الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس: عبودية الكائنات لرب العالمين
الله عز وجل هو خالق كل شيء وربه ومليكه، وهذه الربوبية للمخلوقاته على نوعين: ربوبية عامة، وربوبية خاصة.
قال ابن سعدي رحمه الله في بيان أنواع ربوبية الله لمخلوقاته: " كثر في القرآن ذكر ربوبية الرب لعباده ومتعلقاتها ولوازمها. وهي على نوعين:
ربوبية عامة: يدخل فيها جميع المخلوقات: برها وفاجرها؛ بل مكلفوها وغير المكلفين، حتى الجمادات. وهي أنه تعالى المنفرد بخلقها ورزقها وتدبيرها، وإعطائها ما تحتاجه أو تضطر إليه في بقائها، وحصول منافعها ومقاصدها فهذه التربية لا يخرج عنها أحد.
والنوع الثاني: في تربيته لأصفيائه وأوليائه، فيربيهم بالإيمان الكامل، ويوفقهم لتكميله ويُكملهم بالأخلاق الجميلة، ويدفع عنهم الأخلاقَ الرذيلة، وييسرهم لليسرى ويجنبهم العسرى. وحقيقتها: التوفيق لكل خير، والحفظ من كل شر، وإنالة المحبوبات العاجلة والآجلة، وصرف المكروهات العاجلة والآجلة.
فحيث أُطلقت ربوبيته تعالى فإن المراد بها المعنى الأول، مثل قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(1)
، وقوله تعالى:{وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}
(2)
، ونحو ذلك. وحيث قُيدت بما يحبه ويرضاه، أو وقع السؤال بها من الأنبياء وأتباعهم، فإن المراد بها النوع الثاني. وهو متضمن للمعنى
(1)
الفاتحة: 2.
(2)
الأنعام: 164.
الأول وزيادة. ولهذا تجد أسئلة الأنبياء وأتباعهم في القرآن بلفظ الربوبية غالباً، فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة"
(1)
.
هذا من جهة ربوبية الله لمخلوقاته، أما من جهة عبودية المخلوقات لله عز وجل فهي أيضاً على نوعين: عبودية عامة، وعبودية خاصة.
قال ابن القيم رحمه الله في بيان انقسام العبودية إلى عامة وخاصة: " العبودية نوعان: عامة وخاصة، فالعبودية العامة عبودية أهل السماوات والأرض كلهم لله برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم فهذه عبودية القهر والملك، قال تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}
(2)
، فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم
(3)
…
وأما النوع الثاني فعبودية الطاعة والمحبة وإتباع الأوامر، قال تعالى:{يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}
(4)
(5)
…
فالخلق كلهم عبيد ربوبيته، وأهل طاعته وولايته هم عبيد إلهيته"
(6)
.
فدل ما سبق على أن للعبودية معنى عاما وهو: القهر والتسخير، وهو
(1)
القواعد الحسان: 83، وانظر: العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2: 7 - 52.
(2)
مريم: 88 - 93.
(3)
انظر: العبودية: 104.
(4)
الزخرف: 68.
(5)
الزمر: 17 - 18.
(6)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن القيم، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء: 1/ 105.
يشمل جميع الكائنات كلها، ومعنى خاصا وهو: الطاعة والمحبة والإتباع، وهو يشمل أهل طاعة الله وولايته.
وهذا الكون الواسع بما فيه من الكائنات كلها يخضع لخالقه وباريه ويؤدي عبوديته له سبحانه. وقد جاء في النصوص الشرعية ما يدل على دخول الكائنات - غير الإنسان- في المعنى الخاص للعبودية، كالطاعة والسجود والتسبيح والاستغفار والإسلام والإشفاق والخشوع وسماع الأذان وشهادتها للمؤذن يوم القيامة وغيرها
(1)
، وذلك بما أودعه الله فيها من الإدراك والتمييز.
(2)
.
قال ابن جرير رحمه الله: " قال الله للسماء والأرض: جيئا بما خلقت فيكما، أما أنت يا سماء فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم، وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات، وتشقَّقِي عن الأنهار {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} جئنا بما أحدثت فينا من خلقك، مستجيبين لأمرك لا نعصي أمرك"
(3)
.
وقال تعالى مخبراً عن سجود الكائنات: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ
(1)
انظر: رسالة في قنوت الأشياء كلها لله تعالى لشيخ الإسلام ابن تيمية، ضمن جامع الرسائل لابن تيمية، المجموعة الأولى، تحقيق: محمد رشاد سالم، دار العطاء، الرياض، ط 1: 3 وما بعدها، وعبودية الكائنات لرب العالمين لفريد إسماعيل التوني، مكتبة الضياء، جدة، ط 1: 244 وما بعدها.
(2)
فصلت: 11.
(3)
تفسير الطبري: 24/ 114، وانظر: تفسير ابن كثير: 4/ 101.
مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}
(1)
.
فأثبت الله السجود لهذه الكائنات، ولكن لا نعلم كيفيته، ولا يلزم أن سجودها على سبعة أعضاء كسجود المسلمين، إذ سجود كل شيء بحسبه.
قال ابن كثير رحمه الله: " يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها وسجود كل شيء مما يختص به"
(2)
.
(3)
.
قال ابن كثير رحمه الله: " يقول تعالى: تقدسه السماوات السبع والأرض ومن فيهن، أي من المخلوقات، وتنزهه وتعظمه وتجِّلّه وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته.
وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أي وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس؛ لأنها بخلاف لغتكم. وهذا عام في الحيوانات والنبات والجماد
(4)
،
…
كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل
(5)
"
(6)
.
(1)
الحج: 18.
(2)
تفسير ابن كثير: 3/ 220.
(3)
الإسراء: 44.
(4)
انظر: رسالة في قنوت الأشياء كلها لله: 1/ 4، وعبودية الكائنات لرب العالمين:234.
(5)
صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة: 685 برقم (3579).
(6)
تفسير ابن كثير: 3/ 45 باختصار.
وأما الإسلام، فقد قال تعالى:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}
(1)
.
قال ابن تيمية رحمه الله: " فذكر إسلام الكائنات طوعا وكرها لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام، سواء أقر المقر بذلك أو أنكره، وهم مدينون له مدبرون، فهم مسلمون له طوعا وكرها ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين ومليكهم يصرّفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب مصنوع مفطور فقير محتاج معبّد مقهور، وهو سبحانه الواحد القهار الخالق البارئ المصور"
(2)
.
وأما القنوت، فقال تعالى:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}
(3)
.
والمقصود أن هذه الآيات تؤكد أن جميع المخلوقات، الحيوانات منها والنباتات، ناطقها وجامدها، تسبح الله وتمجده وتقدسه وتصلي له وتوحده
(4)
.
وهذه العبادة من هذه المخلوقات آية من آيات الله العظيمة حين يتصور القلب أن كل حصاة وكل حجر، وكل حبة وكل ورقة، وكل زهرة وكل ثمرة، وكل نبتة وكل شجرة، وكل حيوان وكل إنسان، وكل دابة على الأرض وكل سابحة في الماء والهواء، وكل سكان الأرض والسماء، كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه.
(1)
آل عمران: 83.
(2)
العبودية: 104.
(3)
الروم: 26.
(4)
انظر: تفسير ابن كثير: 4/ 302، 330، 344، 357، 363، 374، ورسالة في قنوت الأشياء كلها لله تعالى لابن تيمية:3.
ولقد أنكر هذه العبودية طائفة من الناس بحجة أن هذه الكائنات لا تعقل ولا تدرك وليس لها أي عبودية لله عز وجل، وما ورد في النصوص من سجود هذه الكائنات أو تسبيحها أو نحو ذلك اضطر إلى القول فيها بالتأويل
(1)
أو المجاز
(2)
. فقالوا عن سجود الشمس في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}
(3)
: أن الذي يسجد هو الملك الموكل بها، وتأويل السجود بدلالة تلك الموجودات على أنها مسخرة بخلق الله، فأستعير السجود لحالة التسخير والانقياد.
وعن تسبيح الجبال في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}
(4)
، أن الجبال لم تسبح ولم تردد مع داود عليه السلام، إنما الأمر أن الجبال كانت تمشي مع داود عليه السلام فكان كل من رآها كذلك سبح، إلى غير ذلك من التأويلات الباطلة
(5)
.
(1)
المراد به هنا: صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح. انظر: التعريفات: 112، ومجموع الفتاوى: 5/ 35، 13/ 288، ومختصر الصواعق المرسلة لابن القيم اختصره محمد بن الموصلي، تحقيق: الحسن العلوي، دار أضواء السلف، الرياض، ط 1: 1/ 22.
(2)
المجاز: اسم لما أريد به غير ما وضع له لمناسبة بينهما. انظر: التعريفات: 283، أسرار البلاغة في علم البيان للجرجاني، تحقيق: محمد رشيد رضا وأسامة صلاح الدين منيمة، دار إحياء العلوم، بيروت، ط 1: 437 - 438، ومختصر الصواعق المرسلة: 2/ 690.
(3)
الحج: 18.
(4)
سبأ: 10.
(5)
انظر: زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 4، : 4/ 319، 453 - 454، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بتفسير البيضاوي، تحقيق: محمد المرعشلي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1: 4/ 69، 243، ومفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، تحقيق: صفوان داودي، دار القلم، دمشق، ط 2: 393، 396.
والقول بالمجاز وتأويل النصوص الشرعية على غير مرادها مخالف لهدي السلف الصالح بل فيه محادة لله تعالى ورسوله في نفي آيات الله تعالى المنزلة وتعطيل معناها. ومخالف لما يجب أن يكون عليه المؤمنون تجاه النصوص الشرعية، حيث إنهم مأمورون بالتسليم لها والإيمان بها وعدم الخوض في الكيفية ما دام قد ثبت صحة النص، قال تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
(1)
(2)
. والآيات في هذا المعنى كثيرة.
قال البغوي
(3)
رحمه الله: " ومذهب أهل السنة أن لله علما في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء لا يقف عليه غيره، ولها صلاة وتسبيح وخشية كما قال عز وجل:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}
(4)
(5)
، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي
(1)
النور: 51.
(2)
الأحزاب: 36.
(3)
هو أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي، من مؤلفاته: معالم التنزيل، وشرح السنة، والأنوار في شمائل النبي المختار، توفي سنة 516.
انظر: سير أعلام النبلاء: 19/ 439، وشذرات الذهب: 4/ 48.
(4)
الإسراء: 44.
(5)
النور: 41.
السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}
(1)
، فيجب على المرء الإيمان به ويكل علمه إلى الله تعالى"
(2)
.
وقال ابن تيمية رحمه الله في الرد على من فسر السجود والتسبيح بنفوذ مشيئة الرب وقدرته فيها ودلالتها على الصانع فقط: " وأما تفسير سجودها وتسبيحها بنفوذ مشيئة الرب وقدرته فيهما ودلالتها على الصانع فقط فالاقتصار على هذا باطل؛ فإن هذا وصف لازم دائم لها لا يكون في وقت دون وقت، وهو مثل كونها مخلوقة محتاجة فقيرة إلى الله تعالى وعلى هذا فالمخلوقات كلها لا تزال ساجدة مسبحة، وليس المراد هذا فإنه قال تعالى:{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ}
(3)
. وقال: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}
(4)
، فقد أخبر سبحانه وتعالى عنه أنه يعلم ذلك، ودلالتها على الرب يعلمه عموم الناس"
(5)
.
فبيّن رحمه الله: " أن دلالتها على الصانع فقط والاقتصار عليه باطل، وذلك لأن الدلالة لا تكون في وقت دون وقت، فإن الله أخبر عن الجبال أنها تسبح مع داود عليه السلام بالعشي والإشراق، ولو كان المراد الدلالة على الصانع لكان ذلك في كل وقت"
…
ثم ذكر رحمه الله أن الله ذكر أن سجودها يكون طوعاً وكرهاً، ولو كان متعلقاً بانفعالها لمشيئة الرب وقدرته فإن ذلك لا ينقسم إلى طوع وكره، فقال:
(1)
الحج: 18.
(2)
تفسير البغوي: 1/ 66.
(3)
ص: 18 - 19.
(4)
النور: 41.
(5)
رسالة في قنوت الأشياء كلها لرب العالمين: 1/ 43.
"وأيضا فإنه قسم السجود إلى طوع وكره، وانفعالها لمشيئة الرب وقدرته لا ينقسم إلى طوع وكره، ولا يوصف ذلك بطوع منها ولا كره؛ فإن دليل فعل الرب فيها ليس هو فعل منها ألبتة.
والقرآن يدل على أن السجود والتسبيح أفعال لهذه المخلوقات، وكون الرب خالقا لها إنما هو كونها مخلوقة للرب ليس فيه نسبة أمر إليها، يبين ذلك أنه خص الظل بالسجود بالغدو والآصال، والظل متى كان وحيث كان مخلوق مربوب"
(1)
.
ثم بيّن رحمه الله أن كونها ساجدة مسبحة" آية دالة وشاهدة للخالق تعالى بصفاته لكونها مفعولة له، وهذا معنى ثابت في المخلوقات كلها لازم لها، وهي آيات للرب بهذا الاعتبار، وهي شواهد ودلائل وآيات بهذا الاعتبار؛ لكن ذاك معنى آخر، كما يفرق بين كون الإنسان مخلوقا وبين كونه عابدا لله، فهذا غير هذا، هذا يتعلق بربوبية الرب له، وهذا يتعلق بتألهه وعبادته للرب"
(2)
.
وقال أيضاً في الرد على من قال يلزم لسجودها أن يكون لها سبعة أعضاء، ووضع الجبهة على الأرض: " ولا يجب أن يكون سجود كل شيء مثل سجود الإنسان على سبعة أعضاء ووضع جبهة في رأس مدور على التراب؛ فإن هذا سجود مخصوص من الإنسان ومن الأمم من يركع ولا يسجد، وذلك سجودها كما قال تعالى:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ}
(3)
، وإنما قيل ادخلوه ركعا. ومنهم من يسجد على جنب كاليهود، فالسجود اسم جنس ولكن لما شاع سجود الآدميين المسلمين صار كثير من
(1)
المصدر السابق: 1/ 44.
(2)
المصدر السابق: 1/ 44.
(3)
البقرة: 58.
الناس يظن أن هذا هو سجود كل أحد"
(1)
.
وقال ابن القيم رحمه الله في الرد على من قال أن تسبيح الشجر وورقه هو دلالته على صانعه فقط، بعد أن بين الحكمة في خلقها وأنها ساجدة لله مسبحة بحمده: " وكلها ساجدة لله مسبحة بحمده، قال تعالى:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}
(2)
، ولعلك أن تكون ممن غلظ حجابه فذهب إلى أن التسبيح دلالتها على صانعها فقط، فاعلم أن هذا القول يظهر بطلانه من أكثر من ثلاثين وجها قد ذكرنا أكثرها في موضع آخر، وفي أي لغة تسمى الدلالة على الصانع تسبيحا وسجودا وصلاة وتأويبا وهبوطا من خشيته، كما ذكر تعالى ذلك في كتابه فتارة يخبر عنها بالتسبيح وتارة بالسجود وتارة بالصلاة، كقوله تعالى:{وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}
(3)
، افترى يقبل عقلك أن يكون معنى الآية قد علم الله دلالته عليه، وسمى تلك الدلالة صلاة وتسبيحا، وفرق بينهما وعطف أحدهما على الأخر، وتارة يخبر عنها بالتأويب، كقوله:{يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ}
(4)
، وتارة يخبر عنها بالتسبيح الخاص بوقت دون وقت كالعشى والإشراق، أفترى دلالتها على صانعها إنما يكون في هذين الوقتين، وبالجملة فبطلان هذا القول اظهر لذوي البصائر من أن يطلبوا دليلا على بطلانه والحمد لله"
(5)
.
(1)
المصدر السابق: 1/ 27 - 28.
(2)
الإسراء: 44.
(3)
النور: 41.
(4)
سبأ: 10.
(5)
مفتاح دار السعادة: 1/ 347 - 348.