الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: الآيات الكونية وتثبيت العقيدة
إن العقيدة الصحيحة هي أعظم ما جاءت به الرسل، وكل خير في الدنيا والآخرة متوقف على تحقيقها كما قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(1)
، لذا عني الكتاب الكريم والسنة المطهرة بتثبيتها في النفوس بالدلائل والبراهين العقلية والنقلية
(2)
.
وانتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بعد أن مكث يبلغ رسالة ربه ثلاثا وعشرين سنة، منها ثلاث عشرة سنة بمكة، كانت مهمته الأولى الدعوة إلى العقيدة الصحيحة وتثبيتها، وما يتصل منها بالله سبحانه وتعالى أو التدليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما يتصل منها باليوم الآخر.
ولذلك نجد أن غالب السور المكية تناولت البراهين والأدلة ليقتنع بها ذوو العقول في تثبيت العقيدة.
(3)
.
(1)
النحل: 97.
(2)
انظر: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم: في بيان أن القرآن جمع بين الأدلة العقلية والنقلية، والاستدلال بالآيات الكونية على التوحيد وإفراد الله بالعبادة مما فيه تثبيت للمؤمنين: 2/ 460 - 494، 684، وحماية المجتمع المسلم من الانحراف الفكري د. عبد الله الزايدي، مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، العدد (77):239.
(3)
الضحى: 1 - 5.
فأقسم الله سبحانه بهاتين الآتين - الضحى والليل- وهذا دليل على قدرة خالقها، وربط بين آيات الكون وبين التأكيد على أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يدْعه ربه، ولم يجفوه، بل بين أنه ربه
(1)
، وفي هذا تثبيت له.
(2)
.
قال ابن سعدي رحمه الله: " يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} أي شك واشتباه، وعدم علم بوقوعه، مع أن الواجب عليكم أن تصدقوا ربكم، وتصدقوا رسله في ذلك، ولكن إذا أبيتم إلا الريب، فهاكم دليلين عقليين تشاهدونهما، كل واحد منهما، يدل دلالة قطعية على ما شككتم فيه، ويزيل عن قلوبكم الريب.
أحدهما: الاستدلال بابتداء خلق الإنسان، وأن الذي ابتدأه سيعيده
(3)
.
والدليل الثاني: إحياء الأرض بعد موتها"
(4)
، "وأن الذي أحياها سيحي الموتى، كما أنه قد قرر ذلك بقدرته على ما هو أكبر من ذلك، وهو خلق السماوات والأرض، والمخلوقات العظيمة، فمتى أثبت المنكرون ذلك - ولن يقدروا على إنكاره - فلأي شيء يستبعدون إحياء الموتى؟ "
(5)
.
(1)
تفسير ابن كثير: 4/ 558.
(2)
الحج: 5.
(3)
انظر: تفسير القرطبي: 12/ 6.
(4)
تفسير ابن سعدي: 3/ 1090 - 1091 باختصار.
(5)
القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن لعبد الرحمن بن سعدي، اعتنى به خالد بن عثمان السبت، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1:30.
ولقد تنوعت أساليب القرآن في تثبيت العقيدة من خلال الآيات الكونية، من ذلك:
أولاً: استخدم القرآن السؤال كطريقة للإقناع والوصول إلى الحق الذي هو التوحيد ونبذ الباطل الذي هو الشرك، مستدلاً على ذلك بذكر بعض الآيات الكونية، فقال تعالى منكرا على الكفار شركهم بالله في عبادته في الوقت الذي يقرون فيه بربوبيته
(1)
(2)
(3)
، وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}
(4)
.
ثانياً: تصديق خبر الأنبياء بحصول بعض الآيات الكونية.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشقتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اشهدوا". وفي حديث أنس رضي الله عنه أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر
(5)
.
ولذلك ترى المشركين يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم تصديق خبره ببعض الآيات الكونية، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا
(1)
السؤال في القرآن الكريم وأثره في التربية والتعليم لأحمد بن عبد الفتاح ضليمي، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، العدد (111):38.
(2)
العنكبوت: 61.
(3)
العنكبوت: 63.
(4)
الزخرف: 87.
(5)
صحيح مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب انشقاق القمر: 4/ 2158 - 2159 برقم (2800، 2802).
الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}
(1)
.
قال ابن جرير رحمه الله في تفسير الآية: " وقالت المشركون من قريش: هلا أنزل على محمد آية من ربه، تكون حجة لله علينا، كما جعلت الناقة لصالح، والمائدة آية لعيسى؟ قل يا محمد: إنما الآيات عند الله، لا يقدر على الإتيان بها غيره {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} وإنما أنا نذير لكم، أنذركم بأس الله وعقابه على كفركم برسوله، وما جاءكم به من عند ربكم {مُبِينٌ} يقول: قد أبان لكم إنذاره"
(2)
، ثم إن الله عز وجل " لو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى سؤالكم؛ لأن ذلك سهل عليه، يسير لديه، ولكنه يعلم منكم أنما قصدكم التعنت والامتحان، فلا يجيبكم إلى ذلك"
(3)
(4)
.
ومن ذلك المجلس الذي جلس فيه المشركون يطلبون الآيات على وجه العناد والكفر، قال تعالى:{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}
(5)
.
(1)
العنكبوت: 50.
(2)
تفسير الطبري: 21/ 11.
(3)
تفسير ابن كثير: 3/ 428.
(4)
الإسراء: 59.
(5)
الإسراء: 90 - 93.
وهذا المجلس الذي اجتمع هؤلاء له، "لو علم الله منهم أنهم يسألون ذلك استرشادًا لأجيبوا إليه، ولكن علم أنهم إنما يطلبون ذلك كفرًا وعنادًا"
(1)
.
ثالثاً: بيان عبودية جميع الكائنات لله تعالى بما في ذلك الآيات الكونية، فلا يستوحش السائر إلى الله من قلة السالكين على الطريق فإن جميع المخلوقات العلوية والسفلية تسجد وتسبح لله عز وجل إلا من حق عليه العذاب، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}
(2)
.
رابعاً: بيان تفرد الله عز وجل بخلقها وحكمته وتصرفه فيها، فلله ملك السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، يتصرف فيهما بما شاء من التصاريف القدرية والشرعية، والمغفرة والعقوبة، بحسب ما اقتضته حكمته ورحمته الواسعة ومغفرته
(3)
.
قال ابن سعدي رحمه الله في الطرق الكلية إلى العلم بأنه لا إله إلا الله، وهي من أهم الأمور في تثبيت العقيدة، وأنها ثمان طرق وذكر منها:" الثاني: العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير، فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية".
ثم قال: "الثامن: ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية، التي تدل على التوحيد أعظم دلالة، وتنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته، وبديع حكمته، وغرائب خلقه"
(4)
.
(1)
معالم التنزيل لأبي محمد الحسين البغوي، تحقيق: محمد النمر وآخرون، دار طيبة، الرياض، ط 1: 2/ 714 - 717، وانظر: تفسير ابن كثير: 3/ 67.
(2)
الحج: 18.
(3)
انظر: تفسير البغوي: 3/ 254 - 255، تفسير ابن كثير: 3/ 263 - 264، تفسير ابن سعدي: 1/ 418.
(4)
تفسير ابن سعدي: 4/ 1658.
خامساً: إجابة الله عز وجل لسؤال أولياءه عن طلبهم بعض الآيات الكونية.
فإن مما يثبت عقيدة المؤمن أن يريه الله عز وجل بعض آياته الكونية، وقد سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يريه آية من آياته الكونية، يريد أن يطمئن قلبه بها، كما أخبر الله عنه: قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
(1)
.
فالمسألة من قبل إبراهيم عليه السلام لم تعرض من جهة شك، لكن من قبل زيادة العلم؛ فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيد الاستدلال، وتوارد الأدلة اليقينية مما يزداد به الإيمان ويكمل به الإيقان
(2)
.
(3)
.
قال ابن كثير رحمه الله: " {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} إذا شاهدنا نزولها رزقًا لنا من السماء {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} أي ونزداد إيمانًا بك وعلمًا برسالتك، {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي ونشهد أنها آية من عند الله، ودلالة وحجة
(1)
البقرة: 260.
(2)
أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي تحقيق: محمد بن سعد آل سعود، جامعة أم القرى، مكة، ط 1: 3/ 1546، ، شرح السنة للبغوي: 1/ 114 - 115، تفسير ابن سعدي: 4/ 2017.
(3)
المائدة: 112 - 114.
على نبوتك وصدق ما جئت به.
وقوله: {وَآيَةً مِنْكَ} أي دليلا تنصبه على قدرتك على الأشياء، وعلى إجابتك دعوتي، فيصدقوني فيما أبلغه عنك"
(1)
.
سادساً: سرد الآيات الكونية والإشارة إلى الاعتبار بها.
فقراءة الآيات التي تتحدث عن إثبات ربوبية الله وألوهيته، وتؤيد ذلك بالأدلة العقلية، وتؤكده بسرد الآيات الكونية مما يزيد الثبات والإيمان، ويدفع الوسوسة والشكوك والأوهام.
ولذلك يرشد الله تعالى إلى الاعتبار بما في الآفاق والأنفس من الآيات المشاهدة كخلق السماوات والأرض وما فيهما، وأن كل ذلك دال على حدوثها، وعلى وجود خالقها وحكمته
(2)
، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
(3)
، وقال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}
(4)
. ولما سمع هذه الآية جبير بن مطعم رضي الله عنه قبل إسلامه وما تضمنته من بليغ الحجة، قال: كاد قلبي أن يطير
(5)
، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبه رضي الله عنه
(6)
.
(1)
تفسير ابن كثير: 2/ 120، وانظر: تفسير القرطبي: 6/ 365، وتفسير ابن سعدي: 1/ 457.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى: 3/ 331 - 332، وتفسير ابن كثير: 3/ 419، ونظم الدرر في تناسب الآيات والسور لأبي الحسن إبراهيم البقاعي، تحقيق: محمد بن عمران الأعظمي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط 1، مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية: 18/ 64، 20/ 223، 231.
(3)
العنكبوت: 19.
(4)
الطور: 35.
(5)
صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة الطور: 954 برقم (4854).
(6)
صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدراً: 762 برقم (4023).