الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: الأمر بالتفكر في آيات الله الكونية
لقد أنعم الله عز وجل على بني آدم بنعم عظيمة سخرها لهم ليعرفوه بها -سبحانه-، فيعبدوه ويوحدوه، ويقوموا بمهمة الخلافة في هذه الأرض، ويحققوا الغاية التي من أجلها خلقهم الله عز وجل. وإن من أعظم هذه النعم نعمة العقل والتفكير التي هي خاصية من خصائص الإنسان التي يتميز بها عن سائر الجمادات والعجماوات.
وقد ورد الأمر بالتفكر في كتاب الله في آيات عديدة
(1)
، سواءً التفكر في الآيات المتلوة، أو الآيات المشاهدة، أو آلاء الله، أو سير الأنبياء مع أقوامهم وعاقبة الفريقين، أو التفكر في الدنيا والآخرة أو غير ذلك.
ونبَّه سبحانه في مواضع كثيرة من القرآن الكريم إلى أن آياته المتلوة والمشاهدة، وآياته في آلائه ونعمه لا ينتفع بها إلا أولو العقول والألباب والتفكير الصحيح؛ فمن ذلك قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
(2)
، وقوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
(3)
، في آيات كثيرة.
والتفكر في آلاء الله والسير المأمور به في القرآن الكريم هو: "سير القلوب والأبدان الذي يتولد عنه الاعتبار، وأما مجرد نظر العين وسماع الأذن، وسير البدن الخالي من التفكر والاعتبار فغير مفيد، ولا موصل إلى المطلوب"
(4)
.
(1)
انظر: إحياء علوم الدين- كتاب التفكر: 4/ 501، ومفتاح دار السعادة: 1/ 279.
(2)
الرعد: 4، النحل: 12، الروم:24.
(3)
الرعد: 3، الروم: 21، الزمر: 42، الجاثية:13.
(4)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان المعروف بتفسير ابن سعدي، اعتنى به سعد بن فواز الصميل، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1: 3/ 1106.
(1)
.
"فالقرآن يحث بهذه الآيات الإنسان على التأمل والنظر في بديع صنع الله في السماء والشمس والقمر والليل والنهار والضحى والظهيرة والأصيل والغروب، وفي الأرض والجبال والبحار والأنهار والسهول والنبات والرياح والأمطار، وخلق الإنسان والحيوان وسائر الكائنات، وأن أحداً لا يمكنه حفظ نظام الكون إلا الله تعالى العلي القدير"
(2)
، قال تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}
(3)
.
فالله عز وجل يدعو عباده إلى التعرف عليه وعلى أسمائه وصفاته وآثارها عن طريقين:
أحدهما: بالنظر في آيات الله المشاهدة في الآفاق والأنفس، وما فيها من العظمة والحكمة والرحمة والإتقان، والتي تدل على خالقها سبحانه وعلى أسمائه وصفاته.
وقد جاء في القرآن الكريم ما لا يقل عن ثمانمائة آية كونية
(4)
، بل أوصلها بعضهم إلى ما يربو على ألف آية
(5)
، وبلغت حسب عد الهيئة العالمية
(1)
النحل: 12.
(2)
آيات الله في الكون - تفسير الآيات الكونية بالقرآن الكريم لعبد الله شحاته، دار نهضة مصر، القاهرة، ط 5: 81 - 82.
(3)
النحل: 17.
(4)
الآيات الكونية في ضوء العلم الحديث: 81، وانظر: نماذج للآيات الكونية في القرآن: آيات الله في الكون: 24 - 37.
(5)
التفسير والمفسرون: 2/ 506.
للإعجاز العلمي في القرآن والسنة بمكة المكرمة 1935 آية و 1744 حديثا
(1)
، بالإضافة إلى آيات أخرى عديدة تقرب دلالاتها من الصراحة
(2)
.
والطريق الثاني: بالنظر في آياته المتلوة في كتابه العزيز.
قال ابن القيم
(3)
رحمه الله في بيان هذا الأمر: "فالطريق الأول: النظر في مفعولاته، والثاني التفكر في آياته وتدبرها، فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته المسموعة المعقولة، فالنوع الأول: كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
(4)
، وقال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}
(5)
، وهو كثير في القرآن.
والثاني: كقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}
(6)
، وقوله:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}
(7)
، وقوله:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}
(8)
، وهو كثير أيضاً"
(9)
.
(1)
انظر: فهرس الآيات الكونية في القرآن الكريم، وفهرس الأحاديث الكونية والطبية.
(2)
قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم بين المؤيد والمعارض: 10 - 11، 13، 99.
(3)
هو شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي ابن قيم الجوزية، من أئمة السنة وأعلام السلف، من مؤلفاته: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، وإعلام الموقعين عن رب العالمين، وزاد المعاد في هدي خير العباد وغيرها، توفي سنة 751.
انظر: ذيل طبقات الحنابلة: 4/ 447، وشذرات الذهب: 6/ 168.
(4)
البقرة: 164.
(5)
آل عمران: 190.
(6)
النساء: 82.
(7)
المؤمنون: 68.
(8)
ص: 29.
(9)
الفوائد لابن القيم، تحقيق: أحمد راتب عرموش، دار النفائس، بيروت، ط 6:31.
ولما سُألت عائشة رضي الله عنها عن أعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: لما كان ليلةٌ من الليالي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي". قُلت: والله إني لأحب قُرْبَكَ، وأحب ما سرك. قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي. قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجْرَهُ
(1)
، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيتهُ، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما راهُ يبكي، قال: يا رسول الله، لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: " أفلا أكون عبداً شكورًا؟ لقد نزلت عليَّ الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}
(2)
"
(3)
.
فالله عز وجل يقول في هذه الآية"تدبروا أيها الناس واعتبروا، ففيما أنشأته فخلقته من السماوات والأرض لمعاشكم وأقواتكم وأرزاقكم، وفيما عقَّبت بينه من الليل والنهار فجعلتهما يختلفان ويعتقبان عليكم، تتصرفون في هذا لمعاشكم، وتسكنون في هذا راحة لأجسادكم، معتبر ومدَّكر، وآيات وعظات"
(4)
.
(1)
مَحْجِرُ العين: ما يبدو من النِقاب، انظر: الصحاح للجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور، دار العلم للملايين، بيروت، ط 4: 2/ 624.
(2)
آل عمران: 190.
(3)
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 3: 2/ 386 برقم (620)، وقال المحقق: إسناده صحيح على شرط مسلم. وانظر: السلسلة الصحيحة: 1/ 147 برقم (68).
(4)
تفسير الطبري: 4/ 260.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " النظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه التفكر والاعتبار مأمور به مندوب إليه"
(1)
.
وبتدبر القرآن الكريم تحصل معرفة الله تعالى، ومعرفة عظيم سلطانه وقدرته، وتتحقق العبودية له وكيفية عبادته سبحانه، فيحصل الخشوع والخضوع والتذلل والرجاء والخوف الخ.
(2)
.
قال ابن كثير
(3)
رحمه الله: " يرشدُ تعالى عباده إلى التفكر في آلائه وما خلق في السماوات والأرض من الآيات الباهرة لذوي الألباب، مما في السماوات من كواكب نيرات، ثوابت وسيارات، والشمس والقمر، والليل والنهار، واختلافهما، وإيلاج أحدهما في الآخر، حتى يطول هذا ويقصر هذا، ثم يقصر هذا ويطول هذا، وارتفاع السماء واتساعها، وحسنها وزينتها، وما أنزل الله منها من مطر فأحيا به الأرض بعد موتها، وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع والأزاهير وصنوف النبات، وما ذرأ فيها من دوابّ مختلفة الأشكال والألوان والمنافع، وما فيها من جبال وسهول وقفار وعمران وخراب، وما في البحر من العجائب والأمواج، وهو مع هذا مسخر مذلل للسالكين، يحمل سفنهم، ويجري بها برفق بتسخير القدير له، لا إله إلا هو،
(1)
مجموع الفتاوى: 15/ 343.
(2)
يونس: 101.
(3)
هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي الشافعي، الإمام الحافظ المحدث المؤرخ، من مؤلفاته: تفسير القرآن العظيم، والبداية والنهاية، واختصار علوم الحديث، توفي عام 774.
انظر: الدرر الكامنة: 1/ 400، وشذرات الذهب: 6/ 232.
ولا رب سواه. وقوله: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} أي وأي شيء تُجدي الآيات السماوية والأرضية، والرسل بآياتها وحججها وبراهينها الدالة على صدقها عن قوم لا يؤمنون، كقوله:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}
(1)
"
(2)
.
فهذه الآية وغيرها كثير تدعو إلى الأخذ بأسباب العلم والإيمان، ومنها: المشاهدة والتأمل والتفكر في هذه المخلوقات العظيمة.
(1)
يونس: 96 - 97.
(2)
تفسير ابن كثير: 2/ 449.