الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أهمية التفكر في آيات الله الكونية
إن المتأمل في أحوالنا اليوم وأحوال الناس بعامة - لا أقول الكفار منهم بل الكثير من المسلمين - يرى البعد الشديد عن التفكير الصحيح النافع الذي يقود صاحبه إلى الخير في الدنيا والآخرة، وإنما نجد أن جل التفكير وقوته وكثافته قد وجه في ما لا ينفع في الآخرة؛ بل فيما يضر صاحبه هنالك من التفكير في شهوات محرمة أو في خواطر وشبهات وأماني باطلة ورديئة.
والموفق من وفقه الله عز وجل فصرف فكره وهمه في معرفة ربه سبحانه، وذكره وشكره وعبادته، والاستعداد للقائه في الدار الآخرة.
فالتفكر في خلق الله تعالى يزيد الإيمان في القلب ويقويه ويرسخ اليقين، ويجلب الخشية لله تعالى وتعظيمه، وكلما كان الإنسان أكثر تفكراً وتأملاً في خلق الله، وأكثر علماً بالله تعالى وعظمته كان أعظم خشية لله تعالى، قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}
(1)
.
ولهذا كان السلف الصالح على جانب عظيم من هذا الأمر فكانوا يتفكرون في خلق الله ويتدبرون آياته، ويحثون على ذلك، يقول أحدهم: ما طالت فكرة امرئ قط إلا فَهِمَ، ولا فهم إلا علم، ولا علم إلا عمل. ويقول الآخر: لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه
(2)
؛ بل قد قال بعضهم: أن السفر في طلب العلم يشمل العلم بآيات الله في أرضه، ففي مشاهدتها فوائد للمستبصر
(3)
.
(1)
فاطر: 28.
(2)
إحياء علوم الدين: 4/ 503.
(3)
المصدر السابق: 2/ 295.
قال ابن سعدي
(1)
رحمه الله: " التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين"
(2)
؛ ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر، وليس كل من تفكر أدرك المعنى المقصود
(3)
.
ولأهمية التفكر في آيات الله الكونية نجد أن الله -تعالى- قد أقسم ببعضها تنبيها لأهميتها ونظامها وبديع صنعتها
(4)
، وهذا في آيات كثيرة.
والتفكر من العبادات القلبية الجليلة، وهو من أفضل أعمال القلب وأنفعها له
(5)
، كما أنه أصل الطاعات ومبدؤها
(6)
. وهو سبيل المرء إلى العمل، وإدراك حقائق الأشياء، بل إن حياة المرء وسعادته تبع لأفكاره.
قال ابن سعدي رحمه الله: " وأعلم أن حياتك تبع لأفكارك، فإن كانت أفكارا فيما يعود عليك نفعه في دين أو دنيا، فحياتك طيبة سعيدة وإلا فالأمر بالعكس"
(7)
.
(1)
هو العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي، الفقيه الأصولي المفسر، من مؤلفاته: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان المعروف بتفسير ابن سعدي، والتوضيح المبين لتوحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية، والدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية وغيرها من الكتب. توفي عام 1376.
انظر: روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين للشيح محمد بن عثمان القاضي، طبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط 2: 1/ 229، وعلماء نجد خلال ثمانية قرون للشيخ عبد الله البسام، دار العاصمة، الرياض، ط 2: 3/ 218.
(2)
تفسير ابن سعدي: 1/ 270.
(3)
المصدر السابق: 1/ 496.
(4)
آيات الله في الكون: 20، وانظر: التفكير فريضة إسلامية لعباس محمود العقاد، ضمن موسوعة عباس محمود العقاد الإسلامية، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1: 5/ 829.
(5)
مفتاح دار السعادة: 1/ 284.
(6)
المصدر السابق: 1/ 183.
(7)
الوسائل المفيدة للحياة السعيدة للشيخ: عبد الرحمن بن سعدي، طبعة الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، ط 4:27.
فإعمال الفكر فيما ينفع ويقرب إلى الله من أهم المطالب الدينية. وقد مدح الله عباده الذين يذكرونه قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، قائلين: {
…
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
(1)
.
ولذلك نجد أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أعظم عباد الله تفكرا في آيات الله ومخلوقاته، ونبينا صلى الله عليه وسلم أكملهم في ذلك حيث كان يتفكر في آيات الله ومخلوقاته.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بات عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم من آخر الليل فخرج فنظر إلى السماء، ثم تلا هذه الآية في سورة آل عمران قال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
(2)
، ثم رجع إلى البيت فتسوك وتوضأ، ثم قام فصلى، ثم اضطجع، ثم قام فخرج فنظر إلى السماء فتلا هذه الآية، ثم رجع فتسوك فتوضأ ثم قام فصلى"
(3)
.
قال النووي
(4)
رحمه الله: " فيه أنه يستحب قراءتها عند الاستيقاظ في الليل مع
(1)
آل عمران: 191.
(2)
آل عمران: 190 - 191.
(3)
صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة الإسلامية، استانبول، ط 1: كتاب الطهارة، باب السواك: 1/ 221 برقم (256).
(4)
هو أبو زكريا يحيى بن شرف مُري بن حسن بن حسين الحزامي النووي، أحد أعلام الشافعية، من مؤلفاته: المجموع شرح المهذب، شرح صحيح مسلم، رياض الصالحين، توفي عام 676.
انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي: 4/ 1470، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي، تحقيق: عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناحي، دار هجر، القاهرة، ط 2: 8/ 395.
النظر إلى السماء لما في ذلك من عظيم التدبر، وإذا تكرر نومه واستيقاظه وخروجه استحب تكريره قراءة هذه الآيات، كما ذكر في الحديث والله سبحانه وتعالى أعلم"
(1)
.
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بالتفكر فيقول: " تفكروا في خلق الله، ولا تتفكروا في الله "
(2)
.
وكان الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من التابعين يمتثلون هذا، وينظرون في ملكوت الله نظر تفكر واعتبار، ويتفكرون في آيات الله المشاهدة وآياته المتلوة، والتي تتضمن آيات الشرعية وآياته الكونية.
وقد وردت الآثار الكثيرة عنهم في ذلك، فقد سئلت أم الدرداء رضي الله عنها عن أفضل عبادة أبي الدرداء رضي الله عنه قالت:" التفكر والاعتبار"
(3)
.
(1)
شرح النووي على صحيح مسلم، دار الكتاب العربي، بيروت، 1407: 2/ 145.
(2)
رواه الطبراني في الأوسط، تحقيق: طارق بن عوض الله وعبد المحسن الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، 1415: 6/ 250 برقم (6319)، والبيهقي في شعب الإيمان، تحقيق: عبد العلي حامد، الدار السلفية، بومباي، ط 1: 1/ 358 برقم (119)، من حديث ابن عمر وقال:" هذا إسناد فيه نظر". قال العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في إحياء علوم الدين من أخبار- المطبوع مع إحياء علوم الدين-: 4/ 502: قلت: فيه الوازع بن نافع متروك، وأخرجه أبو نعيم في الحلية بالمرفوع منه بإسناد ضعيف ورواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب من وجه أخر أصح منه. أ. هـ. وقال السخاوي في المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، تحقيق: محمد عثمان الخشت، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 4 - لما ذكر أسانيد الحديث-: 191 برقم (342): وأسانيدها ضعيفة؛ لكن اجتماعها يكتسب قوة، والمعنى صحيح. وقال الألباني في السلسلة الصحيحة 4/ 395 برقم (1788): وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه حسن عندي والله أعلم.
(3)
كتاب الزهد للإمام أحمد، تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1:198.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: " تفكر ساعة خير من قيام ليلة"
(1)
، وعن الحسن البصري
(2)
رحمه الله: " أفضل العمل الورع والتفكر"
(3)
، وقال عامر بن قيس رضي الله عنه: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر
(4)
.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: "ركعتان مقتصدتان في تفكر، خير من قيام ليلة والقلب ساه"
(5)
.
وقال ابن رجب
(6)
رحمه الله: " ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله في رجل أكل فشبع وأكثر الصلاة والصيام، ورجل أقل الأكل فقلت نوافله، وكان أكثر فكرة أيهما أفضل؟ فذكر ما جاء في الفكر: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، قال: فرأيت هذا عنده أكثر -يعني الفكر- وهذا يدل على تفضيل قراءة التفكر على السرعة، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، وهو المنصوص صريحا عن الصحابة والتابعين"
(7)
.
(1)
المصدر السابق: 202.
(2)
هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن بن يسار البصري، إمام حافظ مفسر، من أئمة التابعين، توفي عام 110.
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ط 2: 5/ 156، وسير أعلام النبلاء: 4/ 563.
(3)
إحياء علوم الدين: 1/ 220، وروضة العقلاء ونزهة الفضلاء لأبي حاتم محمد بن حبان البستي، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار المغني، الرياض، ط 1:301.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 448.
(5)
مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي، أختصره أحمد بن علي المقريزي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2:149.
(6)
هو أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي الحنبلي، من مؤلفاته: فتح الباري شرح صحيح البخاري، وجامع العلوم والحكم، والتخويف من النار وغيرها، توفي سنة 795.
انظر: الدرر الكامنة: 2: 321، وشذرات الذهب: 6/ 230.
(7)
تقرير القواعد وتحرير الفوائد لعبد الرحمن بن أحمد بن رجب، تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن القيم، الدمام، ط 1: 1/ 134.
ومع هذا كله فقد أخبر الله عز وجل عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آياته، ودلائل توحيده كما قال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}
(1)
.
قال ابن جرير
(2)
رحمه الله: " يقول -جل وعز-: وكم من آية في السماوات والأرض لله، وعبرةٍ وحجةٍ، وذلك كالشمس والقمر والنجوم ونحو ذلك من آيات السماوات، وكالجبال والبحار والنبات والأشجار وغير ذلك من آيات الأرض، {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا}، يقول: يعاينونها فيمرُّون بها معرضين عنها لا يعتبرون بها، ولا يفكرون فيها وفيما دلت عليه من توحيد ربها، وأن الأولوهة لا تنبغي إلا للواحد القهار الذي خلقها وخلق كلَّ شيء فدبَّرها"
(3)
.
وقال تعالى في ذم الغافلين عن آيات الله: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
(4)
.
قال ابن كثير رحمه الله: " يقول الله تعالى مخبرًا عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة ولا يرجون في لقائه شيئا، ورضوا بهذه الحياة الدنيا واطمأنت إليها نفوسهم.
(1)
يوسف: 105.
(2)
هو أبو جعفر محمد بن يزيد بن كثير الطبري، الإمام المفسر، أحد أعلام السلف، من مؤلفاته: جامع البيان في تأويل آي القرآن، وتاريخ الأمم والملوك، وصريح السنة، وغيرها، توفي سنة 310.
انظر: سير أعلام النبلاء: 14/ 267، شذرات الذهب: 2/ 260.
(3)
تفسير الطبري: 13/ 92.
(4)
يونس: 7 - 8.
قال الحسن رحمه الله: والله ما زينوها ولا رفعوها حتى رضوا بها
(1)
، وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها، والشرعية فلا يأتمرون بها، فإن مأواهم يوم معادهم النار جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام، مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر"
(2)
.
وعلى هذا فالتفكر دعوة قرآنية، وسنة نبوية، وآيات القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم مليئة بالدعوة إلى التفكر والتدبر في الآيات المسطورة، والآيات المنظورة، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
(3)
.
(1)
تفسير القرآن العظيم مسنداً عن رسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد الرازي، تحقيق: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة، ط 3.: 6/ 1928
(2)
تفسير ابن كثير: 2/ 422.
(3)
النحل: 44.