلها والله تعالى يسميها آيات، وهي علامات دالة على صدق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فيما جاؤوا به من الرسالة"
(5)
.
وقال ابن القيم رحمه الله في بيان أن طريقة الاستدلال بالآيات الكونية
(1)
النساء: 165.
(2)
طه: 134.
(3)
الحديد: 25.
(4)
صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:" بعثت بجوامع الكلم": 1387 برقم (7274).
(5)
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين: 5/ 303، وانظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: 3/ 242.
المأخوذة عن طريق الحس لمن شاهدها، واستفاضة الخبر لمن غاب عنها، وأنها من أقوى الطرق وأصحها، وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله، ودلالة ذلك على تأييد الله لأنبيائه:" وهذه الطريق من أقوى الطرق وأصحها، وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله، وارتباط أدلة هذه الطريق بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة العقلية الصريحة بمدلولاتها، فإنها جمعت بين دلالة الحس والعقل، ودلالتها ضرورية بنفسها، ولهذا يسميها الله سبحانه آيات بينات، وليس في طرق الأدلة أوثق ولا أقوى منها، فإن انقلاب عصا تقلها اليد ثعبانا عظيما يبتلع ما يمر به ثم يعود عصا كما كانت من أدل الدليل على وجود الصانع وحياته وقدرته وإرادته وعلمه بالكليات والجزئيات، وعلى رسالة الرسول وعلى المبدأ والمعاد، فكل قواعد الدين في هذه العصا"
…
ثم ذكر بعض الأمثلة، ثم قال:" وأمثال ذلك مما هو من أعظم الأدلة على الصانع وصفاته وأفعاله وصدق رسله واليوم الآخر"
(1)
.
وقال ابن سعدي رحمه الله في بيان كيف يقرر القرآن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يكون أحيانا عن طريق الآيات الكونية:" وتارة يقرر رسالته بما أظهر على يديه من المعجزات، وما أجرى له من الخوارق والكرامات، الدالِّ كل واحد منها بمفرده - فكيف إذا اجتمعت - على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى"
(2)
.
وقال أيضا في بيان آيات الرسل والفرق بينها وبين طلبات واقتراحات المكذبين، وكيف يكون تأييد الله لرسله: " القاعدة الخمسون: آيات الرسول: هي التي يبديها الباري ويبتديها، وأما ما أبداه المكذبون له
(1)
مختصر الصواعق المرسلة: 2/ 487 - 490 باختصار.
(2)
القواعد الحسان: 29، 42.
واقترحوه، فليست آيات، وإنما هي تعنتات وتعجيزات.
وبهذا يعرف الفرق بينها وبين الآيات: وهي البراهين والأدلة على صدق الرسول وغيره من الرسل، وعلى صدق كل خبر أخبر الله به، وأنها الأدلة والبراهين التي يلزم من فهمها على وجهها صدق ما دلت عليه ويقينه"
(1)
.
وقد ذكر الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في فوائد آيات الأنبياء ومعجزاتهم: "أنها دليل على قدرة الله، وأنها دليل على صحة ما جاءت به الرسل، وأنه لا يمكن للمرء إلا أن يصدق برسالة الرسول الذي جاء بها حيث جاء بما لا يقدر عليه أحد سوى الله عز وجل "
(2)
.
ثم بين من فوائد هذه الآيات أيضاً: " بيان رحمة الله بعباده، فإن هذه الآيات التي يرونها مؤيدة للرسل تزيد إيمانهم وطمأنينتهم لصحة الرسالة، ومن ثم يزداد يقينهم وثوابهم ولا يحصل لهم حيرة ولا شك ولا ارتباك"
(3)
.
فرحمة الله بالرسول الذي أرسله حيث ييسر قبول رسالته بما يجريه على يديه من الآيات ليتسنى إقناع الخلق بأمور لا يستطيعون معارضتها ولا يمكنهم ردها إلا جحودا وعنادا، قال الله تعالى:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} ، أي لما يرون من الآيات الدالة على صدقك.
{وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}
(4)
أي ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم
(5)
.
ومن الآيات التي حصلت للنبي محمد صلى الله عليه وسلم تأييد له من الله عز وجل: " ما
(1)
المصدر السابق: 106.
(2)
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين: 5/ 304.
(3)
المصدر السابق: 5/ 305.
(4)
الأنعام: 33.
(5)
انظر: : تفسير ابن كثير: 2/ 134.
أظهره الله شاهداً على صدقه من الآيات الأفقية كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
(1)
؟ .
ولذلك أمثلة:
المثال الأول: انشقاق القمر، فقد انشق القمر وصار فرقتين، وشاهد الناس ذلك، وقد أشار الله إلى ذلك في القرآن، فقال الله تعالى:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ}
(2)
وقد أجمع العلماء على وقوع ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، وقد رآه الناس بمكة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه:" اشهدوا اشهدوا"
(3)
، وقدم المسافرون من كل وجه فأخبروا أنهم رأوه"
(4)
.
والمثال الثاني: " نزول المطر باستسقائه مباشرة، وإقلاع المطر باستصحائه مباشرة"
(5)
، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " أصابت سنة - أي جدب - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا. فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة
(6)
، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي أو قال غيره، فقال: يا رسول الله، تهدم البناء
(1)
فصلت: 53.
(2)
القمر: 1 - 3.
(3)
سبق تخريجه: 60.
(4)
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين: 5/ 311 - 312.
(5)
المرجع السابق: 5/ 313.
(6)
القزعة: بفتح القاف والزاي بعدها مهملة، أي سحاب متفرق. فتح الباري: 2/ 503.
وغرق المال، فادع الله لنا. فرفع يديه وقال:"اللهم حوالينا ولا علينا" فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة
(1)
، وسال الوادي وادي قناة
(2)
شهراً، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود"
(3)
.
ومن الآيات الكونية التي أخبر صلى الله عليه وسلم بأنها ستقع، ووقعت كما أخبر: "إخباره صلى الله عليه وسلم عن ظهور نار في أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى
(4)
،
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى"
(5)
. فقد خرجت هذه النار
(6)
في جمادى الآخرة سنة 654 هـ شرقي المدينة فأقامت نحواً من شهر وملأت تلك الأودية وشاهد الناس أعناق الإبل ببصرى"
(7)
.
قال ابن تيمية رحمه الله: " وهذه النار كانت تحرق الحجر"
(8)
.
(1)
الجوبة: بفتح الجيم ثم الموحدة، وهي الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها هنا الفرجة في السحاب. فتح الباري: 2/ 506.
(2)
قناة: بفتح القاف والنون الخفيفة علم على أرض ذات مزارع بناحية أحد، وواديها أحد أودية المدينة المشهورة. فتح الباري: 2/ 506.
(3)
صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة: 186 برقم (933).
(4)
بصرى: بضم الباء مدينة معروفة بالشام، وهي مدينة حوران، بينها وبين دمشق نحو ثلاث مراحل، 140 كم.
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم: 18/ 30، وبلدان الخلافة الشرقية لكي لسترنج، ترجمة بشير فرنيس وكوركس عواد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2:72.
(5)
صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز: 4/ 2227 برقم (2902).
(6)
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم: 18/ 28، والبداية والنهاية لابن كثير: 17/ 328.
(7)
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين: 5/ 314.
(8)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: 2/ 96.