الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: العلم بوقت حدوث هذه الآيات الكونية وأسبابها الحسية
لا ينافي كونها آية من آيات الله
لا بد من التفريق بين ما يكون علماً قائماً على أصول مدروسة ثابتة، وبين ما يكون مجرد أوهام وظنون كاذبة. ولهذا التفريق أهمية في معرفة الحق من الباطل، وخصوصاً في هذا العصر إذا علمنا أن فريقاً من المنجمين يموهون على الجهال بأمر العلم بوقت حدوث بعض الآيات الكونية، ويخبرونهم بوقته، فإذا رأوا صدقهم في هذا ظنوا أن قضاياهم وأحكامهم النجومية من السعد والنحس، والظفر والغلبة، وما شابه ذلك من جنس توقع الكسوف، فيصدقهم الناس بكل ما يخبرون به، فيكذبون معه مائة كذبة، والمبطل لا يستطيع غالباً نشر باطله إلا بشوب من الحق لأن الباطل المجرد مكشوف فلا بد من التغطية والتعمية
(1)
، ولم يعلم هؤلاء أن الإخبار عن هذا يختلف عن الإخبار عن الآخر.
ولحدوث الآيات الكونية أسباب حسية وأسباب شرعية، ولا تعارض بينهما، ولا بين معرفة وقوع الآية الكونية وبين كونها آية من آيات الله، فمعرفة وقوع الآية له أسباب حسية يمكن معرفتها، كمعرفة نزول المطر، والكسوف والخسوف، فهي ليست من الأمور الغيبية بالنسبة لكل أحد، بل غيبي بالنسبة لمن لا يعرف علم حساب سير الكواكب، وليس بغيبي بالنسبة لمن يعرف ذلك العلم؛ لكونه يستطيع أن يعرفه بسبب عادي، وهو هذا العلم، ولا ينافي ذلك كونها آية من آيات الله تعالى، التي يخوف بها عباده ليرجعوا إلى ربهم،
(1)
انظر: مجموع الفتاوى: 35/ 190.
ويستقيموا على طاعته
(1)
.
فالله عز وجل قدر هذه الآية الكونية، وقدر سيرها وانتظامها واجتماعها في وقت معين، ويحدث بها من التغيرات ما يشاء، ولا يشركه في ذلك أحد، مما يدل على أنها آية من آيات الله، فإذا رأى الناس هذه الآيات وتغيراتها، عرفوا قدرة من خلقها وسيّرها، فعبدوه وحده، وخافوه دون غيره، واستحضروا عظمته وجلاله وكبرياءه
(2)
.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة
(3)
في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه، فإذا أمطرت السماء سري عنه
(4)
، فعرفته عائشة رضي الله عنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وما أدري لعله كما قال قوم: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ}
(5)
…
الآية"
(6)
.
لكن ينبغي عدم الجزم بوقوع الآية
(7)
؛ لان من يخبر بوقوع الآية الكونية لا يكون مصيباً في جميع الأوقات، بل قد يخطئ في حسابه، ولا يلزم تصديقه على كل حال
(8)
.
(1)
انظر: فتاوى اللجنة الدائمة: 8/ 322.
(2)
انظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين: 16/ 299، 342 - 347.
(3)
المخيلة: موضع الخيل، والمراد هنا السحابة الخليقة بالمطر. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير المبارك ابن محمد الجزري، تحقيق: طاهر الزاوي ومحمود الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت: 2/ 93.
(4)
أي: كشف عنه الخوف. المصدر السابق: 2/ 364.
(5)
الأحقاف: 24.
(6)
صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} : 616 برقم (3206).
(7)
انظر: مجموع الفتاوى: 24/ 258، ومجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم، جمع: الشيخ عبد الرحمن بن قاسم، ط 2: 1/ 168 - 170.
(8)
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري لعبد الله بن محمد الغنيمان، دار العاصمة، الرياض، ط 2: 1/ 100.
والله تعالى هو المتفرد بعلم الغيب والجزم بوقوع شيء غائب على سبيل التحقيق من ادعاء علم الغيب الذي نهى الله عنه، كما في قوله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}
(1)
.
قال القرطبي
(2)
رحمه الله: " قال علماؤنا: أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتاب الله، إلا من اصطفى من عباده فمن قال: إنه ينزل الغيث غداً وجزم به فهو كافر، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا"
(3)
؛ لادعائه لعلم استأثر الله به، أما إذا لم يجزم بذلك، وجعل هذا الحكم بحسب العادة والتجربة فلا يكفر ولا يفسق، بل يجوز ذلك؛ لأن الله تعالى أجرى العوائد، وجعل لبعض المغيبات علامات تدل عليها، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
(4)
.
(5)
.
(1)
الأنعام: 59.
(2)
هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي المالكي المفسر، من مصنفاته: الجامع لأحكام القرآن، والتذكرة بأمور الآخرة، والكتاب الأسنى في أسماء الله الحسنى، وغيرها من الكتب، توفي عام 671.
انظر: الديباج المذهب لمعرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون المالكي، تحقيق: محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث، القاهرة، ط 2: 2/ 243، وشذرات الذهب: 7/ 584.
(3)
تفسير القرطبي: 7/ 2.
(4)
الأعراف: 57.
(5)
الروم: 46.
فالله تعالى جعل هذا النوع من الرياح علامة على المطر، وأرشدنا إلى ذلك.
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه حين استسقى به: يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم بقي من نوء الثريا؟ فقال العباس: العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعاً بعد سقوطها، فما مضت سابعة حتى مطروا، فقال عمر: الحمد لله، هذا بفضل الله ورحمته
(1)
.
قال القرطبي -رحمه الله تعالى-: "وكأنّ عمر رضي الله عنه قد علم أن نوء الثريا وقت يرجى فيه المطر ويؤمل فسأله عنه: أخرج أم بقيت منه بقية؟ "
(2)
.
(1)
السنن الكبرى لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، دار المعرفة، بيروت، 1413، مصورة عن دائرة المعارف العثمانية: 3/ 359، وتفسير الطبري: 27/ 243، قال الذهبي: حسن غريب، انظر: المهذب في اختصار السنن الكبرى للبيهقي، أختصره محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق: ياسر بن إبراهيم، دار الوطن، الرياض: 3/ 1286.
(2)
تفسير القرطبي: 17/ 230.